بعد نوبة جنون الطبيعة والفيضانات التي ضربت المغرب وأوقعت قتلى وجرحى، بدت الطبيعة وكأنها متواطئة مع مهرجان مراكش السينمائي الدولي لاستقبال نجوم الفن السابع أفضل استقبال. الغيوم الشديدة السواد اختفت لتحلَّ محلَّها شمس ساطعة تعكس أضواءها البيوت الحمراء. والريح القوية استحالت نسيماً منعشاً عبقت به عاصمة النخيل طوال الأيام التسعة من المهرجان الذي يُختتم غداً ويُوزع جوائزه على الفائزين. إنه العيد العاشر لمهرجان كبير بطموحاته. وفي الأعياد، لا مكان للنوبات، هذا في الظروف الطبيعية، فكيف حين يكون صاحب العيد واحداً من أكثر المهرجانات العربية التي عرفت كيف توازن على امتداد الأعوام العشرة بين الطابع الاحتفالي والطابع السينمائي؟ مهرجان يليق به ان تمرّ أيامه التسعة بأبهى حلّة مع مرور ضيوفه على السجادة الحمراء ليحيُّوا الجمهور المراكشي الواقف على ناصية الطريق (من كيانو ريفز الى ايفا مانديس وكاترين دونوف وصوفي مارسو وماريون كوتيار وسوزان ساراندون وجايمس كان وجاد المالح). وجمهور يستحق ان يشاهد عروض الأفلام المجانية التي تقام في الهواء الطلق في ساحة جامع الفنا الشهيرة، والتي تستقطب كل سنة نحو 20 ألف متفرج. جمهور من شأن وجوده، وحده، ان يغفر للمهرجان كل زلاّته. من صالات العروض المليئة بالمشاهدين في اي وقت كان، الى طوابير الراغبين في الحصول على بطاقات دخول منذ ساعات الصباح الأولى، الى الندوات التي لا تجد فيها مكاناً للجلوس... من دون ان ننسى نجوم المغرب الذين لا يكتفون بالتمايل على السجادة الحمراء ثم يختفون، كما يحدث مع غالبية الفنانين العرب في مهرجانات بلادهم، إنما تجدهم في الصفوف الأمامية في عروض الأفلام، من يونس ميجري، الى لطيفة أحرار، ومحمد مجد، وهشام بهلول... وسواهم الكثير. بين المدينة والمهرجان امام هذا المشهد، لا يسعك الا ان تتذكر الصالات الفارغة في كثير من عروض المهرجانات الخليجية، وغير الخليجية أحياناً... والندوات التي يستنجد القائمون عليها أصحابهم للمشاركة فيها... وخُلُوّ السجادة الحمراء أثناء عبور المشاهير الا من المصورين والصحافيين... هنا يشي التفاعل بين المهرجان والمدينة بأنك امام مهرجان حقيقي، وهنا أيضاً تفهم ان من أسباب تخبُّط المهرجانات الخليجية عدم قدرتها حتى الآن على خلق جمهورها. ولكن، هل فعلاً تراعي الدورة العاشرة من مهرجان مراكش ذوق هذا الجمهور، ام انها تأخذه الى المكان الذي تريده مطمئنة الى وفائه وحبه للسينما؟ يذكر المتابعون للمهرجان ان واحدة من اكثر الدورات نجاحاً كانت تلك التي خصّ فيها السينما المصرية بتكريم. ثم أتت الدورة الماضية بفيلمين مصريين، واحد في المسابقة الرسمية («هليوبوليس» لأحمد عبدالله)، والثاني في عروض خارج المسابقة («احكي يا شهرزاد» ليسري نصرالله)، قبل ان تحدث القطيعة هذا العام، ليس مع السينما المصرية وحدها، ولكن مع السينما العربية ككل. فكيف يمكن لمهرجان عربي ألاّ يجد فيلماً عربياً واحداً ليعرضه ضمن تظاهراته باستثناء فيلم مغربي ضعيف المستوى بعنوان «أيام الوهم»، هو باكورة أفلام طلال سلهامي، الروائية الطويلة؟ ثم، إذا عجزت إدارة المهرجان عن ايجاد أفلام عربية تتوفر فيها شروط المسابقة، لماذا لم نر خارج المسابقة افلاماً عربية لفتت النظر خلال الشهور الخيرة ويستحق جمهور مراكش ان يراها، مثل «مرجلة» للبناني السويدي جوزيف فارس، أو «حاوي» للمصري ابراهيم بطوط، الفائزين في الدوحة، أو حتى فيلم اللبناني بهيج حجيج «شتي يا دني» الفائز في ابو ظبي؟ قد تكون حجة المهرجان انه لا يريد ان يعرض فيلماً سبق وعُرض في مهرجان عربي آخر، وهذا حقه... ولكن، ألم يعرض مراكش العام الماضي فيلمي «ميكروفون» و «احكي يا شهرزاد» بعد عرضهما في مكان آخر؟ ثم، هل يكفي ان يختار الفنانة المصرية يسرا في لجنة تحكيم المسابقة الروائية الطويلة، والفنانة الفلسطينية هيام عباس في لجنة تحكيم الأفلام القصيرة، وان يستقبل نجوماً من مصر (حسين فهمي وداليا البحيري وهاني رمزي) لسد ثغرة الغياب العربي؟ وماذا عن مشاركة هؤلاء، الا يُفهم منها موقف من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي تقاطعت ايامه وايام مهرجان مراكش؟ إذا استثنينا يسرا، المُوْكَل اليها مهمة التحكيم، فإن وجود حسين فهمي - مثلاً - في مراكش يُستدل منه ان القلوب لم تَصْفُ بعد بينه وبين المهرجان القاهري الذي شارك في افتتاحه قبل ايام للمرة الأولى بعد قطيعة منذ ابتعاده عن رئاسته. وبصرف النظر عن العلاقة بين المهرجان القاهري ونجومه، فإن السؤال القديم الجديد ذاته يعود الى الواجهة: ألم يحن الوقت بعد للتنسيق في ما بين المهرجانات العربية كي لا تتداخل مواعيدها؟ «ولكن من قال ان مهرجان مراكش مهرجان عربي؟»... سؤال يطرحه كثر من الحاضرين في المدينة الحمراء. ويستندون الى التفوق الفرنسي على كل ما عداه، سواء في الإدارة او التنظيم او اختيار الأفلام. كما ان الدورة العاشرة، وإذ تكرّم المنتج الفرنسي الراحل دانيال توسكان دي لا بلانتييه، الذي ولدت على يديه فكرة المهرجان بمبادرة من الملك محمد السادس، تبدو وكأنها أرادت ان ترسخ تلك القناعة. ومن هنا أيضاً تكريم السينما الفرنسية في هذه الدورة الاحتفالية، وإهداؤها نجمة المهرجان (سلمها المخرج مارتن سكورسيزي للمخرج كوستا كافراس والممثلة كاترين دونوف). غير ان السينما الفرنسية لم تكن حاضرة وحدها في المهرجان ، حيث وكما جرت عادته، اجتذب مهرجان مراكش – ولا سيما في مسابقته الرسمية- عدداً لا بأس به من افلام اوروبية وآسيوية بدا بعضها لافتاً، فيما مرَّ البعضُ الآخر مرور الكرام. غير أن الافلام اللافتة لم يكن بينها، حتى كتابة هذه السطور على الأقل، «تحف» ولو صغيرة من تلك التي اعتاد المهرجان المراكشي ان يفاجئ بها جمهوره في الأعوام السابقة، فتصبح من بعد عرضها الأول فيه حديث اهل الفن السابع لشهور. ومع هذا يمكن على سبيل المثال التوقف عند بعض الجديد الذي تجلّى في المسابقة، مثل الفيلم الآتي من ايطاليا («حياة هادئة» لكلوديو كوبليتي)، او ذاك الآتي من أستراليا («مملكة الحيوان» لدافيد ميشود)، او بلجيكا («ماريك... ماريك» لصوفي شوكنس)، او سريلانكا («كارما» لبراسانا جاياكودي)، او الدانمرك («روزا مورينا» لكارلوس دي اوليفيرا)، او روسيا(«الحافة» لألكسي اوشيتيل)، او كوريا الجنوبية («مذكرات ميوزن» لبارك جونغبوم) وغيرها، دون ان ننسى طبعاً إطلالة الممثل الأميركي البارز فيليب سايمور هوفمان في تجربته الاخراجية «جاك يبحر في مركبه». والحال انه بصرف النظر عن تقييمنا لأي من هذه الافلام، تبقى اهمية «مراكش» في كونه عرف كيف يستقطبها في تنوعها، من دون ان يسهى عن بالنا مرة أخرى، ان ليس هناك حتى الآن فيلم كبير يشغل المناقشات وأروقة المهرجان مغطياً على حديث الحضور الفرنسي الطاغي او الغياب العربي الأكثر لفتاً للنظر! ولكن، في مقابل الغياب العربي والحضور الفرنسي- الفرنسي، لا يغيب المغرب عن هذه الدورة. ولا نقصد هنا مشاركته في المسابقة عبر فيلم «ايام الوهم» الحافل بمشاهد دم مجانية وأفكار مستنسخة من السينما الأميركية. ولكن، من خلال استحداث تظاهرة «سينما