ما هي آخر أخبار الإنسان في هذا العالم؟ للاجابة عن هذا السؤال قد يكون في وسع المرء أن يقرأ صحف العالم، أو يشاهد محطاته التلفزيونية، إن لم يكن ذا قدرة جبارة تمكنه من زيارة شتى أنحاء هذا العالم. لكن هذا سيبقي المرء على ظمئه، لأن هذه الأنواع من الإطلال على العالم، لن تمكن المرء من مشاهدة ما هو أعمق من السطح الخارجي لشؤون الانسان وشجونه. فما العمل؟ العمل هو الجلوس أمام الشاشة الكبيرة ومشاهدة آخر ما حققه مبدعو الفن السابع المنتمون الى بلدان العالم. وربما بخاصة الى بلدان لم يعهد فيها ضخامة الانتاج السينمائي وعراقته، بل صعوبة الفرص التي تتيح للمبدع في الفن السابع ان يحقق فيلمه. إذ مع تلك الندرة وهذه الصعوبة، يحرص هذا المبدع، عادة، على ان يضمن ما يحقق من أفلام قليلة، قدراً كبيراً من الصدق في تعبيره الشخصي عن الحياة. والنتيجة تكون عادة، مماثلة لما نرى حتى اليوم وقد وصلت الدورة الخامسة لمهرجان مراكش السينمائي الى أيامها الأخيرة. إذ حين تصل هذه السطور الى القارئ، سيكون قد بقي لعروض المهرجان يومان، قبل إعلان نتائج المسابقة الرسمية، التي هي التظاهرة الأساس في المهرجان. ومع هذا، على رغم الأسئلة والتكهنات، لا يبدو ان ثمة اهتماماً كبيراً حقاً بمعرفة من سيفوز. الاتجاه الرئيس هو متابعة ما يعرض بدقة... لأن ما يعرض فيه، عموماً، بعض الاجابة عن السؤال حول آخر أخبار الانسان. قيم خيبة وعائلات وعموماً، اذا نظرنا الى أخبار الانسان من خلال الأفلام المعروضة في مراكش سنكتشف في المقام الأول انسان عصرنا هذا متصارعاً مع القيم العائلية، باحثاً عن الصداقة، مرتعباً أمام احتمال فقدانه عمله، خائب المسعى ازاء وعود لم تتحقق وعالم يزداد عنفاً وشراسة، وپ"آخر"يزداد ضراوة. ترى، يسأل المرء، أين راحت حكايات الحب الرومانسية؟ أين ذهب الأبطال المحملون بالطموحات؟ "كريزي"... وهو فيلم من كندا، قد يكون أفضل ما عرض حتى الآن في مراكش، ثمة"ساغا"عائلية تمتد على مدى ثلاثين عاماً، محورها أسرة فيها خمسة صبيان وأم خانعة وأب بات عاجزاً تماماً عن فهم ماذا يريد أبناؤه وهم يكبرون أمام عينيه. انها صورة قاسية لمشهد عائلي نمطي، محطاته أعياد الميلاد واحتفالات الزواج وفقدان التواصل الحقيقي بين الأفراد. الجديد هنا، تلك اللغة النابضة التي استخدمها مخرج الفيلم مستفيداً من آخر تجديدات الفيديو كليب، ومن توليف ساير موضوعه الذي يلامس كل ما هو خطر في حياة انسان اليوم. وفي الفيلم السوري، المميز، لمحمد ملص"باب المقام"، هناك أيضاً الحياة العائلية، ولكن في مدينة حلب ومن خلال ما يشبه وقائع الموت المعلن لامرأة كان كل ذنبها انها تسمع أغاني أم كلثوم، ما أثار شكوك الأهل والأخوة، فتضافرت العائلة لتنفيذ حكم الإعدام بالكائن - المرأة - الذي يبدو اليوم محط اسقاطات كل احباطاتنا العربية. والعائلة أيضاً في الفيلم التشيخي"مدينة الشمس"، من خلال محاولة أربعة عمال طردوا من المصنع ويحاولون ان يبنوا مشروعهم الخاص. من خلال بناء هذا المشروع الذي ينتهي الى الفشل، يغوص"مدينة الشمس"في حياة العائلات الأربع. وهو ما يفعله فيلم اسباني عنوانه"الضربات"في الجهة المقابلة: اذ يقدم الحياة المرتبكة والخائبة لخمس فتيات بسيطات يحاولن بدورهن