"الدهام" و"فيريرا" يكملان قائمة تحدي الخيالة الدولي بكأس السعودية 2025    القاتل الثرثار!    وفاة ناصر الصالح    هل تنجح قرارات ترمب الحالية رغم المعارضات    العنزي يحصل على درجة الدكتوراة    منتدى مستقبل العقار    قوة التأثير    اقتناص الفرص    الغامدي ينضم الى صفوف نيوم على سبيل الاعارة    الخليج يعلن التعاقد مع النمساوي توماس مورغ    النصر يبدع في القصيم    دمبلينغ ينتصر على دا كريزي في "Power Slap" ويهيمن على الوزن الثقيل جداً    نيوم يعير آل سعد الى دانكيرك الفرنسي    مواعيد إقلاع الطائرات.. «سافر .. ما سافر» !    قوة صناعية ومنصة عالمية    «الأونروا» لا تزال تعمل في غزة والضفة الغربية رغم الحظر الإسرائيلي    لماذا صعد اليمين المتطرف بكل العالم..!    السفراء وتعزيز علاقات الشعوب    مقومات الانتصار والهزيمة    حوكمة لوائح اختيار رؤساء الأندية    المطوع ل «عكاظ»: لن أترك «هوساوي» للنصر    نيابة عن أمير قطر.. محمد آل ثاني يقدم العزاء في وفاة محمد بن فهد    «الروبوتات» والأرحام الاصطناعية.. بين الواقع والخطر!    خاصرة عين زبيدة    التراث الذي يحكمنا    إحباط تهريب 2.9 كجم "حشيش" و1945 قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي في تبوك    «الأونروا» تعلن نقل موظفيها خارج القدس المحتلة بسبب قرارات إسرائيل    مصحف «تبيان للصم» وسامي المغلوث يفوزان بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    شراكات جديدة بين هيئة العلا ومؤسسات إيطالية رائدة    تتيح لهم حضور الجلسات القضائية بالصوت والصورة.. «العدل» تُطلق مبادرة خدمات السجناء    استشاري طب نفسي: 10% من مشاهر شبكات التواصل مصابين بالانفصام    تجمع القصيم الصحي يفوز بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية السعودي 2025    "مفوض الإفتاء بمنطقة حائل":يلقي عدة محاضرات ولقاءات لمنسوبي وزارة الدفاع    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم مبادرة " تمكين المرض"    وزارة الشؤون الإسلامية تقيم يومًا مفتوحًا للمستضافين في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة    الديوان الملكي: وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    الأرصاد: سحب رعدية ممطرة على مرتفعات مكة والجنوب وأمطار خفيفة بالرياض والشرقية    المفتي للطلاب: احذروا الخوض في منصات التواصل وتسلحوا بالعلم    سيراً على الأقدام .. المستكشفة «موريسون» تصل العلا    لأول مرة.. إطلاق التقويم المدرسي برياض الأطفال والطفولة المبكرة والتربية الخاصة    «بينالي الفنون» يُثري زواره بكنوز الحضارة الإسلامية    البهكلي والغامدي يزفان "مصعب" لعش الزوجية    عشر سنبلات خضر زاهيات    تعزيز العلاقات البرلمانية مع اليابان    مدن ومجتمعات صديقة للبيئة    في إجتماع "المؤتمر الدولي" .. وزير الموارد البشرية: المملكة تسعى لتصبح مركزا رئيسياً لاستشراف مستقبل أسواق العمل    وسط حضور فنانين وإعلاميين .. الصيرفي يحتفل بزواج نجله عبدالعزيز    مختبر تاريخنا الوطني    أمير حائل يناقش خطط القيادات الأمنية    خطورة الاستهانة بالقليل    الإرجاف فِكْر بغيض    «السياحة الثقافية».. عندما تصبح الفنون جواز السفر    حسام بن سعود يستعرض مشروعات المندق    شخصية الصرصور    الشيخوخة إرث وحكمة    انطلاق مؤتمر السكري والسمنة في جدة «5 فبراير»    أهالي الشرقية ينعون الأمير محمد بن فهد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد العازف الهارب من اضطهاد النازيين شاشة البولندي الشريد تصل الى طفل لندن البريء ... ولكن ما الذي جاء أوليفر تويست يفعله في عوالم رومان بولانسكي القاسية ؟
