ظلت حياة عرفات السياسية صاخبة، وكانت دوماً حافلة بالأحداث مليئة بالحركة والمفاجآت. وعاش أكثر من نصف قرن في ميدان العمل السياسي والحركي وسط حقول من الألغام والمتفجرات، كانت دائماً قابلة للاشتعال السريع والانفجار في كل لحظة. لكن مرونته و"ميكيافيليته"وقدرته العالية على قراءة حركة الزوابع السياسية قبل وصولها اليه واتقانه المناورة والتكتيك وبناء التحالفات وفكها بسرعة... الخ، مكنته من الخروج بسلام من الكمائن السياسية والحزبية التي نصبت في طريقه. كما أولى العلاقات الشخصية مع الناس والكوادر والزعماء أهمية كبيرة، وتعامل معها باعتبارها ركناً مهماً من أركان العمل من أجل القضية وكسب التضامن ضد الظلم، وايضاً لتعزيز الدور القيادي والمكانة الشخصية. ونجح في مقاومة محاولات تقليص نفوذه وتحويله الى شخصية رمزية مجردة من الصلاحيات. آمن ابو عمار بالسلاح وسيلة لتحقيق أهداف شعبه لكنه لم يهمل الحلول السياسية. ورغم تشبثه بلباسه العسكري واعتزازه بأنه مقاتل، الا أنه كان رجل سياسة ناضل بصدق من أجل صنع سلام حقيقي مع الاسرائيليين. رفع غصن الزيتون في غمرة تمجيد الكفاح المسلح وناشد الأممالمتحدة"لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". وساهم بفعالية في اقناع دول العالم وزعمائها بعدالة قضية شعبه وبحقه في الحرية والاستقلال. ونجح في دفع الحركة الفلسطينية خطوة نوعية باتجاه الواقعية. وكان دوره حاسماً في بلورة البرنامج المرحلي العام 1974 الذي جمد تحرير فلسطين من النهر الى البحر وأقر دولة على جزء من الأرض. وفي عهده نبذ الفلسطينيون الارهاب واعترفوا بالقرارين 242 و338 أساساً لحل النزاع، ووافقوا على دولة حدودها أراضي الضفة والقطاع التي احتلت العام 1967. ومن دون جهده لم يكن ممكناً تمرير"مبادرة السلام الفلسطينية"العام 1988 التي وافق فيها"البرلمان"على قيام دولتين للشعبين على أرض فلسطين التاريخية، وهو الذي تحمل وزر قبول اتفاق أوسلو الشهير العام 1993. ولا أحد سواه كان يمكنه انتزاع قرار المجلس الوطني العام 1996 الذي الغى بنود"الميثاق الوطني"شبه المقدس عند الفلسطينيين. أدرك عرفات مبكراً ان المال والعسكر والإعلام أركان أساسية من أركان الحكم، وأحكم سيطرته عليها في"فتح"ومنظمة التحرير. ولم يرد في حياته طلب مساعدة وصل يديه، واشتهر بأنه صاحب قرار"يصرف له". وصرف بقلمه مساعدات مالية كبيرة استفاد منها ناس فقراء محتاجون كثيرون في جميع المناطق ومن كل الفئات، واستفاد من سخائه ايضاً محتالون ونصابون وبعضهم جمع ثروة، وظلت أوامره اليومية تخرق القوانين والنظم المالية والتنظيمية والادارية. كان رجلاً تكتيكياً، وسياسياً مناوراً من طراز رفيع خاصة في ادارة الصراعات الداخلية، ونجح بجدارة في إحكام سيطرته على الوضع"الفتحاوي"الخاص والفلسطيني العام، وتفرد في قيادة السفينة وسط البحور الهائجة التي عبرتها في النصف الثاني من القرن العشرين. وحافظ بثقله المعنوي والسياسي على جملة من التوازنات داخل"فتح"وفي الساحة الفلسطينية. والمحافظة على هذه التوازنات والتحكم بها يفرضان على خليفته العمل لسنوات طويلة. فرض عرفات بأساليب مختلفة مواقفه وتوجهاته السياسية والتنظيمية على عموم الحركة الفلسطينية، وكرس نمطاً خاصاً من العلاقات يمكن وصفها ب"ديموقراطية التراضي"سماها"ديموقراطية غابة البنادق". كان يسمع آراء الجميع وفي النهاية يتخذ القرار الذي يراه مناسباً. صحيح أنه حرص على بناء مؤسسات وهيئات قيادية، لكنه الصحيح ايضاً أنه أبقاها شكلية ولم يحترم يوماً قراراتها. لم ينسف عرفات جسراً بناه مع عدو أو صديق، وكان يحرص على بقاء شعرة معاوية حتى في علاقته مع الشيطان. كان عنيداً في الدفاع عن القضايا الوطنية وظلت مناكفة الملوك والرؤساء العرب وغير العرب حول المسائل الفلسطينية الجوهرية تبعث في نفسه نشوة استثنائية. وبقي حتى آخر يوم في حياته يتباهى بجرأته في التصدي لكل من حاول التطاول على الشعب وحقوقه المشروعة، وآخرها، أنه الوحيد بين الزعماء العرب الذي قال لا كبيرة لرئيس أميركي كلينتون في عقر داره في البيت الابيض عندما طالبه بتقديم تنازلات تمس الثوابت الوطنية المتعلقة بالقدس والارض وحقوق اللاجئين. واذا كان عرفات معروفاً في أوساط النظام الرسمي العربي بأنه مفتعل الأزمات ومنبع المشاكل، واتهم في عهد بوش وشارون بالارهاب والفساد