إذا كان الأمير عبدالقادر الجزائري قد تلامح في رواية جزائرية أو أخرى مثلاً: "عواصف جزيرة الطيور" لجيلالي خلاصپوپ"رائحة الأنثى" لأمين الزاوي فرواية "كتاب الأمير مسالك أبواب الحديد" لواسيني الأعرج دار الآداب، 2005 هي الرواية الأولى الموقوفة ? في ما ينوف على 600 صفحة، على الأمير. وهذه الرواية توالي تفتيق السؤال الكبير: سؤال الرواية والتاريخ، وتقترح إجاباتها عليه، معمقة بذلك ما سبق أن قدمه الكاتب في أكثر من رواية، وكذلك ما سبق لغيره من أعلام الرواية العربية أن قدموه. وقد جاءت رواية الأعرج في ثلاثة أبواب يبدأ كل منها بفصل "الأميرالية" وتليه وقفات عدة. وينفرد الباب الأخير بعودة "الأميرالية" في ختامه كخاتمة للرواية. وعبر ذلك لا يفتأ الزمن يتقدم ويتراجع بالتواريخ المثبتة، سواء في مطالع الفصول والوقفات أم في ثناياها. واختار الكاتب لعبة ناظمة كبرى إزاء ضخامة المادة الوثائقية التي حفر فيها عبر المراجع والمجلات والجرائد والرسائل، وجلّها بالفرنسية. وأثبت الكاتب متناصات عدة ومتفاوتة الطول من تلك المادة، محافظاً على الأصل الفرنسي كثير منها بلا ترجمة، كما فعل في بعض الهوامش. وهذا الأمر الذي تواتر في روايات الكاتب وآخرين من بلدان المغرب العربي لا أرى له مبرراً، ما دامت الرواية مكتوبة بالعربية وتتوجه إلى قارئ عربي، حتى لو كان من البلدان التي تشيع فيها الفرنسية. أما اللعبة الناظمة الكبرى فهي ما ستتوزعه فصول "الأميرالية" الأربعة، ابتداءً من تنفيذ جون موبي بصحبة الصياد المالطي لوصية سيده المونسنيور ديبوش بنقل رفاته إلى الجزائر. وكان موبي قدم مع ديبوش عندما عينه البابا غريغوار السادس عشر أسقفاً على الجزائر عام 1838. ولم يفارق موبي سيده حتى مات بعد عشرين سنة. وفي هذه البداية الأميرالية - 1 كما في بدايات الأبواب الأخرى الأميريالية 2-3 والخاتمة الأميرالية 4، يضيء جون موبي شخصية ديبوش الذي ارتبط بالجزائر "فدافع عنها باستماتة، ودافع عن رجلها الكبير، الأمير، مثل الذي يدافع عن كتاب مقدس". وهنا يقوم ما هو بمثابة إيقاع يعود إلى رفات المونسنيور بعد أن يكون السرد قد تلاطم بعيداً. وبهذه العودة تُلتقط الأنفاس، وفي الآن نفسه تُرمى بدايات أو نهايات أو مفاتيح لسرديات صغرى، تتضافر مع ما سبقها أو ما سيتلوها من سرديات صغرى أو كبرى. ومن أجل ذلك تعوّل الرواية على الاسترجاع الذي يأتي مثل الوثيقة بخط أسود. ومن أجل ذلك تلعب الرواية لعبة ناظمة أخرى وكبرى، هي الرسالة التي يكتبها ديبوش للويس بونابرت من أجل العفو عن الأمير في منفاه الفرنسي. فمن أجل كتابة هذه الرسالة طوال الرواية ينقب ديبوش في أوراقه وفي المراجع، ويحاور الأمير في منفاه من قصر "بو" إلى قصر "أمبواز"، كما يحاور خادمه جون موبي، ويسترجع عهده في الجزائر. وقد تتوج صنيع ديبوش بكتابه "عبدالقادر في قصر أمبواز"، المطبوع عام 1949 والمهدى إلى بونابرت، وفيه يقرأ جون موبي يوم عودة رفات ديبوش 28/ 7/ 1864. وكان تعويل ديبوش في ما كتب على ما عرفه لويس بونابرت في تجربته مع الانكليز من عيش الإنسان منفياً. وستؤتي الرسالة أُكُلها بعفو بونابرت عن الأمير بعد خمس