أحسنت وزارة التعليم العالي السعودية صنعاً بالتوسع في برامج الابتعاث للطلاب لمواصلة تعليمهم في الولاياتالمتحدة الى مراحل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه. في هذا التوجه، وإن جاء متأخراً، استثمار في التعليم الراقي وانفاق الأموال على تعليم الشباب الجادين هو من أفضل أنواع الاستثمار، ونتائجه وثمراته ستعود، إن شاء الله، على الفرد والأمة بكل خير. لقد تأثرت موازنات عدد من الدول العربية إيجاباً بفعل ارتفاع أسعار النفط في الأعوام الأخيرة، ومن المهم تخصيص جزء من هذه العوائد الوفيرة في تطوير الطاقات الفردية وتأهيل الشباب وتدريبهم على المشاركة الفاعلة في التحولات التكنولوجية والاقتصادية والإدارية الحديثة، وهذا لن يتحقق ما لم يقبل الشباب على اكتساب المعارف والعلوم الضرورية، حتى لو تجشموا في سبيل ذلك مشاق السفر والاغتراب. والابتعاث، في هذا السياق، فرصة رائعة لتطوير قدرات شباب الأمة ورفع مستواهم العلمي وزيادة خبراتهم العملية. وقد أنفقت دول عربية كثيرة خصوصاً الخليجية منها: أموالاً طائلة على بناء بنية تحتية ضخمة فأصبحت لدينا مدن جامعية ومدن طبية ضخمة. ومن المهم أن تركز الجهود الآن على الاهتمام بتنمية الكوادر البشرية وتطويرها، فلا قيمة لجامعة أنفقت البلايين على بنائها وتهيئتها ما لم يوجد فيها أساتذة متميزون من أبناء الوطن، ولا قيمة لمدينة طبية مجهزة بكل شيء باستثناء الأطباء المؤهلين. وبحسب تقرير الأبواب المشرعة Open Doors Report الصادر العام الماضي عن معهد التربية الدولية IIE في نيويورك فإن عدد الطلاب الأجانب في الولاياتالمتحدة يبلغ نحو 600 ألف طالب يشكلون 4.6 في المئة من إجمالي عدد الطلاب في التعليم العالي الأميركي، وتأتي الهند والصين وكوريا الجنوبية في مقدم الدول"المصدرة"للطلاب الى أميركا، اذ يبلغ عدد الطلاب من هذه الدول حوالى 190 ألف طالب أو ثلث الطلاب الأجانب تقريباً. وتجني هذه الدول اليوم نتائج استثمارها في التعليم والتدريب والابتعاث ثورة تكنولوجية ونهضة اقتصادية وصناعية كبرى. لقد عاد طلاب هذه الدول إلى بلدانهم مسلحين بالعلم والخبرات والمهارات الضرورية فساهموا في نهضتها وتقدمها، وليس سراً أن معظم مدراء ومسؤولي الشركات الصناعية والقياديين البارزين في هذه الدول هم من خريجي الجامعات الأميركية. التعليم مفتاح التنمية لنأخذ كوريا الجنوبية، كمثال، فهذا البلد الفقير في موارده الطبيعية الذي كان مصنفاً ضمن أفقر ثلاث دول في آسيا في منتصف القرن الماضي، أصبح اقتصاده الآن في المرتبة الثالثة بين أكبر الاقتصادات في قارة آسيا، بعد اليابان والصين، وفي المرتبة العاشرة بين أغنى دول العالم. وبحسب تقرير دلال أبو غزالة الحياة، 6/8/2005 فإن قيمة الصادرات الكورية بلغت في شهر نيسان أبريل الماضي بليون دولار أميركي يومياً معظمها من السيارات والالآت المصنعة والتكنولوجيا. وفي حديث لپ"الحياة"في التقرير السابق أكد نائب رئيس شركة إل جي LG العملاقة ديفيد بارك أن بلاده"تنبهت منذ السبعينات إلى أن التعليم هو مفتاح الانطلاق الاقتصادي والتنمية". إن التعليم، بكل تأكيد، هو مفتاح الانطلاق الاقتصادي والتنمية ولا بد أن تصرف الأموال بسخاء في مجالات التعليم والتدريب الكثيرة والمتنوعة ومنها إتاحة