انتهى الدكتور محمد سليم العوا في مقاله في"الحياة"في عنوان"محاكمة صنّاع الفتنة واجبة"30/10/2005، في تناوله لموضوع المسرحية التي عرضت في كنيسة"مار جرجس"في مدينة الإسكندرية، إلى ضرورة محاكمة من شاركوا في تأليف المسرحية وتمثيلها وإخراجها والترويج لها، والإفراج الفوري عن الموقوفين الذين اعتقلتهم سلطات الأمن اثناء محاولتهم الاعتداء على الكنيسة. وفي نهاية المقال، هدد الدكتور العوا بأن عدم تحقق ذلك سيؤدي إلى فتنة تحرق الأخضر واليابس في مصر. هذه الدعوة تشكل استمراراً للخط الذي بدأ قبل نحو عام مع تفجر ما بات يعرف بقضية"زوجة الكاهن"، وهو خط مال إلى التشدد في الطرح على حساب مساحة الاعتدال التي تتسم بها مواقف الرجل وكتاباته، ما لا بد أن يدفع إلى إعادة التفكير في القضية على نحو كلي يتجاوز الجزئيات. فالملاحظ أن دائرة الفعل المشترك بين المسلمين والأقباط في مصر تتعرض للتآكل، ونلحظ ذلك في تحول عقول وأقلام كان مشهوداً لها بالموضوعية والاعتدال، من الأرضية الوطنية إلى ما هو دون ذلك من دينية وطائفية. وينسحب ذلك على طرفي أو أطراف التفاعل، ولا يقتصر على تيار من دون آخر، وهو أمر نحسب أنه يمثل خطراً شديداً على مستقبل مصر ويمكن بالفعل أن يقود إلى الفتنة التي حذر منها العوا. فمصر تمر في مرحلة من الاحتقان في المجالات كافة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، جلبت معها حالاً من التوتر العام والعنف غير المبرر. وانعكس الاحتقان الشديد في مظاهر غيبة القانون والتطبيق الانتقائي له واستشراء حالة الفساد والنهب للمال العام والتلاعب بالقوانين وقدرات البلد لمصلحة حفنة من الأشخاص ولمصلحة سيناريو محدد لانتقال السلطة بعد الرئيس مبارك، باجراءات ديموقراطية شكلية. وفي الطريق إلى هذا السيناريو يجري توظيف الملفات والقضايا كافة، ولا مانع من استخدام الدين، بل وتصعيد أجواء الاحتقان لتمرير مواقف محددة سلفاً. ولا مانع أيضاً من إبرام صفقات مع مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية، في مقابل تصريح أو توجيه من البابا للأقباط بالتصويت على نحو معين في قضية المسرحية احتشد أكثر من سبعة آلاف غاضب حاولوا اقتحام الكنيسة، فيما في قضايا الإصلاح والتغيير لم يتجاوز الحشد بضع مئات، عدا تظاهرات"الإخوان". عندما نتصدى للحديث عما جرى في الإسكندرية وقبله في قضية زوجة الكاهن، وقبل ذلك جرائم قتل الأقباط في الكُشح والاعتداء على الكنائس في أنحاء مختلفة من مصر، لا بد من أن توضع هذه القضية في إطارها الصحيح الأشمل الذي يتمثل أساساً في طبيعة الدولة المصرية وموقفها من قضايا الإصلاح والتطوير والتغيير التي تجري على نحو محسوب ولمصلحة جهة معينة ولا علاقة لها بأجندة وطنية تضع البلاد على طريق النهوض الحقيقي أو تحفظ تماسك الوطن. هال الدكتور العوا، عندما تحدث عن مسرحية كنيسة الإسكندرية، ما وجد فيها من إساءات. وإذا كانت المسرحية تنطوي على إساءات فلا بد من جهة رسمية تقرر ذلك، ولا