البوسطة"في الذاكرة الشعبية اللبنانية، كلمة موشحة بالسواد، تعيدنا سنوات الى الوراء وتحديداً الى شهر نيسان أبريل من عام 1975 في منطقة عين الرمانة حيث اشتعلت الشرارة الاولى للحرب. أما"بوسطة"فيليب عرقتنجي ففيلم سينمائي"مئة في المئة لبناني"? كما يقول صاحبه - أبصر النور منذ أيام، ويبدأ عروضه التجارية في اوائل الشهر المقبل. وبين"بوسطة"عين الرمانة و"بوسطة"فيليب عرقتنجي فرق كبير. الاولى دخلت التاريخ وباتت رمزاً للقتل والدمار والتشريد، أما الثانية فما هي إلا تحية للحياة... والبديهي، ان اختيار عرقتنجي"البوسطة"لم يكن بريئاً، أو عشوائياً... فهو، إذ تعمد أن تكون عنوان فيلمه الروائي الطويل الاول، أراد من خلال هذا العمل أن يدمل جراح الماضي وصولاً الى مصالحة حقيقية مع الذات، مع الأجيال جيل الآباء وجيل الاولاد مع الوطن الام، من دون العودة الى الحرب مجدداً بعد ان عالجها في أفلام وثائقية عدة. إذن، بيروت ما بعد الحرب هي الإطار الزمني لهذا الفيلم، ومع هذا لم تغب بيروت الحرب عنه إطلاقاً، حتى وإن لم نشاهد مظاهر القتل والدمار والخراب، او نسمع صراخ الأطفال ودوي القذائف والانفجارات، إلا في مشهد او اثنين عاد بهما المخرج الى صور الماضي الاليم. مدرسة عاليه النموذجية بعدما أضحت خربة نتيجة القصف، سيارة الإسعاف تنقل بطل الفيلم إثر انفجار عبوة ناسفة.... أكثر من هذا، تسيطر بيروت الحرب على كيان كمال بطل الفيلم بالكامل، فتظهر جلياً في ضياعه، وشكوكه وخوفه.. وأيضاً في جراحه الجسدية والنفسية. من دون ان يعني هذا اننا امام فيلم عن الحرب. رحلة 15 سنة قضاها بطلنا أدى دوره رودني الحداد ببراعة تامة في المهجر في فرنسا هرباً من حرب لم ترحم أحداً، إذ لم تكتف بإعاقته جسدياً وتشريده بل اغتالت أيضاً أكثر من يحب، والده. العودة الى الوطن لن تكون سهلة خصوصاً لما تكتنزه من ذكريات فيها الحلو والمرّ. لكن لا بد من هذه الخطوة، خصوصاً أن حبيبته عليا أدت دورها نادين لبكي في انتظاره. هدف واحد يضعه كمال نصب عينيه بعد العودة: لمَ لا يعيد إحياء فرقة الدبكة التي انشأها وزملاؤه في صفوف الدراسة في مدرسة عاليه النموذجية؟ وهكذا كان. رحلة نحو المستقبل، مستقبل هؤلاء الشبان... توازيها رحلة الى الماضي، الى الذكريات الأليمة، يقودها كمال ومجموعة الأصحاب باندفاع شديد، بعد أن يلموا الشمل من جديد، ويتبعوا طموحاتهم. طريق المجد كالعادة، لن تكون مفروشة بالورود. وعلى هذا النحو يواجه أبطالنا الصدمة تلو الصدمة. بداية، يتم استبعادهم من مهرجان عنجر للدبكة بحجة أنهم يلحقون الضرر بالمثال الثقافي الوحيد المتبقي، بإدخالهم موسيقي غربية على التراث والفولكلور اللبناني، وابتكارهم الدبكة الإلكترونية، وصولاً الى تشتت الفريق بين مؤيد للدبكة المتجددة ومحافظ على الاصالة والتراث، ليحسم الامر، ويقرر الأصدقاء السير قدماً بلا أية مخاوف ? حتى ولم يقتنع الكل -، والتنقل بين المناطق اللبنانية لتقديم عروضهم. ولهذه الغاية ينبشون"بوسطة"المدرسة القديمة، ينفضون عنها الغبار، يطلونها بألوان زاهية، وينطلقون. أين المصفقون وهنا تبدأ رحلة الشباب الى العالم الجديد، الى عالم الدبكة الالكترونية... دبكة لن يتقبلها الجمهور على الفور، من هنا لم يكن غريباً ألا يجد أبطالنا من يصفق لهم في راشيا، حيث استدعوا لعرض على هامش حفلة أقيمت لصباح، وظهرت الشحرورة في هذه اللقطة من الفيلم بكامل إشراقها... من دون أن نفهم كيف انقلب الجمهور 180 درجة حين انهى الشبان عرضهم وخرجوا الى الشارع فاستقبلوهم بكل ترحاب. بعد راشيا، كرّت سبحة العروض، في بعلبك وجونية وصولاً الى عنجر... وفي كل محطة تكشف لنا"بوسطة"عرقتنجي عينات من المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا، من الخيانة الزوجية، الى صعوبة الحب الذي يربط اثنين من ديانتين مختلفتين، وصولاً الى المثلية الجنسية، وسواها من المشكلات التي مرّ عليها عرقتنجي مرور الكرام، لأنه، كما يبدو، لم يشأ لفيلمه أن يعالجها بقدر ما اراد منه أن يكون فيلماً استعراضياً يجمع الموسيقى والرقص والفرح وحب الحياة. وفي هذا الإطار نجح المخرج في مسعاه هذا، خصوصاً من خلال اللوحات الراقصة، والموسيقى والألوان الزاهية النابضة بالحياة، ما وضعنا امام عمل بصري بامتياز، أكثر من أي شيء آخر.