يبدو لنا أن مرحلة ما بعد الهجوم الأميركي على العراق بعد فشل العالم العربي والعالم كله في توقي هذا الهجوم، تحمل الكثير من الفرص لإعادة تشكيل النظام العربي الذي أصابه شرخ حاد بغزو العراق للكويت العام 1990، ودلالاته التي لا يجوز أن تخفى عند قراءة الخريطة العربية خلال السنوات القليلة الماضية. وهذه الرؤية تقوم على افتراض أن غزو العراق للكويت واستمرار الملف العراقي بجوانبه المأساوية، فضلاً عن تجمد محاولات المصالحة العراقية الخليجية لأسباب بعضها يرجع إلى السياسة الأميركية ومخططاتها في المنطقة، كما يرجع بعضها الآخر إلى حساسية العلاقات العراقيةالكويتية وإلى البيئة العربية عموما. ولا شك أن جزءاً مهماً من ضعف الموقف العربي إزاء اعتزام الولاياتالمتحدة مهاجمة العراق يرجع إلى هذا الخلط الذي وقع وكان للولايات المتحدة دور فيه بين نظام العراق وشخصية الرئيس صدام حسين من ناحية وبين العراق كدولة وشعب لهما تاريخ وموقع متميز في الحضارات القديمة العربية والإسلامية. فقد أظهر جانب من العالم العربي تفهمه لقضية إزاحة النظام في العراق الذي سجل في الجانب السلبي منه سطوراً مؤلمة وتحالف مع الولاياتالمتحدة ولعب أدواراً مشبوهة أوصلت المنطقة إلى ما هي فيه من عجز وورطة في مواجهة كل من إسرائيل والولاياتالمتحدة. فإذا كان الإتفاق بين الجميع تاماً ولو بدرجات متفاوتة حول مصير الرئيس العراقي ونظامه الذي استعدى عليه الجميع وألحق الضرر بشعبه والمنطقة وبالعالمين العربي والإسلامي، فقد بقي الخلاف قائماً حول اسلوب تغيير هذا النظام، وطريقة المحافظة على سلامة العراق ووحدة أراضيه. وفي ضوء ما تقدم، فمن الواضح أن العراق بنظامه السياسي السابق كان إحدى العقبات الكبرى في إعادة تشكيل النظام العربي، بمفهوم مشترك للأمن القومي العربي بعد أن انقسم هذا المفهوم وأصيب المفهوم نفسه بضرر بالغ بعد أن تحداه العراق واستنجد النظام نفسه بقوى خارجية لتعزيزه، وبعد أن أصبح المفهوم نفسه لا يفيد أحداً في الخليج بعد تجربة الغزو، وفي فلسطين في مواجهة إسرائيل. والمؤسف أن مفهوم الأمن القومي العربي الذي تاجر به بعث العراق سنوات عدة ثم قبره، هو المفهوم نفسه الذي حاول أن يستنهضه ليدفع عنه العدوان الأميركي بعد أن أصرت واشنطن على إنهاء اللعبة مع هذا النظام. وإذا كانت دول الخليج جميعاً استضافت قوات أميركية وبريطانية من أجل التخلص عسكرياً من النظام العراقي، وقدمت الكويت أراضيها مسرحاً لإنطلاق هذه القوات، فإن مبرر وجود القوات واستضافتها زال، على أساس أن غزو العراق للكويت أعاد ترتيب مصادر تهديد الأمن في العالم العربي بعد أن بدد مفهوم الأمن القومي العربي، فأصبح لكل دولة أمنها الخاص ومصادر التهديد الخاصة بهذا الأمن ولم تعد إسرائيل في نظر دول الخليج هي المهدد لأمنها بعد أن أصبح العراق هو المهدد الحقيقي، ومن ثم كان من المقبول أن تظل القوات البريطانية والأميركية تتربص بأي عدوان عراقي. ولا يجوز لدول الخليج أن تكون مقراً لقوات أميركية تشكل خطراً على المنطقة بعد زوال مبررات استخدامها. والحق أن التصريحات الأميركية والإسرائيلية التي تلتقي عند هدف واحد على حساب المصالح العربية العليا والمقترحات الإسرائيلية للإستفادة من وضع العراق في إنشاء حلف لبغداد يضم إسرائيل والأردن، وربما تركيا تحت رعاية أميركية، ستكون تحدياً حقيقياً لمحاولات إحياء النظام العربي وتهديد المصالح العربية تهديداً خطيراً والتعجيل بسيطرة إسرائيل ولتنفيذ مخططاتها التي تعلنها كل يوم في هذه الظروف النادرة. ولعل من أهم محفزات إحياء النظام الإقليمي العربي على أساس الحد الأدنى الذي لا يجوز النزول عنه بعد هذه التجارب المريرة هو ما يتردد وتؤكده الإشارات والتلميحات