بد أيضاً من إعمال القانون وما يتضمنه من محاكمة ومحاسبة من جانب الأجهزة المعنية، إذ لا يمكن إطلاقاً التسامح مع أي مساس بالعقائد الدينية. وفي الوقت نفسه، نقول بوضوح شديد إن هناك عشرات وربما مئات الكتب والكتيبات وشرائط الكاسيت التي تملأ المحلات وتباع على الأرصفة وفي الأكشاك تسب المسيحية وتتناولها بالتهكم، إضافة إلى برامج يبثها تلفزيون الدولة وقنواته المختلفة تجرح في العقيدة المسيحية. ماذا نقول عن ذلك كله، وماذا أيضاً عن حملات التحريض والكراهية التي تشن ليل نهار من قبل بعض أئمة المساجد في مصر ضد أصحاب العقائد الأخرى. إننا لا بد من أن ندين أي مساس بالعقائد الدينية من ناحية المبدأ، مع قيام الأجهزة المعنية في الدولة بأداء وظائفها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وألا يكون هناك أحد فوق القانون، ونطالب بمحاكمة من يرتكبون أي تجاوز في حق المعتقدات، بغض النظر عن انتماءاتهم ومواقعهم وعلاقاتهم الداخلية والخارجية. عاد الدكتور العوا أيضاً للحديث عن قضية زوجة الكاهن، وهو محق في بعض ما خلص إليه، لكن القضية لا بد من أن تتناول في إطار أشمل يتعلق بحرية الرأي والاعتقاد وهو أمر غير متحقق في مصر. فحرية الاعتقاد متاحة فقط - بل ومرحب بها رسمياً - لمن يريد أن يشهر إسلامه. أما العكس فدونه قائمة طويلة من العقبات ومن بعدها المخاطر، ويكفي أن نشير هنا إلى ما نشرته إحدى الصحف الأسبوعية المصرية المستقلة عند الحديث عن قضية القرص المدمج الذي يحتوي المسرحية، فذكرت أن مجموعة من المتدينين ذهبت به إدارة"مكافحة التنصير"في جهاز مباحث أمن الدولة. وسؤالي هنا أي حديث عن حرية الرأي والاعتقاد في بلد يضع ضمن هيكل أخطر جهاز للأمن الداخلي وحدة لمكافحة التحول إلى المسيحية؟ هل يستقيم وجود مثل هذه الإدارة مع أي حديث عن مبدأ أو قيمة حرية الرأي والاعتقاد؟ إذا كنا نرغب صادقين ومخلصين في إنقاذ مصر من خطر فتنة تحرق الأخضر واليابس، علينا أن نضع المشاهد والتطورات والتوترات التي تقع على خلفية دينية، ضمن السياق الأوسع لحال الدولة المصرية: ازدواجية وفساد وترهل، وانسحاب من أداء الوظائف على المستويات كافة، وعمليات للشحن الطائفي تشارك فيها هيئات حكومية على مختلف المستويات. من الظلم البين أن يجري تناول الوقائع فرادى، وأن يستحضر المبدأ أو القيمة الإنسانية في شكل انتقائي. عقلاء مصر مدعوون إلى العمل على وضع رؤية وطنية مشتركة تعالج جذور المشكلة وتطرح كل القضايا بشفافية كاملة، وصولاً إلى رؤية كلية تنهض على تكريس قيم المواطنة والمساواة، وتحترم العقائد والمعتقدات الدينية وتقر بمبدأ حرية الرأي والاعتقاد، وعندها لن نقع أسرى حسابات مصلحية ضيقة لنخب دينية ومدنية اتسع دورها أكثر مما يجب وبتنا جميعاً أسرى حساباتها، بل ويمكن أن ندفع وأبناؤنا ثمناً باهظاً لاستمرار أخطاء الأطراف المعنية بإدارة هذا الملف وخطاياها التي قد تصل بنا إلى ما حذر منه العوا: فتنة تحرق الأخضر واليابس. * كاتب مصري.