الفرص للطلاب المتميزين والنجباء للدراسة في الجامعات العالمية المتقدمة. إن الابتعاث يمنح فرصاً أكبر من مجرد اكتساب لغة أجنبية والحصول على بعض المعارف والمعلومات، وهو يتعدى ذلك إلى الاحتكاك بثقافات ومجتمعات أخرى وبأنظمة متقدمة في التعليم وبأساليب وطرق جديدة في التفكير وفي معالجة المشكلات، كما أن من فوائد الابتعاث الانفتاح على العالم الخارجي وتعريف الآخرين بديننا وثقافتنا ونشر الثقافة العربية والإسلامية. ومع تأييدي للتوسع في الابتعاث، في جميع مراحل التعليم العالي وفي التخصصات المهمة والضرورية، إلا أنه من المهم تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص لجميع الطلاب المتقدمين، ولا بد أيضاً من اشتراط توافر أمور معينة في الطالب المتقدم للابتعاث، كالتفوق العلمي وحسن السلوك واجتياز مقابلة شخصية دقيقة أو اختبار تحريري شامل، كذلك من المستحسن ان يكون المرشح للابتعاث ملماً بلغة البلد الذي سيقصده، الماماً كافياً، ما يعطي انطباعاً عن جديته ورغبته الأكيدة في الحصول على البعثة. وينبغي ألا تقتصر برامج الابتعاث على المبادرات الحكومية بل ينبغي أن تبادر الشركات والمؤسسات التجارية والهيئات الخيرية والأفراد الموسرون الى دعم برامج الابتعاث الحكومية أو تنظيم برامج منح دراسية مستقلة مع متابعتها والإشراف عليها. وربما يتساءل بعضهم لماذا الابتعاث إلى أميركا بالذات؟ ولم لا نرسل طلابنا للدراسة في الدول المتقدمة الأخرى؟ الجامعات الأميركية الواقع أن هناك مميزات كثيرة تتفوق بها أنظمة التعليم العالي والجامعات الأميركية على مثيلاتها في الدول الأخرى، فمعظم التقارير الإحصائية والدراسات العلمية المقارنة بين جامعات ومعاهد التعليم العالي المختلفة في العالم تؤكد ريادة الجامعات الأميركية، وعلى سبيل المثال ففي التقرير المنشور العام الماضي في مجلة"ذا تايمز هاير ايدوكيشن سيبليمنت"البريطانية والمتضمن أفضل 200 جامعة على مستوى العالم احتلت الجامعات الأميركية مراكز الصدارة ب63 جامعة، فالجامعات الأربع الأولى هي جامعات أميركية و11 جامعة ضمن الجامعات العشرين الأولى هي أميركية، وفي التقرير الاحصائي لأفضل 500 جامعة على مستوى العالم الصادر هذا العام عن معهد التعليم العالي في جامعة شانغاي احتلت الجامعات الأميركية أيضاً مراكز الصدارة من دون منافس ب167 جامعة مع وجود 500 جامعة تمثل 39 بلداً من مختلف القارات إلا أنه لا توجد أي جامعة عربية مع ملاحظة وجود 7 جامعات اسرائيلية. وإضافة إلى تميز الجامعات الأميركية وسمعتها العالمية الراقية فإنها أيضاً تفوق نظيراتها في البلدان الأخرى بالاهتمام بالبحث العلمي وتوفير أحدث التجهيزات والوسائط المساعدة للتدريس. إن متوسط ما تنفقه الجامعة الأميركية على الطالب يصل إلى 20 ألف دولار سنوياً مقارنة ب7 الآف دولار في بريطانيا وحوالى 12 ألف دولار في أستراليا وكندا. ان تعدد الاختيارات وتنوعها ميزة أخرى مهمة، ففي الولاياتالمتحدة هناك أكثر من 3500 جامعة وكلية منها الجامعات الكبيرة التي يفوق عدد طلابها الخمسين ألف طالب، إلى الجامعات الصغيرة التي قد لا يتجاوز عدد طلاب الواحدة منها ألف طالب فقط. إضافة إلى ذلك فإن الطالب يستطيع اختيار مكان دراسته، سواء في المدن الكبيرة أو في الضواحي أو