تشهد دول المنطقة نمواً اقتصادياً قوياً مدعوماً بارتفاع أسعار النفط، وزيادة النفقات الحكومية وتوسع الائتمان المصرفي وتركيز القطاع الخاص على زيادة استثماراته في الأسواق المحلية، والذي انعكس في ارتفاع معدلات الاستهلاك والاستثمار ووصولهما إلى مستويات غير مسبوقة. وكما هو متوقع، صاحب هذا الانتعاش الاقتصادي ارتفاع في مؤشرات غلاء المعيشة وزيادة كبيرة في أسعار الأسهم والعقارات. ولمواجهة هذه الضغوطات التضخمية أخذت البنوك المركزية في دول المنطقة أخيراً تتبع سياسات نقدية أكثر تشدداً، يتوقع لها أن تبقى حيز التنفيذ خلال المرحلة المقبلة. فبعد أن تمكنت السلطات النقدية من تقليص الفارق بين أسعار الفائدة المحلية وتلك التي على الدولار لتصل إلى أدنى مستوياتها في بداية هذا العام، عاد هذا الفارق واتسع أخيراً. والسبب في ذلك يعود إلى التوقعات بأن معدلات التضخم المحلية، والتي هي على ارتفاع، قد تصبح أعلى من مثيلاتها في الولاياتالمتحدة. واتسع الفارق أخيراً بين معدلات الفائدة على العملات المحلية وبين تلك التي على الدولار. إلا أنه، وخلال الشهور ال 18 الماضية، شهدت معدلات الفائدة على العملة الأميركية والتي ترتبط بها معظم أسعار صرف عملات دول المنطقة، ارتفاعاً أيضا، مما سهل الأمر على السلطات النقدية الخليجية لتطبيق سياسات نقدية أكثر تشدداً. تفاوتت معدلات التضخم في دول المنطقة خلال الشهور التسعة الأولى من هذا العام. إذ تشير الأرقام الرسمية إلى أنها اقل من 2 في المئة في المملكة العربية السعودية، و3.3 في المئة في البحرين، و4.2 في المئة في الكويت، و5.2 في المئة في دولة الإمارات العربية المتحدة، و5.7 في المئة في الأردن و6.1 في المئة في قطر. وعلى رغم عدم ارتفاع أسعار الوقود في الأسواق المحلية لكل من المملكة العربية السعودية والكويتوقطر، إلا أنها سجلت زيادة بنسبة 32 في المئة في دولة الإمارات العربية المتحدة و20 في المئة في الأردن. وفي حين ارتفعت الإيجارات بنحو 35 في المئة في دولة الإمارات العربية، إلا أنها سجلت ارتفاعاً هامشياً في بقية الدول التي لم يتم فيها بعد تحرير سوق الإيجارات. وهناك مؤشرات غير رسمية تشير إلى إمكان أن تكون معدلات التضخم في دول المنطقة أعلى من تلك المذكورة في التقارير الرسمية. واستنادا الى دراسة مؤشر ثقة القطاع الخاص في دول الشرق الأوسط التي أجراها مصرف HSBC، يشعر 70 في المئة من رجال الأعمال الذين تمت مقابلتهم بأن تكلفة المعيشة في الدول التي يعملون فيها ارتفعت بمعدلات تجاوزت 20 في المئة خلال الشهور الاثني عشر الماضية. وهناك أيضا تأثير لارتفاع الأجور والرواتب على معدلات التضخم. إذ قام أخيراً الكثير من مؤسسات القطاع الخاص بزيادة الرواتب لديها، كما منح معظم الحكومات الخليجية زيادة في الرواتب ومكافآت مالية لموظفي القطاع العام. وارتفعت هذه الرواتب بنسبة 15 في المئة في المملكة السعودية وفي دولة الإمارات 25 في المئة للمواطنين و15 في المئة للوافدين، بينما قامت دولة الكويت بمنح مكافآت للمواطنين الكويتيين في حدود 680 دولاراً. ومثل هذه الزيادات والمكافآت المالية لا بد وان تولد طلباً إضافياً في الأسواق المحلية وزيادة محتملة في الأسعار. والذي زاد من معدلات التضخم أيضا ارتفاع أسعار الواردات من أوروبا والمملكة المتحدة واليابان بسبب تراجع أسعار صرف عملات دول الخليج والدولار مقابل اليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني خلال الشهور الاثني عشر الماضية. اضافة إلى التوسع