الفصل شتاء والطقس غائم والسحب مثقلة بالأمطار، الغيوم تتكاثف تنبئ عن مطر شديد سينهمر في وقت قريب. ورياح تهب مسرعة عاصفة تأتي على كل ما يتعرض طريقها حين أتى أبو ظافر الطحان وولده للغداء. ما ان جلسا ليأكلا حتى برقت وهطلت المياه بغزارة، فقال الأب انهض يا بني لنرفع أكياس الدقيق من أرض الطاحونة الى الطابق العالي، لم يكملا طعامهما نهضا وانحدرا في طريق متعرجة الى الطاحون بمحاذاة النهر الذي فاض فيضاناً هائلاً لانصباب الهاطل من السماء انصباباً شديداً، وغمر الطاحون التي انهارت من قوة دفع المياه المتدفقة، فذهبت الغلال من قمح وحنطة، وغرق أبو ظافر وابنه وتناهى النبأ الى ربة البيت فلم تصدق الخبر الذي نزل عليها صاعقة هدت كيانها، الى ان رأت مياه النهر تطفو وتغمر البطاح. علا صراخها تنعى الزوج والولد، وهمت أن تلقي بنفسها في المياه فحال اخوتها وجيرانها بينها والتهلكة. ونظرت الى المائدة فوجدت رغيف ظافر مقضوماً وعلامة أسنانه واضحة في قضمة"لقمة"من الرغيف، وذهبت الى صانع لوحات. جعلت من الرغيف"بورتريه"وعلقته على الجدار. بعد أيام انحسرت مياه النهر فدلفت الى شاطئه لترى ما فعل في طوفانه. وبينما هي تخطر رأت أسورة ظافر التي كان يضعها في معصمه فتلقفتها غير مصدقة، حملتها، نظفتها ووضعتها على المنضدة، وكانت كلما اشتد أساها أمسكت بالأسورة تخاطبها، ووقفت أمام الرغيف تكلمه. وتحدث الناس عن أم ظافر تهذي، وساور أقرباءها الخوف من اختلال قواها العقلية، وظل النهر سنين ساكناً لا يفيض. ومرت سنة شحت مياهه، تلتها سنة أخرى أكثر شحاً وتحول الى ساقية، واستمر الجفاف وكادت مياهه تنقطع. خيط رفيع لا يروي غلة. وضج الناس وشعروا بالخطر. اليباس أصاب النبات والأرض بارت وغدت كصحراء ويكاد يهلك الزرع والضرع. وواصل الناس الصلاة والابتهال الى الله ان يعينهم، كانت أم ظافر ترى تلهف الناس الى المطر وهي تطل من نافذتها ترمق مجرى النهر وقد جف. وتسمع ضراعة الناس ولهفتهم الى المياه التي انحبست سنين، فذهبت الى المنضدة وتناولت الأسورة وألقتها من النافذة في مجرى النهر. وما هي الا هنيهة حتى أمطرت مطراً شديداً وتدفقت مياه النهر وغمرت البطاح ودبت الحياة على الأرض من جديد. محمد زهري حجازي - لبنان عضو اتحاد الكتّاب اللبنانيينطرابلس لبنان