نشر في الحياة يوم 10 - 02 - 2006

إذا كان التصوير الفوتوغرافي، وتقنيات الصورة والحركة كما برزت خلال القرن التاسع عشر، تعتبر المهد الأساسي الذي ولد منه فن السينما، بجانبه التقني على الأقل، فإن الروايات الشعبية التي انتشرت، عبر نشرها مسلسلة في الصحافة، خلال ذلك القرن نفسه، يمكن اعتبارها الأساس الشرعي لفن كتابة السيناريو. ومن هنا يمكننا أن نقول ان كتاباً من طينة أوجين سو وجول فيرن وفيكتور هوغو وحتى ألكسندر دوما الأب، لا يمكن أن ينظر اليهم القرن العشرون وما بعده، إلا بصفتهم المؤسسين الحقيقيين لفن السيناريو... وكان في امكاننا هنا أن نضيف كلمة"السينمائي"الى كلمة السيناريو، لولا ان فن الدراما التلفزيونية جاء خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ليبدو أكثر ارتباطاً بلغة القصص المسلسلة. غير ان هذا الواقع لا ينقص شيئاً من قيمة تلك الأعمال الأدبية الشعبية، بصفتها وضعت أصلاً وكأنها سيناريوات برسم الاقتباس. وذلك الى درجة ان مخرجاً فرنسياً شعبياً قال مرة"حسبي ان انفذ مقتضيات الرواية جملة جملة، ليصبح لدي فيلم سينمائي حقيقي". ومن هنا، اذا حاولنا أن نبحث عن اسم محدد نعزو اليه أبوية فن السيناريو، لن يكون هذا الاسم سوى تشارلز ديكنز. ولعل هذا وحده ما يفسر إقبال السينمائيين، الأنغلو - ساكسونيين وغيرهم، على أعماله لتحويلها أفلاماً، غير مكتفين بفيلم أو فيلمين يؤخذان من كل رواية، بل محققين، وفي فترات زمنية مختلفة، أفلاماً عدة عن كل نص.
شخصية المخرج
وما نقوله هنا يصدق في شكل خاص على الأشهر بين روايات تشارلز ديكنز"مغامرات أوليفر تويست"التي تعرف في ترجماتها، وفي السينما باسم"أوليفر تويست". إذ، على رغم ان ديكنز رحل عن عالمنا ربع قرن قبل ولادة فن الصورة المتحركة، من الجلي ان"أوليفر تويست"التي كتبت في أواسط ثلاثينات القرن التاسع عشر، تبدو وكأنها كتبت أصلاً على شكل سيناريو سينمائي... أو فلنستطرد لنقول: على شكل سيناريو حلقات تلفزيونية، لكن هذه حكاية لا تعنينا هنا، طالما ان مناسبة هذا الحديث، إنما هي إقدام رومان بولانسكي، الذي يمكنه بين فيلم وآخر ان يطالب بحقه في أن يعتبر واحداً من كبار السينمائيين الأحياء حتى وإن أتت بعض أفلامه تكذب هذا تماماً!، اقدامه على الدنو من عالم تشارلز ديكنز... وهو الذي ما كان في الإمكان أبداً تصور إقدامه على مثل هذا الدنو. فالواقع ان الفيلم السابق لصاحب"طفل روز ماري"و"تسّ"، وهو"عازف البيانو"الذي اعطاه السعفة الذهبية في مهرجان"كان"قبل عامين، ما كان من شأنه أبداً أن يوحي بأن العمل التالي سيكون"أوليفر تويست"... إذ، للوهلة الأولى، ثمة فارق شاسع بين المشروعين. لكن هذا ليس سوى للوهلة الأولى... لأننا اذا عمقنا في الأمر سنجد ان شخصية بولانسكي نفسها، تكاد تكون مبرراً أساسياً لدنو صاحبها من هذين الموضوعين تباعاً. وهو على أي حال حدد قائلاً:"اذا كنت صنعت"عازف البيانو"لنفسي، فإنني صنعت"أوليفر تويست"لأطفالي". وهذا الكلام صحيح وغير صحيح في الوقت نفسه.