المدارس» ومباراة الفيلم القصير لطلاب المعاهد ومدارس السينما في المغرب، وقيمتها 300 الف درهم، منحها رئيس مؤسسة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش مولاي رشيد للرابح (فازت بها محاسن حدشي من المدرسة العليا للفنون البصرية في مراكش)، على ان يظل هذا المبلغ، تحت إدارة المهرجان،لإنتاج الفيلم القصير الثاني لصاحب الجائزة. ويشير القائمون على المهرجان الى ان الهدف من هذه التظاهرة هو «دعم المواهب الشابة وتحفيزها على الإبداع في المجال السينمائي، ومنحها فرصة الإدماج المهني، والاستئناس بأجواء وفضاءات ودهاليز الفن السابع». طبعاً مثل هذه التظاهرة تقف جنباً الى جنب الدعم الذي تحظى به السينما المغربية من مؤسسة السينما، والتي مكّنتها من ان تصبح صناعة، يصل معدل انتاجها في السنة الى نحو 18 فيلماً روائياً طويلاً. ولا شك في انها ستوفّر بيئة حاضنة للسينمائيين الشباب الذين يشقون طريقهم في عالم الفن السابع، وتساعدهم على إيجاد السبيل لولوج هذا العالم الحافل بالصعاب. معلم لم يترك مقاعد الدراسة وللطلاب أيضاً، وفّرت الدورة العاشرة فرصة لقاء أربعة من كبار مخرجي الفن السابع ضمن ما بات يعرف باسم «ماستر كلاس»، هم: الأميركي فرانسيس فورد كوبولا، والبلجيكيان جان بيار ولوك داردن، والكوري الجنوبي لي شونكدونك. وكم بدا صاحب «العراب» و «القيامة الآن» و «تيترو» معلماً بحق، حين قاطع محاوره الذي كان يسأله عن السبيل الأفضل لتحقيق الأفلام قائلاً: «انا هنا لأستمع الى أسئلة الطلاب وأشاركهم خبرتي». ولم يخف كوبولا حماسه وهو يردّ على أسئلة الطلاب. اما الدرس الذي وجّهه إليهم، فاختصره بعبارة: «تعلموا، تعلموا، ولا تملّوا من طلب المعرفة»، من دون ان يتردد في القول انه لا يزال حتى الآن تلميذاً على مقاعد الدراسة. وحين سألته إحدى الطالبات عن كيفية التخلص من تأثير المخرجين الآخرين على جيلها وصناعة أفلام تشبههم، فاجأ كوبولا الجميع قائلاً: «لا تخشوا من سرقة أفكار سواكم، لأن طريقكم سترتسم وحدها»، منبهاً الى ان السينما لا تدرّ المال الوفير على صاحبها، من هنا ضرورة ان يكون لهم عمل مواز، كما فعل هو بامتلاكه معملاً لصناعة النبيذ. ولا تقف مبادرات المهرجان عند هذا الحدّ، إنما يقدم أيضاً للسنة الثالثة على التوالي مبادرة «الكلمة من أجل المشاهدة»، متوجهاً بها الى المكفوفين من خلال افلام بتقنية الوصف السمعي، تمكنهم من متابعة الافلام من خلال وصف لفظي للمشاهد والمقاطع المرئية الثابتة او المتحركة. كما يحفل برنامج التكريمات بأسماء نجوم كبار، مثل: جيمس كان، هارفي كيتل، كيوشي كوروساوا، عبدالرحمان التازي، والعربي الدغمي. فإذا اضفنا هذا الى البرنامج الذي يضم افلام المسابقة ال 15 التي امتازت بتنوعها الجغرافي، وبخاصة بكون بعضها قدّم افلاماً من بلدان غير رائجة سينمائية أكثر من تميزها ببعدها السينمائي، يمكننا ان نقول ان دورة هذا العام حافظت بشكل او بآخر على ماء الوجه. ولا شك في ان توقيت المهرجان في الشهر الأخير من العام بعد ان تكون المهرجانات العربية الأخرى قد خطفت الأفلام التي لفتت الأنظار في المهرجانات العالمية، وقبل مهرجان برلين الذي يبقى حلماً جميلاً لأي سينمائي، ساهم في فقر المسابقة الرسمية. لذا يأتي التعويض غالباً في الاستعادات التي تتضمن أفلاماً من روائع الفن السابع، وفي التظاهرات الموازية. في النهاية، يبقى سؤال الهوية في واجهة الأسئلة المطروحة على المهرجان: هل هو احتفال عربي يستعين بخبرة فرنسا؟ ام هو احتفال فرنسي يقاطع العرب على أرض عربية؟