" هذا صديقي اسمه رن... رن"، علق محمود بشيء من السخرية على صديقه الذي رن هاتفه النقال ثلاث مرات متقطعة، على شكل مكالمات لم يَرُدْ عليها" Missed Call" ليتذكر موعداً ما."رن... رن"هاتف آخر انتشى صاحبه هذه المرة، فاستأذن قائلاً:"معذرة يا شباب، حبيبتي تنتظرني". ثم سرعان ما انفجرت شلة الأصدقاء ضحكاً حينما رن هاتف ثالث، فعلق أحدهم بسخرية:"يالله يا عمر، يماك تنتظرك بالقفة في البيت". هذه حال شريحة من شباب الجزائر وقد سلب الهاتف الخليوي عقولهم، فاستحدثوا لغة تخاطب جديدة ب"رنات الخليوي"لضبط مواعيدهم وتمرير رسائل مشفرة إلى الطرف الآخر، بينما وجد الشباب المغرمون في الهاتف المحمول أفضل صديق وپ"مرسال غرام"وفياً، يبقيهم على اتصال دائم بالحبيب، فيما يحرص الكثيرون منهم على اختيار أفضل النغمات الموسيقية من مواقع الانترنت ويضبطونها على رقم هاتف الحبيب. وتعد أغاني فاضل شاكر وهيفاء وهبي وإليسا الأكثر انبعاثا من أجهزة الخليوي الشبابية. سميرة 28 عاماً، بدت مرتبكة حينما انبعثت رنات هاتفها الخليوي من حقيبتها، فيما كانت غارقة في الحديث مع خطيبها، فبات منظرها مثيراً للشفقة والطرافة في آن معاً. تمسك بإحدى الهاتفين من يدها اليمنى تكلم مسؤولها في العمل، وترد بكلمات خاطفة على خطيبها، تستأذنه أن يعاود الاتصال بعد قليل. أما أحمد 19 عاماً العامل في أحد المتاجر فقد كان الهاتف المحمول أول ما فكر في اقتناءه عندما تقاضى راتبه الاول. وقال:"يا أخي الحمد لله، زمان كنت أجن قبل أن أتمكن من ضبط موعد مع البنت التي أحبها، أما اليوم فتكفي رنة هاتف واحدة لأفهم أن الحصة الدراسية انتهت، وأذهب للقائها أمام باب الثانوية، لقد أغناني الهاتف عن ساعات الانتظار الطويلة كل يوم". وبكثير من الضحك، تروي عائشة كيف أنها تضطر كل مساء إلى أن"تكتم"صوت هاتفها، حتى لا تثير ملاحظة الأهل كلما وصلتها"اعترافات حب"جديدة عبر الرسائل القصيرة" أس أم أس"، وتعترف قائلة:"يحدث أحياناً أن أشتري أكثر من بطاقة تعبئة في الشهر نفسه. الله غالب، في فترات الامتحان التي لا أخرج فيها من البيت، تأتي الرسائل القصيرة لتعوض لقاءاتنا الرومانسية، وأعترف بأننا أحياناً نتبادل تلك الرسائل طيلة ليلة كاملة من دون توقف". الطريف في الأمر، أن الشباب ليسوا الأكثر تعلقاً بالهاتف الخليوي، ففي الكثير من الأحيان تنقل الصحف للجزائريين أخبارا طريفة عن ظاهرة"اشتراط الخليوي في مهر العروس"، وهي بالفعل ظاهرة باتت واسعة الانتشار، خصوصاً في الفترة التي أعقبت تحرير سوق الهاتف الخليوي وانتشاره في أوساط المجتمع. وبات هذا الجهاز من أساسيات الحياة لدى الجزائريين، بعد أن كان من الكماليات، ولا يتوانى الكثير من العائلات عن اشتراطه مع مهر العروسة. وطبعاً، يبقى التفاوض على نوعية الجهاز وسعره، مرتبطاً بالحال الاجتماعية للعروسپوالعريس معاً! وتروي حياة قصصاً مثيرة لشباب يتجولون بهواتفهم الخليوية المزودة بكاميرات، يلتقطون صوراً لفتيات جميلات، ثم يطلبون من أمهاتهم أن يستخبرن لهم عن حال البنت، ما جعل الهاتف يعوض دور"الخطَّابة". فالهاتف الخليوي كما يقول توفيق المقبل على الخطوبة"أكثر أماناً لأنه لا يخدع، بينما الخطَّابة يمكن أن تخدعك في أوصاف العروسة، وبعدها يمكنني أن اختار براحة بين الصور التي اكون قد التقطتها خفية طبعاً، حتى لا أثير غضبهن وملاحظة الناس. فمجتمعنا لا يسمح بهذه الأفكار". وللجزائريين في الهاتف الخليوي غايات ومآرب أخرى، فكثيرون أصبحوا يفضلون تهنئة بعضهم بعضاً في الأعياد برسائل قصيرة تكلفهم أقل بكثير من زيارات إلى البيوت وحمل الهدايا، بينما يفضل آخرون ضبط مواعيد عملهم برنات الهاتف أيضاً، أو عبر رسائل ال"أس أم أس"بدل مكالمات الهاتف الثابت الذي أضحى أكثر كلفة. ويكمن هاجس حملة الهواتف الخليوية، في النشالين واللصوص الذين يترصدون ضحاياهم كلما سمعوا رنة الهاتف، ولا يضيرهم أن يستعينوا بقارورات الغاز أو الأسلحة البيض أحياناً، أو حتى طعن الضحية في سبيل سرقة جهاز ولو على حساب حياة حامله.پ وحتى ثلاث سنوات مضت، كان الهاتف الخليوي من مظاهر الثراء في أعين الجزائريين، ولا يفكر في اقتنائه سوى رجال الأعمال القادرين على تسديد تكلفة الجهاز وبطاقة التشغيل التعريفية. أما الشباب، فكان يندر أن ترى في يد أحدهم هاتفاً محمولاً، باستثناء أبناء"الشأن"والأثرياء، أو في أحسن الأحوال الشباب"البزناسية"الذين يتاجرون في السوق السوداء. وظل"حلم"الحصول على هاتف خليوي مستعصياً على الجزائريين حتى العام 2001، عندما أحدثت الحكومة"ثورة"في عالم الاتصالات السلكية واللاسلكية، وقررت فتح سوق الهاتف المحمول وكسر الاحتكار. فبدأت المنافسة بين شركتي أوراسكوم تيليكوم المصرية والوطنية الكويتية، والشركة الأم اتصالات الجزائر. وفي لمح البصر، دخل الهاتف المحمول في ثقافة المجتمع الجزائري، وأصبح الحصول على جهاز محمول يعادل"شربة الماء"لا يقدر الجزائريون على الاستغناء عنه بمختلف شرائحهم ومستويات دخلهم، فقد أضفى نكهة جديدة على حياتهم، بل وغير الكثير من علاقاتهم الاجتماعية. وأصبحت الجزائر اليوم تحصي 10 ملايين من حملة الهواتف الخليوية.