الأميركية والإسرائيلية بشأن سورية. فقد بدأت إسرائيل في التنسيق مع تركيا لتوسيع الدور التركي ولإعداد المسرح ربما للضحية المقبلة، وهي سورية بالسيناريو الأميركي التقليدي نفسه حيث أصبحت كلمة السر في المخطط الأميركي أسلحة الدمار الشامل. فقد اتهمت واشنطن سورية بأنها تستضيف أسلحة الدمار الشامل التي هربت من العراق واختبأت في سورية، كما اتهمت اسرائيل سورية بأنها تقوم بتصنيع أسلحة كيماوية، بالإضافة إلى عدم تعاون سورية مع الولاياتالمتحدة تعاوناً كاملاً لتنفيذ مخططها في العراق. وأضافت واشنطن ذرائع أخرى، وهي احتضان سورية للمنظمات الفلسطينية وحزب الله التي تعتبرها واشنطن منظمات إرهابية، وإيواء سورية لبعض قادة النظام العراقي السابق، وتزويدها للعراق بمعدات حربية مشتراة من روسيا، وتيسير دخول المجاهدين العرب إلى العراق من أراضيها، وإعلانها عن موقف معاد للولايات المتحدة في العراق من خلال إدانتها للغزو والإحتلال واشادتها بالمقاومة العراقية وإعلان حرصها على رحيل القوات الأميركية وقيام حكومة عراقية وطنية. إزاء هذه الإتهامات تدخلت روسيا والإتحاد الأوربي، وطالبت الطرفين السوري والأميركي بضبط النفس، كما نفت سورية هذه الإتهامات جميعاً، وهي اتهامات لو صحت فإنها يجب ان تكون فخراً لسورية، وليست عيباً أو نقيصة تنفر منها. ولعل غياب الموقف العربي الحازم يمكن أن يحقق السيناريو الأميركي والذي يبدأ بالاتهام فتقوم الضحية بالإنكار فيصر المدعي على التفتيش وخلال التفتيش يكون قد جهز ترتيبات الهجوم ويكون للحملة النفسية المكثفة أثرها في سقوط النظام وتخلخل الأوضاع، وهو الهدف المطلوب. والحق أن العالم العربي يجب أن يكون قلباً واحداً مع سورية وأن يساند العالم كله هذا الموقف العربي، ويجب أن تعلم الولاياتالمتحدة الفوارق الحاسمة بين سورية والعراق، مادامت مندفعة وراء تحقيق المخطط الصهيوني، أما الفارق الأول، فهو أن نظام العراق كان نقطة التقاء كل المخالفين له في الداخل والخارج بعد أن استعدى عليه الجميع خصوصاً الدول المحيطة به. أما النظام في دمشق فهو يمضي في برنامج الإصلاح والمصالحة وإعادة بناء المجتمع بشيء من الحرية والإنتماء، ويتسم النظام بالصدق في أطروحاته العربية والصفاء في تناوله للقضايا المصيرية. ولم يكن النظام في سورية يوماً عبئاً على النظام العربي، ولم يسع إلى تحديه أو تحطيمه كما حدث في حال العراق. ولعل مساندة سورية للعراق - إن صحت - هي مساندة للدولة المعتدى عليها وليس مساندة لنظام بينه وبين سورية هامش كبير من الخلافات. ومن الواضح أن إتهام واشنطن للعراق بحيازة أسلحة الدمار الشامل واعتبارها قضية محورية وصدور قرار مجلس الأمن 687 أساساً بشأنها أوقع في النفوس حرمة حيازة هذه الأسلحة على الدول العربية، بينما يجوز لإسرائيل أن تحوز منها ما تشاء. الفارق الثاني بين العراق وسورية، أن سورية نفسها وقفت ضد العراق وساهمت في تحرير الكويت إنسجاماً مع قرارات الجامعة العربية والأمم المتحدة. ومن ناحية ثالثة، فإن لسورية قضية مع إسرائيل وهي احتلال إسرائيل للجولان ورفضها الإنسحاب، بل وضمها إليها العام 1981. ومن ناحية رابعة فإن اتهام سورية بمساندة حزب الله والمنظمات الفلسطينية، لو صحت فإنها ترفع مكانة سورية في العالم العربي، فلا يزال نموذج حزب الله ودحره للقوات الإسرائيلية من جنوبلبنان طاقة الضوء المشرقة في النضال العربي. وهناك طريقتان للتعامل مع الأزمة الجديدة بين سورية والولاياتالمتحدة رغم أن الأخيرة تقحم نفسها وتنصب نفسها من دون سند أو مرجعية رقيباً وطرفاً. أما الطريقة الأولى: فهي الحوار بين الولاياتالمتحدة وسورية لتحديد سبب النزاع المصطنع بينهما. وهذه الطريقة مفيدة للغاية في أمرٍ واحد