هو صحيح لأن موضوع"أوليفر تويست"كما كتبه تشارلز ديكنز ونشره على حلقات بين 1837 - 1838، موضوع يستثير اعجاب الصغار وهمهم، ويتناول عوالمهم برنة مغامرات طفولية ومناخات ميلودرامية جذابة... ونعرف دائماً انه اذا كان عشرات ملايين القراء قرأوا هذه الرواية مترجمة الى عشرات اللغات، فإن الصغار كانوا دائماً أول القراء. وكذلك الحال حين نقلت"أوليفر تويست"الى الشاشة، مرات عدة... فكان الصغار أول متفرجي أفلامها وأكثرهم. غير ان التوقف عند هذا الواقع ينقص الرواية - ثم أفلامها - بعض القيمة. ذلك ان الرواية كانت ولا تزال موجهة الى الكبار بقدر ما هي موجهة الى الصغار. وفيها اطلالات دقيقة وتجديدية على عالم الجريمة وعالم التربية، وسيكولوجية الأطفال، كما فيها وصف رائع لمدينة لندن وعوالمها السفلى، ناهيك بوصف الفوارق الطبقية وبقية الآفات الاجتماعية. ثم، لأن تشارلز ديكنز، كان من أبرز الكتاب الذين تأرجحوا في كتاباتهم بين الخاص والعام، لا ريب ان قسماً كبيراً جداً من قراء الرواية طوال قرن وثلاثة أرباع القرن، وجد نفسه في شخصيته أو في أخرى من شخصياتها. وبخاصة في شخصية بطلها الصغير أوليفر، الذي يبدو مجتازاً الحياة وأفخاخها، مسلحاً ببراءته وحقه في هذه الحياة لا أكثر. إن اوليفر هو أشهر يتيم لقيط في عالم الأدب، ثم في عالم السينما... حتى وإن كان كونه يتيماً ولقيطاً يحمل بعداً رمزياً عن الفرد البريء المرمي من دون ارادة أو سلاح، في عالم الكبار وصراعات الخير والشر. وأوليفر هو البريء الذي ينتصر رغماً عنه، حتى من دون أن يعرف كيف انتصر.
ونحن اذا نظرنا الى الموضوع من هذا الزاوية، ثم قرأنا سيرة رومان بولانسكي الموثوقة، سيدهشنا ذلك التقارب بين طفولته وطفولة أوليفر. فهو أيضاً وجد نفسه طفلاً، في بولندا ما قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة، وقد رمي وحيداً في عالم الكبار الذي تسيطر عليه الفوضى والشرور. وهو أيضاً نفد بجلده، ببراءته ومن دون أن يدرك دائماً كيف حدث له أن نفد. ومن هنا عودة تحليلية الى فيلمي بولانسكي الأخيرين، ولو فقط من زاوية اختيار المواضيع - الآتية من نصوص لا علاقة له بها أصلاً -، ونعني"عازف البيانو"وپ"أوليفر تويست"، ستجدنا وكأننا نلامس جزأين من سيرة رومان بولانسكي الذاتية. وستبدو لنا المقاربة بين طفل"أوليفر"وعازف"البيانو"ومخرج الفيلمين، أكثر من ممكنة. ولنتذكر هنا أيضاً كيف ان العازف في الفيلم السابق، وجد نفسه بدوره مرمياً في عالم الفوضى وسط بولندا الممزقة... وهو إذ نجا من المصير المفجع الذي كان من نصيب أهله وعشيرته، نجا من دون أن يدري كيف: هنا نحن مرة أخرى أمام الانتصار الذي تحققه البراءة من دون أن تدري. ومن المؤكد ان بولانسكي، يريد أن يصف من خلال هذا كله، براءته الشخصية أيضاً - براءة كل فنان حقيقي - وانتصاره العجائبي. وفي الحقيقة ان سيرة رومان بولانسكي، كما نعرفها، منذ بداياته في بولندا كسينمائي واعد، ثم هربه من الستالينية المستشرية خصوصاً في عالم الفن، الى هوليوود التي فتحت له ذراعيها قبل أن تعود وتدمره ولنتذكر هنا المجزرة التي راحت ضحيتها زوجته شارون تيت، ثم مشكلاته مع القضاء الأميركي بسبب تهم أخلاقية وجهت اليه ودفعته للهرب الى أوروبا. ثم اخفاقاته ونجاحاته في أوروبا نفسها... سيرة بولانسكي هذه ترينا كيف انه بدوره انتصر، أو نفد بجلده على الأقل مثل بطلي فيلميه الأخيرين هذين، من دون أن يعرف كيف.