الكبير في الإقراض خصوصاً لتمويل الاستهلاك consumer finance. وأدى توافر السيولة الفائضة في أسواق دول المنطقة وعودة بعض رؤوس الأموال من الخارج، إلى ارتفاع أسعار الأسهم والعقارات بشكل كبير أخيراً. وشهدت أسعار الخدمات أيضا ارتفاعاً جراء زيادة الطلب المحلي. إذ أن معظم شركات الخدمات تقوم بتحميل التكلفة الإضافية في العمالة والوقود الى زبائنها، التي انعكست على معدلات التضخم. وأدى ارتفاع تكلفة الإنشاءات الى زيادة أسعار المنازل والشقق السكنية التي ستنعكس عاجلاً أم آجلا على الإيجارات. وعندما يحدث ذلك فان تأثيره سيكون واضحاً على معدلات غلاء المعيشة لأن الإيجارات لها وزن مرتفع يصل إلى 30 في المئة في مؤشر أسعار المستهلك. ويجب عدم الاستهانة بتأثير زيادة ثروة المستهلك على معدلات الأسعار المحلية. فالارتفاع الكبير الذي طرأ على أسعار الأسهم والعقارات خلال السنوات الثلاث الماضية منح المستهلكين زيادة في قدرتهم الشرائية، ما شجعهم على رفع معدلات استهلاكهم وأدى إلى زيادة الطلب وارتفاع أسعار السلع والخدمات في الأسواق المحلية. وعلى رغم أن دخل هؤلاء لم يتغير بالضرورة، إلا أن الزيادة في ثروتهم، سواء كانت زيادة دفترية أم واقعية، جعلتهم يشعرون بأنهم أكثر ثراء، وبالتالي أصبحوا أكثر استعداداً للإنفاق. وأدى ارتفاع الطلب هذا إلى زيادة كبيرة في الواردات كما تظهر أرقام التجارة الخارجية لدول المنطقة. ويتوقع أن تبقى السياسات المالية لدول المنطقة توسعية لعام 2006، وان تظهر الموازنات لعام 2006 فوائض إضافية وزيادة في النفقات الحكومية، سواء الجارية منها أو الاستثمارية. وفي المقابل ستبقى السياسة النقدية المتبعة متشددة مع توقع زيادة مضطردة في معدلات الفائدة المحلية، تماشياً مع ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار. ووصلت أخيراً أسعار الفائدة على الودائع الشهرية في عدد من دول المنطقة إلى نحو 4 في المئة، غير أنها ما زالت اقل من معدلات التضخم في بعض هذه الدول، أي أن أسعار الفائدة الحقيقية على الودائع بعد خصم معدل التضخم ما زالت سالبة. وهذا يتطلب الإبقاء على السياسة النقدية المتشددة للعودة بأسعار الفائدة الحقيقية إلى معدلاتها الطبيعية. ومثل هذه السياسة ستخفف من الضغوط التضخمية وتساعد على امتصاص فائض السيولة وتجعل من عمليات شراء الأسهم على الهامش من طريق الاقتراض من المصارف margin trading أكثر كلفة وهذا سيقلص من عمليات المضاربة في أسواق أسهم دول المنطقة. إن البنوك المركزية والسلطات النقدية لدول المنطقة تحظى بتقدير واحترام الأسواق المالية، لذلك فان أي توجه تأخذه هذه السلطات سيجعل غالبية المستثمرين يصغون باهتمام ويعيدون النظر بسياستهم الاستثمارية وسيجد الكثير من المضاربين في أسواق الأسهم ان من الأفضل لهم عدم السير بعكس توجهات السلطات النقدية. وإذا ما ارتفعت أسعار الفائدة على العملات المحلية بشكل أسرع مما هو متوقع، فان هذا سيغير من نظرة المستثمرين لدرجة المخاطرة، مقارنة بالعائد المتوقع وسيشجعهم بالتالي على الادخار وخفض الاستهلاك. وهناك دائماً إمكان حصول تباطؤ في النمو الاقتصادي من جراء إتباع سياسة نقدية متشددة، غير أن معدلات النمو الاقتصادي في معظم دول المنطقة ستبقى مرتفعة وتفوق 10 في المئة في بعض الحالات. لذا فان أي تباطؤ في معدلات النمو سيساعد في التخفيف من الضغوط التضخمية التي بدأت تظهر على القطاعات الإنتاجية وأسواق الأسهم والعقارات في دول المنطقة. الرئيس التنفيذي أموال إنفست.