تؤكد الولاياتالمتحدة، ومعها فرنسا وبريطانيا، انها لا تعمل لتغيير النظام في سورية. ويفترض أن هذا صحيح، أو يفترض أن الأميركيين تعلموا شيئاً من التجربة العراقية. وبالعودة الى الخطابات الأساسية، خلال التحضير لغزو العراق، نجد تركيزاً على أسلحة الدمار الشامل، وعلى مخاطر الارهاب، فضلاً عن استبداد النظام العراقي السابق. كان مفهوماً أن هناك سعياً الى تغيير النظام، من دون ان يصرح به نصاً لأن الولاياتالمتحدة كانت تتطلع الى قرار دولي يضفي الشرعية على الحرب. فلو أعلنت ان هدفها تغيير النظام لما استطاعت ان تدافع عن"قضيتها"أمام مجلس الأمن، لأن تغيير الأنظمة ليس من اختصاص الأممالمتحدة. فرضت المقارنة بين حالي سورية والعراق نفسها هذه الأيام، باعتبار أن آليتي الضغط متشابهتان، فالقاضي ديتليف ميليس ذكر الكثيرين بهانز بليكس، ثم ان المطالب والاجراءات تتطلب تجاوز سيادة الدولة وفقاً لمنطق ما بعد 11 أيلول. وفي حين اصطيد النظام العراقي بغزوه الكويت يصار الآن الى اصطياد النظام السوري بملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وإذ ارسلت فرق التفتيش الى العراق، يراد ارسال لجنة التحقيق الى سورية. وكما اقتضى التفتيش الدخول الى كل الأمكنة في العراق، بات التحقيق يحتم دخول حرم النظام في سورية. وكما قاوم نظام صدام ارادة خلعه، وأتاحت له قوته وموارده ان يطيل هذه المقاومة، فإن دمشق مرشحة لأن تقاوم بدورها، لكن كثيرين يعتقدون أن أسلوبها سيختلف لأنها لا تملك القدرات التي كانت متوفرة لبغداد، وبالتالي فإنها مضطرة لخوض مقاومتها في أكثر من مكان، داخل سورية وخارجها. عملياً، تسعى الولاياتالمتحدة الى تغيير النظام في سورية، كما فعلت بالنسبة الى العراق، لكنها تتبع أسلوباً مختلفاً. أولاً، لأنها ليست موتورة ومحمومة كما كانت حالها مع العراق. ثانياً، لأنها تريد هذه المرة تضامناً دولياً. ثالثاً، لأنها غير متأكدة من الانعكاسات عراقياً. رابعاً، لأن اسرائيل ترغب فقط في إضعاف النظام وليست مطمئنة الى بدائله. خامساً، لأن واشنطن نفسها لم تجهز بديلاً من النظام كما في حال المعارضة العراقية لصدام. وسادساً، لأن تطورات العراق لا تسمح للادارة الأميركية بالتفكير في عمل عسكري تزج فيه مزيداً من الجنود، اذا توفروا لها، في سورية. الحلقة المفقودة في التخطيط الأميركي، خصوصاً اذا لم يكن الهدف تغيير النظام وانما"تغيير السلوك"، هي التوازن. أي انه يمكن الضغط لنيل كل التنازلات من سورية، لكن يجب أن يكون واضحاً ما الهدف من ذلك. التجربة العراقية لا تعطي هنا نموذجاً يمكن الاقتداء به، لا في أهدافه المعلنة ايجاد اسلحة الدمار، وضرب احتمال نشوء بؤرة ارهابية، ولا في أهدافه غير المعلنة لأن إسقاط الديكتاتورية، على رغم نبله، اسقط البلاد في ما يشبه حرباً أهلية وعزز خيارات التقسيم. في المقابل لم تطرح واشنطن أبداً إمكان استئناف محادثات السلام بين سورية واسرائيل، أقله لاختبار استعدادات دمشق لتسهيل الوصول الى حل. على العكس، استسلم الاميركيون لوجهة النظر الاسرائيلية القائلة بوجوب إضعاف النظام قبل دعوته مجدداً الى التفاوض. لكن تجربة"الاضعاف"هي نفسها التي اعتمدت مع السلطة الفلسطينية، فاسرائيل انهكت هذه السلطة، وهي تتذرع الآن ب"ضعف"هذه السلطة لتقول انها لا ترى أمامها شريكاً فلسطينياً يمكن التعامل معه. مثل هذا الخلل المكشوف في التخطيط الأميركي ينتمي الى السياسة نفسها التي صنعت السمعة السيئة للولايات المتحدة، ثم انه يبدو منذ الآن نذيراً بالكارثة أكثر مما يطمئن بأن المطلوب فقط هو كشف الحقيقة في اغتيال الحريري. طبعاً، لا شيء يبرر هذا الاغتيال، ولا بد من ايجاد القتلة ومعاقبتهم، وفي الوقت نفسه من شأن الجميع، لبنانيين وسوريين وعراقيين وفلسطينيين، أن ينبهوا واشنطنودمشق الى ان اللعبة كما تدار حالياً ستؤدي الى تعميم البؤرة الارهابية وتوسيعها.