سنوات من المنفى، وقد أخطأت الرواية بما سجّلت من عدد أيامها وساعاتها وثوانيها. وإضافة إلى ما تتولاه ذكريات أو محاورات وكتابات ديبوش والأمير والكثيرين من ذوي الصلة بالأمر، ينهض السارد بعبء كبير ينفرد أحياناً ويشتبك بما ينهض به سواه أحياناً، ليغدو التاريخ رواية، ويصير الأمير عبدالقادر الجزائري ومن كان على صلة بحياته وثورته ومنفاه شخصيات روائية لا تصلح معها كلمة التأريخ، بعدما عجنها التخييل وأعاد تشكيلها. ولأن الكاتب لاعب محترف بامتياز، فقد عرف كيف يستثمر عنصري الطبيعة والمعارك، لتسري التراجيدية في الرواية. وهنا يكون التعويل على الوصف كما في وصف ميناء الجزائر فجراً، ووصف البحر وشروق الشمس بينما يوزع جون موبي والصياد الإيطالي الأكاليل الأربعة احتفاء بعودة رفات المونسنيور ديبوش. وكذلك هو وصف عام الجراد الأصفر 1832 أو سهل اغريس أو حرق مدينة معسكر أو معركة عين ماضي أو تدمير نواة الدولة التي بناها الأمير في تكدامت أو معارك النهاية على الحدود المغربية - الجزائرية أو مذبحة السجناء. وقد توشت شخصية الأمير عبر ذلك كله بالأسطرة التي أضفتها عليها المخيلة الشعبية، فمن القوالين من كان يخلط بين الأمير الشاب وسيدي عبدالقادر الجلاني. وحين انتصر الأمير في معركة سيدي ابراهيم ردد الناس أنهم رأوا الأمير يحارب وفي جانبه الولي نفسه سيدي ابراهيم وكانت ترافقه هالة من النور تعمي الأبصار، وكان يرسل الأتربة نحو النصارى فيرديهم ويمحو أحصنتهم. تتلامح التراجيدية في هذه الشخصية الروائية/ التاريخية منذ شبابه حين حكم والده على قاضي أزريو بالإعدام لتعامله مع الفرنسيين. فالقاضي كان أستاذ الشاب الذي انتزعته البيعة من الكتب إلى الثورة، ليس ضد الفرنسيين فقط، بل: "كنت أقاتل حالة العمى التي تضيء بعض خلفائي فيظنون أنهم ملاك الحقيقة". ومن انكسار مشروع الأمير في بناء الدولة إلى الهزيمة بعد خمس عشرة سنة من الكفاح، ظلت التراجيدية تتعمق في الشخص وفي المصير بين مفصل حاسم وآخر أكثر حسماً في حياته الروحية والثقافية والعامة، حيث يعتمل في الأمير العنصر الصوفي أيضاً. وقد خسر الأمير مراراً محبة بعض الناس كما تجلى في ارتداد بعض القبائل عن بيعته أو في من انفض من الأقربين عنه مثل أخيه أو بعض خلفائه. لكن القائد الذي قمع المتمردين وعاقب الخونة ما كان يعبأ إلا بمحبة الله. وهذا العصب الديني الأساس في شخصية الأمير سيكون مناط محاورات كثيرة وعميقة بينه وبين ديبوش، وعلى نحو يبدو كغاية كبرى للرواية بالتفاعل مع الغاية الكبرى الأخرى المتمثلة في محاورات الرجلين في الحرب وفي السلام. أقبل الأمير في منفاه على قراءة الإنجيل. وها هو ديبوش يخاطبه: "لك كل المحبة التي تقرب أحدنا من الآخر، حتى لو اختلفنا، لتستقر روحانا داخل الحقيقة الإلهية الكبرى نفسها". وفي موضع آخر يضيف ديبوش: "الإنسانية يا سيدي عبدالقادر استحقاق وليست إرثاً سهلاً"، بينما يرى عبدالقادر أن الله منح الروح وقدسها، فلا يمكن مسّها إلا بالحق، ويتساءل: "أية قضية تساوي حياة إنسان وعزته؟". وقد نهض مشروع الأمير السياسي والاجتماعي على هذه الرؤية المنفتحة التي أنضجتها التجربة. فحين