حضر الرؤساء الى نيويورك ولم يحضر واجبهم. وصلوا جاهزين للتوقيع على"المنبر"المطلوب كإطار جديد لعمل الأممالمتحدة، غير أن الوثيقة لم تكن جاهزة. أمروا الوزراء بايجاد بدل عن ضائع. تسارعت عمليات الكي والطي. لا داعي للدخول في توسيع مجلس الأمن الآن. لجنة حقوق الإنسان يمكن استمرارها مع تبديل في الاسم فقط. تعريف الإرهاب حول قتل المدنيين أو مقاومة الاحتلال لكن التفاهم عليه في حوار لاحق. التدخل للمساندة الإنسانية ممكن بتّه لاحقاً خلال حوار معمّق. المحكمة الجنائية الدولية ضرورية جداً لكن عندما يحين الوقت المناسب. التنمية والفقر والمرض وآفات يجب القضاء عليها بالطبع، إنما على الدول الغنية أن تدفع بالتي هي أحسن، كما أن على الدول الفقيرة أن تعرف كيف تقبض. أي على حد قول أحد رؤساء جمهورية لبنان:"الغني من الله، والفقير من يده". الرؤساء يوقعون فقط على الوثائق لكنهم يقرأون الصحف. قالوا في ما بينهم - وهم على حق - إنه كان يجب تدبير أمر نقاط الخلاف قبل أن يصلوا الى أبواب الأممالمتحدة تحت أضواء الإعلام. فالمنبر الوحيد المطلوب منهم الوقوف عليه هو ذلك الذي تُلتقط لهم عليه الصورة الجماعية للتوزيع من خلال الوفد المرافق، الباقي متروك للأعضاء. الرؤساء تهمهم التفاهمات العامة لا نقاط البحث. في مطلع الألفية، عند طرح مطالب محاربة الإرهاب من جهة واحتياجات التنمية من جهة أخرى فَهِم أكثرهم أن المعادلة الجديدة هي: خذوا المساعدات المالية وأعطونا المساندة الأمنية. ولعلهم تبينوا في ما بعد أنه ليس هناك حساب أخذ وعطاء، بل طريق واسع في اتجاه واحد تهرع عليه القوافل أو تهرول اليه أو يحدث أن تتباطأ للتفاوض فتصبح خارج الركب. الأمن مقابل الآمان. كانت اقتراحات"المنبر"قد طرحت في باقة واسعة استحضر الأمين العام كوفي أنان من أجلها البروفسور الأميركي بوب آدر كمساعد للمهمات الاستراتيجية. ربما تصور أن ذلك يضمن له جانب واشنطن. ولعله كان متفائلاًَ أكثر من الواقع عندما قال للرئيس جاك شيراك في باريس وللقادة الأوروبيين في بروكسيل خلال الربيع الماضي إن القطار قد انطلق من المحطة. فقد برزت مشكلة الوقت والتوقيت، لأن"استراتيجية المنبر"انطلقت مع أخبار فضائح"النفط مقابل الغذاء"، مما أثار بعض التساؤل. لكن الأهم أن تلك السلسلة المتلاحقة بدأت تأكل من هيبة الأمين العام وتخفض من مصداقيته، بل تأخذ من الوقت والتركيز المطلوب منه على تلك الاقتراحات. ثم أنه لم يكن من الحكمة طرح توسيع مجلس الأمن علناً من دون ترتيبات هادئة مسبقة، مهما كان ضغط المانيا واليابان عليه، لاستكشاف إمكانات التنفيذ، خصوصاً ان الموضوع مطروح منذ سنوات من دون نتيجة عملية ولا بد أن يكون ذلك لأسباب محددة. ثم أن لا يد له ولا حول في عضوية مجلس الأمن. كانت النتيجة إثارة معارك جانبية مع وبين أطراف كان يمكن أن تتحالف حول أكثرية المسائل الأخرى. بانتظار التوافق، اعتمدت الدول على صاحب المبادرة وهو بدوره استبشر باهتمام بعض المندوبين المعتمدين لديه وتوزع بعضهم الى"فرق عمل"تلتقي بين الحين والآخر حول فنجان قهوة أو دعوة عشاء حسب حماسة السفير المختص. إنما بدا واضحاً خلال فترة الصيف التي يفصل عن القمة غياب أية قيادة ثابتة أو مرجعية مثابرة للعمل المطلوب. الأمن العام، وأكثرية كبار الموظفين كانوا في معظم الوقت في الخارج. وتُرك الأمر لرئيس دورة الجمعية العامة المشرفة على الانتهاء، وزير خارجية الغابون"مسيو بينغ"الذي لا شك بأنه قام بكل ما يستطيع أيام آب اغسطس اللهاب. فكان وحده يتنقل بين قاعات المبنى وهو يتصبب عرقاً، داعياً الى اجتماعات متواضعة الحضور محدودة النتائج. وعندما وصل الرؤساء لم يكن هناك ما يمكن الاجماع عليه، فكانت صياغة بريطانية الأسلوب يفسرها من يشاء كما يشاء. ثم اعيد اطلاق نداء عام 2000 حول أهداف التنمية. الرؤساء في مثل اجتماعات القمة يستأنسون باللقاءات الثنائية والمقابلات والدعوات المتبادلة. وليس من السهل على أي وزير أن يعكر المزاج بالايضاح بأن الملايين التي ماتت من الجوع منذ اطلاق النداء قد ازدادت بدل أن تنقص، وأن حوالي نصف مليون امرأة تموت سنوياً خلال التوليد الخاطئ، وأن الملاريا هي القاتل الأوسع للأطفال في افريقيا من دون جهد متقدم للعلاج، وأن ثلثي أطفال العالم لا يجدون الماء الصالح للشرب. وهذا تراجع قاتل لا تقدم يذكر. ولا يجرؤ أي سفير على القول إن"أهداف الألفية للتنمية"إنما هي شعارات إعلامية لم تحقق ولم يخطط لها كي تحقق أي نجاحات عملية في الميدان الحقيقي، أما من يشتط به الخيال فيقترح استبدال قمة من هذا النوع وتحويل الخمسة بلايين دولار من نفقاتها الى مشروع انمائي محدد لمساعدة فقراء العالم، فسيجري تحويله هو الى مسؤول سابق. في أي حال، أيها السادة، خسرنا المنبر وربحنا وجودكم. والصورة وحدها تكفي. مسؤول سابق في الأممالمتحدة.