في المدن الصغيرة في الريف، ونظراً الى اتساع مساحة أميركا واختلاف المناخ فيها فإن بإمكان الراغب في الدراسة اختيار المكان المناسب له سواء في المناطق الباردة أو المعتدلة أو الدافئة. كذلك تتميز الجامعات الأميركية بالمرونة في ما يتعلق بمرونة النظام، حيث انها تعتمد نظام الساعات أو الوحدات الدراسية، كما تتميز بكثرة التخصصات المتاحة في المجالات العلمية أوالنظرية أكثر من 600 تخصص، وهذه المجالات غير محددة بحاجة سوق العمل أو بالتخصصات الأساسية فقط كما هي الحال في جامعات البلدان الأخرى. إن هذه المرونة تعطي الطالب الحرية في اختيار المقررات التي تتفق مع ميوله التخصصية ورغبته العلمية، كما أن الطالب له الحرية في تنظيم جدوله بالطريقة التي تناسبه، فيدرس في الأيام والأوقات المناسبة له ويختار عدد ساعاته الدراسية الأسبوعية كما يختار أساتذته. ونظراً الى وجود الكثير من التخصصات خصوصاً في الجامعات الكبيرة فإن هذا يؤدي إلى توفير فرص دراسة مقررات إضافية قد تحسب ضمن المقررات المطلوبة للتخرج، بحسب ميول الطالب واهتماماته، وعلى سبيل المثال فإن الطالب المتخصص في الهندسة يستطيع أن يسجل مقرراً أو مقررات في أحد المجالات الأدبية أو الفنية التي توافق ميوله واهتماماته. أخيراً تتميز الجامعات الأميركية بالتنوع العرقي والديني والثقافي لطلبتها الذين يمثلون كل الأعراق والجنسيات والخلفيات الدينية والثقافية حتى ان الطلاب الأميركيين ليسوا من عرق أو أصل واحد، فهناك الأميركي الأبيض وهناك الأميركي من أصل أفريقي وهناك الأميركي من أصل لاتيني هسبانك وهناك صاحب الأصل الآسيوي... الخ إن التنوع العرقي والديني والثقافي للطلاب في الجامعات الأميركية وفي المجتمع الأميركي عموماً يبدد شعور الطلاب الأجانب بالغربة ويمنحهم حافزاً للإبداع والتفوق. لكل هذه الأسباب أصبحت الولاياتالمتحدة قبلة طلاب العلم والباحثين عن تعليم راقٍ لهم أو لأولادهم أو مواطنيهم، وبحسب التقرير المنشور في ايلول سبتمبر الماضي في مجلة"ذا تايمز هاير ايدوكيشن"البريطانية بلغت نسبة الطلاب الأجانب الذين يدرسون في الولاياتالمتحدة 28 في المئة من إجمالي عدد الطلاب المغتربين حول العالم، وتأتي بريطانيا في المرتبة الثانية بنسبة 12في المئة ثم ألمانيا ففرنسا فأستراليا بنسب 11 في المئة و10 في المئة و9 في المئة على التوالي، ومع اعتقادنا بتفوق الجامعات الأميركية على نظيراتها في البلدان الأخرى فإننا لا نرى حصرالابتعاث في بلد معين أياً كان هذا البلد أن تنوع بلدان الابتعاث يظل دوماً سمة إيجابية. وفي الختام نؤكد ضرورة نشر الوعي بأهمية الابتعاث الخارجي وتوضيح فوائد برامج الابتعاث ودورها المؤمل في التنمية والتطوير، كما أن من المهم تصحيح النظرة السلبية للابتعاث لدى الذين لا يرونه إلا مرادفاً للتغريب والانحراف، ومع تأكيدنا أهمية دعم برامج الابتعاث الدراسي الى الخارج ودورها المؤمل في التنمية والتطوير إلا أننا نرى ضرورة الاهتمام بتطوير هذه البرامج ورفع أداء الملحقيات الثقافية للدول العربية في الخارج، وضرورة اختيار الطلاب المؤهلين والمتميزين علماً وسلوكاً، وإلا فإن برامج الابتعاث قد لا تحقق أهدافها المرجوة، اذ قد تصبح سياحة يحظى بها بعضهم ويدفع تكاليفها الجميع. * أكاديمي سعودي.