بويع سلطاناً منع الغارات على القبائل العربية ودخل في عزلة تأمل وتعبد، ثم خرج إلى الناس بنقد الذات أولاً: "كنا نظن أننا الأفضل في كل شيء، وبدأنا ندرك أن الآخرين صنعوا أنفسهم من ضجيجنا الفارغ". ولذلك ما عادت بحسبانه حروب القدماء نافعة، وما عاد الكلام كافياً إزاء تنظيم مجتمع وقبائل لا ترى أكثر من سلطان رئيس القبيلة ولا تحيا إلا بالمغانم. ولذلك حاول الأمير بناء دولة، لكن ذلك لا يقوم إلا بالاستقرار. ومن هنا كانت مأساة بناء الدولة في زمن الحرب. فلم تجد الاستعانة بالخبراء الإيطاليين، ولا محاولات صناعة السلاح، ولا ابتداع نظام الزمالة بعد تدمير نواة الدولة في تكدامت، وقد كانت المكتبة في صلب هذا البناء. ولديبوش إذاً أن يتعجب من دولة تنتقل على الجمال خلف أميرها الذي بدأ يشعر أن عالماً آخر يظهر، ويقول: "أنا على حافة عهد لم أعد أفهمه جيداً". إنه عهد الاستعمار الاسيتطاني، عهد الصراع بين نمطين وعقلين، مما تعبر عنه مخاطبة الأمير لديبوش:" كنا نظنكم تعيشون الجاهلية، فاكتشفنا الجاهلية فينا يا سيدي". وفي مسار ذلك العهد أبرم الأمير من المعاهدات مع القادة الفرنسيين ما أبرم، ودافع عنها ضد المتمردين عليها، فوُصِفَ - بعد معاهدته مع بيجو - بخيانة الأمانة ومصالحة الغزاة. إلا أن الرؤية العملية والاستراتيجية، الرؤية التاريخية لهذا الصوفي المثقف، كانت تدرك أن المشكل ليس في السلام، بل بما بعد السلام، ولذلك قال عقب المعاهدة، التي لم تأت بها الهزيمة، بل النصر: "ربحنا الحرب ولكنهم أجبرونا على خسارة السلم". ولعل للمرء أن يرى في بعض ذلك ما يخاطب الصراع العربي - الاسرائيلي بعد أكثر من مئة سنة. وأخيراً: هو ذا الأمير مستسلماً، يهدي لاموريسيير سيفه وآخر حصان له، ويرحل مع أمه لاله زهرة وزوجاته الثلاث وثلة من الأقربين بالسفينة الأصمودي التي باتت سجناً كبيراً. وبعد سنوات المنفى، وبجهد ديبوش، يعفو لويس بونابرت عن الأمير الذي سيكون مقره الأخير في دمشق. وبذا يبلغ اشتباك التاريخ بالتخييل غايته في الرواية التي لم يفتها أن تتأثث باليومي والشعبي - القوال الأعمى وغناء بنته والرجل المحشش والرجل الغريب. ويبقى غياب المرأة عن الرواية لافتاً، على رغم الإشارة أخيراً إلى استقبال الأمير في قصر أمبواز على مقربة من قبر ليوناردو فانشي لنساء فرنسيات. ولئن كان قد قابل ذلك في الرواية انشغال كبير بالإنساني والفكري والوثائقي، فقد بدت أولاً وأخيراً، إبداعاً لما عبّر عنه الكاتب في غير موضع عن نظره فيما بين الرواية والتاريخ، كما في استثمار النص لنفايات/ وقائع تاريخية موضوعية كي يتطهر من التاريخ الرسمي، أو كما في عملية التقصيص التي تدرج موتيفات قصصية صغرى داخل البنية المركزية للنص، مما ينوع المتخيل ويغنيه، ويدعم هرمية القصة ونظامها وخروجها من نمطية التاريخ، أو كما في تحكّم التخييل بالتنضيد التاريخي للوقائع والأحداث، ومع التشديد على أن الرواية بعامة ليست تاريخاً، وعلى أن التاريخ نفسه ليس خارج المخيلة، وهذا كله مما تجلّى في رواية واسيني الأعرج "كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد". * روائي وناقد سوري.