وتزعم حركة ارهابية وأنه يقود شعبه نحو الهلاك... الخ، فإن وقائع الحياة تؤكد ايضاً أنه لم يكن متطرفاً، ومثّل تيار الاعتدال في الساحة الفلسطينية. وهو نفسه منح بعد اتفاق اوسلو شهادة رجل سلام يؤمن بالتعايش بين الشعبين. ان رجلاً حاز على جائزة نوبل للسلام وسجل رقماً قياسياً في زيارة واشنطن ودخول البيت الابيض و دخله اكثر من 30 مرة لا يمكن ان يكون ارهابياً يعشق القتل والدمار. واذا كان"ابو مازن"و"ابو علاء"هندسا اتفاق اوسلو، فالصحيح ان عرفات كان مرجعيتهما ولعب دور كبير المهندسين. وكانا يعودان اليه في كل صغيرة وكبيرة، ويبقى هو المسؤول عن سلبيات وايجابيات هذا الاتفاق وكل الاتفاقات التي انبثقت عنه. في عهده فجر الشعب الفلسطيني انتفاضتين ضد الاحتلال، الاولى لم يكن للقيادة الفلسطينية دور في تفجيرها، لكن عرفات ببراعته ركب موجتها وقادها من بعيد وصار مرجعيتها والتزمت قيادتها بمواقفه وقراراته. اما الانتفاضة الثانية فيمكن القول بتجرد ان عرفات استغل زيارة شارون للحرم القدسي الشريف وكره الناس للاحتلال في تفجيرها، واستثمر الغضب الشعبي الفلسطيني من التلاعب بعملية السلام في تأجيجها. ولم يحاول ابو عمار التنصل من مسؤوليته عندما اتهم بتفجيرها. ولم يتردد في عسكرتها ورأى في ذلك أداة ضغط. ولم يعترض على بيان"فتح"الذي اعتبر"الانتفاضة خياراً استراتيجياً للتحرير... ويجب استهداف العدو داخل ما يسمى بالخط الاخضر"، ولم يأبه للتهديدات الاسرائيلية رداً على البيان. الى ذلك، أكدت وقائع الحياة ان تشجيع عسكرة الانتفاضة، مع اندفاع البعض في عمليات انتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين، عزز التطرف في الساحة الفلسطينية وألحق أضراراً بالمصالح الفلسطينية العليا وسهل على شارون وصم النضال الفلسطيني بالارهاب. وأظن ان مبالغة عرفات في تأثيرات الانتفاضة على الموقفين الاسرائيلي والدولي قادته الى تبني مواقف متشددة ألحقت خسائر بالشعب الفلسطيني. وضيّع عرفات فرصة تحسين الموقف الفلسطيني والتوصل الى اتفاق"ناقص"يتم بموجبه حل معظم القضايا الرئيسية وتأجيل قضيتي القدس واللاجئين ومن دون الالتزام بإنهاء النزاع. وعندما اشتد الحصار من حوله ولم يتحرك أحد لنجدته، قال:"أعرف ان الحصار سيطول وأنا ادفع ثمن موقفي في كامب ديفيد ورفضي الخضوع للارادة الاميركية والاستسلام للشروط الاسرائيلية". تمتع عرفات بقدرة عالية على الحدس وكانت بمثابة حاسة سادسة اعتمد عليها احياناً كثيرة في تقدير الموقف ورسم التوجهات. لكن حدسه اخطأ حين استهتر بتولي شارون رئاسة الوزراء وواصل اللعب في الملعب العسكري حيث يتفوق عدوه. وارتبك عرفات في التعامل مع أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 ومع اعلان الادارة الاميركية الحرب على الارهاب، وتسبب ذلك في خسائر للفلسطينيين. وسهل على شارون إلصاق تهمة الارهاب بالنضال الفلسطيني العادل والمشروع. واستغل شارون ذلك وطور اعمال القتل ووسع عمليات الاعتقال، ودمر اجهزة السلطة وفرض الاقامة الجبرية على عرفات نفسه من دون رادع. ولكن، على رغم الاخطاء والملاحظات الكثيرة التي يمكن ان تسجل على مواقف عرفات واسلوبه في الحكم، فإنه نجح في إحياء قضية شعبه وأعاد اسم فلسطين الى خريطة المنطقة الجيوسياسية وقاد ربعه نحو الاعتزاز بهويتهم. وساهم في ايقاظ أمة من سباتها ونبهها الى أخطار استراتيجية تحيق بها. وظل يؤمن بأن الثورة ستنتصر وتقوم دولة فلسطين وعاصمتها القدس، وان طفلاً سيرفع علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس"شاء من شاء وأبى من أبى". وسيؤكد التاريخ ايضاً ان رحيله خسارة كبيرة لحقت بصنع السلام في الشرق الاوسط وأنه كان صادقاً حين قال:"عقدنا اتفاق اوسلو وعدنا للوطن مقتنعين بصنع السلام، لكننا وجدنا مجتمعاً اسرائيلياً غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى أبعد من أنفها، تحاول شطب التاريخ وتحويل السلام الى استسلام". وأظن انه الوحيد الذي كان قادراً على خرق المحرمات وتحمل اعباء توقيع اتفاق حول قضايا القدس واللاجئين يتضمن تنازلات تاريخية. ان القيادة الاسرائيلية ارتكبت خطأ استراتيجياً عندما لم تستثمر مرحلة عرفات في الوصول لحل نهائي للنزاع وسيدفع الشعبان الفلسطيني والاسرائيلي وشعوب المنطقة ثمناً باهظاً لهذا الخطأ الجسيم. * كاتب فلسطيني، رام الله.