شهية مفتوحة
وبهذا يمكننا القول بصرف النظر عن جودة أو عدم جودة الفيلم الأخير وهو أمر قابل للنقاش، حيث ان"أوليفر تويست"إذ يعرض في أوروبا الآن يتساجل النقاد في شأنه بين معجب بإفراط ومنتقد بحدة، ان المسألة الأساس هنا هو الكيفية التي يتملك بها فنان متميز، موضوعاً كان له وجود سابق عليه. ومن الواضح ان رومان بولانسكي كما تملك في"عازف البيانو" حكاية المغامرة المرعبة التي عاشها - حق في الحياة - عازف يهودي بولندي حين هرب من النازيين وعاش وحيداً، حتى أنقذه ضابط ألماني نازي... أعجب بعزفه وحولها الى كناية عن حياته الشخصية "... وإلا لما كنت أقدمت على تحقيق هذا المشروع"سيقول لاحقاً، كذلك فعل في"أوليفر"، حتى وإن كان يقول الآن ان الفكرة أتت من زوجته الممثلة إيمانويل سينييه، وأن رغبته كانت في أن يهدي أطفاله عملاً ما... بعد هذا، هل يهم حقاً أن يكون النقاد مقسومين ازاء فيلم رومان بولانسكي هذا، بين من يأخذ عليه خلوه من البعد الشخصي ليترجم الرواية سينمائياً في شكل ميكانيكي... ومن يرى ان البعد عن البعد الشخصي هذا، كان أفضل ما في الفيلم، لأنه أعاد المتفرج مواربة، ليس فقط الى طفولة رومان بولانسكي، بل أيضاً الى طفولة هذا المتفرج نفسه، في عملية بحث عن براءة ماكرة تستعاد بها نظرة ما الى الوجود الذي بات يمعن في تشييء المرء أكثر وأكثر.
طبعاً كل هذه أمور يمكن العودة اليها في أحاديث أكثر استفاضة عن الفيلم نفسه، طالما انه يحتمل كلاماً اضافياً وتأويلات. أما هنا فنبقى مع تشارلز ديكنز 1812 - 1870 الذي دنت السينما من أعماله استيحاء واقتباساً أكثر من ثلاثين مرة، بما فيها أعمال حققها مخرجون من الطبقة الأولى. ونذكر بين أبرز ما اقتبس في السينما من رواياته:"دافيد كوبرفيلد"3 مرات على الأقل لدى الأنغلو - ساكسون وحدهم،"آمال كبيرة"3 مرات، منها مرة من تحقيق دافيد لين الذي كان اقتباسه لأوليفر تويست في العام 1948 هو الأفضل - وهو الاقتباس الذي يقول بولانسكي الآن ان مشاهدته له عرّفته للمرى الأولى الى اسم ديكنز، إضافة الى اقتباسات عدة عن"أوقات صعبة"وپ"دوريث الصغير"وپ"أسرار ادوين درود"وپ"نيكولا نيكلباي"... وغيرها.
ترى هل في إمكان أي كاتب سيناريو جاد من الكبار الذين عرفهم الفن السابق في قرنه العشرين، أن يزعم انه كتب أكثر... وأفضل؟ ولنتذكر هنا ان أي نجاح فوق المتوسط قد يحققه فيلم رومان بولانسكي الجديد هذا، قد يفتح شهية الكتّاب والسينمائيين فينكبون على أعمال ديكنز يقتبسونها أو يعيدون اقتباسها، في زمن تشح فيه خيالات المبدعين، ويبدو أقل شأناً بكثير من أن يعطينا كتّاباً شعبيين يتفوقون على ديكنز وأمثاله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.