وهو استجلاء الاهداف الأميركية علناً، وفي ذلك دعم للموقف السوري رغم أن الانطباع السائد لدى المراقبين هو أن الحوار يهدف إلى أحد أمرين، أولهما: أن تشكل الولاياتالمتحدة خطوات السيناريو حتى تظهر للعالم أنها تستنفد كل وسائل التسوية السلمية. وهذا يفترض في ما يرجح المراقبون، أن الولاياتالمتحدة تعتزم مهاجمة سورية، وأن ما تدعيه وتنسبه لسورية ليس سوى ذرائع لن يكون أي تعاون سوري معها شفيعاً في مهاجمتها، مادام الهجوم بذاته وليس ما يمكن أن يحققه من أهداف هو المبتغى. وهذا الرأي يجد سنده في التصريحات الرسمية الأميركية وفي المخطط الإسرائيلي الذي يبدو أن الولاياتالمتحدة تلتزم به إلتزاماً حرفياً. الأمر الثاني أن الحوار يمكن أن يؤدي إلى تحقيق أهداف المسعى الأميركي أو معظم هذه الأهداف من دون حاجة إلى مواجهة تكاليف الهجوم العسكري على سورية السياسية، وغيرها. ولذلك فإن هذا الإحتمال يجرنا إلى بحث مدى استعداد سورية للتجاوب مع المطالب الأميركية كلها أو بعضها من دون أن تضل دمشق في التحليل الأخير عن أسس موقفها. أما الطريقة الثانية للتعامل مع الأزمة فهي مواجهة الولاياتالمتحدة وتحديها وتوسيع التحرك في هذه المواجهة وتجنيد كل الساحات والأوراق والرد التفصيلي على الإتهامات الأميركية الصادرة ممن لا يجوز له الإتهام. غير أن هذا المنهج لا يمكن أن يصل إلى نتيجة إيجابية والأفضل أن تنهج سورية كل الطرق الممكنة بديبلوماسية منطقية بعد أن ألقت واشنطن العبء على الجانب السوري الذي أصبح ينشغل بالتخلص من هذا العبء، ودفع هذه التهم. فهل يفند الجانب السوري التهم من منطلق أنها في الواقع ليست تهماً، وأن هذه الأفعال إن صحت ليست محل مؤاخذة أو تجريم، أم تقرر سورية منهجاً يصل إلى حد القبول ببعضها والإعتذار عن بعضها الآخر والكف عن بعضها الثالث. وعلى سبيل المثال فإن واشنطن تتهم سورية بحيازة أسلحة الدمار الشامل، وردت دمشق على ذلك بأنها ترفض تفتيش أراضيها والدخول في مسلسل مفهوم، ولكنها في الوقت نفسه مستعدة لإبرام إتفاقية دولية توقع عليها كل دول المنطقة بما في ذلك إسرائيل للتخلص أو لمنع حيازة أسلحة الدمار الشامل، وهذا الرد السوري يتسق مع الحقيقة ويجب أن يكون هو رد العالم العربي كله، لأنه يعني أن مسألة التفتيش على أسلحة الدمار الشامل يجب أن تكون شاملة لكل دول المنطقة، ويجب أن يصدر بذلك من حيث المبدأ قرار من مجلس الأمن، وأن تكون تلك مناسبة لإلتزام دولي شامل في هذا الشأن. وأخيراً فإن تحرش الولاياتالمتحدة بسورية تنفيذاً لمخطط معلن سلفاً يجب أن يواجه بموقف عربي حازم يستثمر الجوانب الإيجابية الكثيرة في سورية والفوارق الحاسمة بينها وبين العراق الذي كان نظام الحكم فيه سبباً في خلط الأوراق وتشتت المشاعر وتمزق المواقف. أما أن تتبنى واشنطن علناً مخططاً إسرائيلياً مكشوفاً لمهاجمة دول عربية أخرى بدءاً بسورية فإن التصدي لهذا المخطط هو بداية انهاض عربي جديد يشعر الولاياتالمتحدة بأن المنطقة العربية لا تعاني من فراغ القوة ومن ثم فهي ليست بحاجة إلى وصاية مادامت أهليتها كاملة وقدرتها على الأداء لا لبس فيها، ويجب ألا تقرأ واشنطن ماحدث للعراق قراءة اسرائيلية تدفعها دفعاً إلى ما يناقض تماماً المصالح الأميركية، مادامت إسرائيل لا يهمها تلك المصالح، ومع ذلك تجد تعاطف البيت الأبيض مع تطلعاتها. والخلاصة أنه إذا كان التخطيط لضرب سورية سببه الوحيد أنها من قلاع الصمود العربي والصوت العربي الحر، فإن تلك يجب ان تكون من أهم دوافع إحياء النظام العربي القادر على التماسك للدفاع عن قيم المجتمع العربي وحقوقه الاساسية، خصوصاً إذا تبين حقاً أن ضرب سورية هو جزء من استكمال مخطط تقليم أظافر القوى الرئيسية العربية. * كاتب مصر