بناء حياة أكثر جدوى وطموحاً... فتيات مدريد هاته ينجحن الى حد ما، لكن الثمن يبدو مرتفعاً. حياة السينما الطويلة في المقابل ينجح"أليكس"في الفيلم الفرنسي الذي يحمل اسمها عنواناً له، في بناء البيت الذي تسعى الى بنائه. الثمن بالنسبة اليها ليس مرتفعاً. فقط هناك عزلتها وافتقارها الدائم الى الحنان. والحنان هذا شيء لا يعرفه ولا يسعى اليه، حتى، الطفل محمد العربي، الذي يبدو في صورة الأنا - الآخر لمؤمن السميحي، مخرج فيلم"العايل"المتحدث، عبر صورة جميلة، ولكن بإيقاع مضجر عن طفولته في طنجة وتوزع حياته بين أب متزمت، ومجموعة نساء يعشن الحياة بكثافة أكثر. طبعاً هذا ليس ما عرض في هذه الدورة الغنية - بالأفلام - والسيئة - بالتنظيم -، وهي الخامسة لمهرجان"مراكش"... لكنه نماذج لسينما تزداد التصاقاً بالحياة وهموم انسان هذه الحياة. والغريب الغريب في الأمر كله هو أن الجمهور، إذ ازداد عدداً وحضوراً يوماً بعد يوم في قاعات"قصر المؤتمرات"الفخم وسط مراكش، لم يبال بما اذا كان هناك نجوم يقومون بالأدوار الاساسية في هذه الأفلام. والحقيقة ان احداً لم يتنبه حقاً لما اذا كان هناك نجوم كبار وحقيقيون على الشاشة. طبعاً كانوا حاضرين في الافلام القديمة التي عرضت هنا على شكل تكريمات في عدد كبير من أفلام استعرضت تاريخ السينما الاسبانية، وكذلك في أفلام قدمت تاريخ سينما مارتن سكورسيسي الذي حضر في المهرجان بقوة... على تلك الشاشات القديمة كان هناك كاترين دونوف وروبرت دي نيرو وكثر من هذا المستوى الأول. ولكن على الشاشات الجديدة لا شيء من هذا. ومع ذلك لم يغيبوا عن مراكش، فهم هنا ضيوف شرف، يملأون الساحة الفسيحة بين فنادق المهرجان وقاعات عروضه. وحفلات الصخب الليلية. وبرامج الحوارات التلفزيونية... كما يملأون بتوقيعاتهم دفاتر وأوراق المعجبين. ومن الضيوف الكبار كاترين دونوف التي بدت متألقة صبية منذ مشاركتها الأساسية في سهرة الافتتاح، وحميدو وميشال بلان وهند صبري وجان - جاك آنو وفكتوريا آبريل. غير ان نجم النجوم كان، من دون منازع مارتن سكورسيسي، الذي تفاعل الجمهور حتى مع ثرثرته التي لم تتوقف حين كرم في ليلة الافتتاح. وكيف لا يتفاعل جمهور مراكش مع واحد من أكبر سينمائيي العالم، وقد جاء، ليس فقط لينال تكريماً ملكياً في هذا البلد الذي صوّر فيه بعض أفلامه و"أحببته كثيراً"كما قال، وليس فقط ليعرض بعض أروع أفلامه، بل أيضاً ليهتم شخصياً بدورة تدريب سينمائية تضم 16 شاباً وشابة من المغرب ألقى عليهم طوال أيام المهرجان محاضرات في السينما، على أمل أن يواصل الاهتمام بتدريبهم هنا محلياً، ومن ثم يساعد على انتقالهم الى الولاياتالمتحدة حيث يتابعون دورة تدريب مكثفة؟ كان واضحاً ان هذا يشكل جزءاً من هوس سكورسيسي بالفن السابع. وهو هوس معد بالتأكيد... شاركه فيه، في"مراكش"هنا"صديقه"عباس كياروستامي، الذي كرم بدوره... وشاء، من تلقائه أن يشارك سكورسيسي الاشراف على الدورة الاستثنائية التي سيستفيد منها سينمائيو الغد في المغرب. ولكن هل هناك حقاً غد للسينما؟ الحقيقة ان من يتابع دورة مراكش لهذا العام، سيطلع بيقين واحد وهو ان المهرجان إذ يعرض أفلام العالم، وأحوال العالم، يقول كم ان السينما لها حياة طويلة أمامها بعد...