لا شيء يضاهي طقوس العبور من ثقافة الى أخرى. انها رحلة تجلب اليك ادراكاً أوسع وفهماً أكبر لطبيعة العلاقات البشرية". يأتي هذا الكلام من أحد شخصيات كتاب جايسن وبستر، ويدعى طاهر شاه، ليختصر موجة عارمة من الكتب الروائية والتاريخية على السواء ما فتئت تملأ واجهات المكتبات في الغرب بعد 11/9/2005 البائس الذكر! هناك، في الواقع هاجس متوتر، مستجد، لدى دور النشر الأوروبية والأميركية يمكن تسميته بهاجس"البحث عن الآخر". الآخر المسلم. الآخر الشرقي. الآخر الأسمر. ذلك الآخر الذي"هزّ كياننا وقضّ مضجعنا"بحسب أحد النقاد الكنديين. وفي الكتاب المنوّه عنه أعلاه، كما في الكتابين الواردين لاحقاً، برهان قاطع على ان السنوات الأربع التي تلت الانفجار الكبير في نيويورك حرّكت فضول اصحاب الأقلام في اتجاه معرفة"الآخر"، الذي هو نحن في النهاية. وفي كتابه"دويندي"، والكلمة تعني"الطرب"أو"السلطنة"يقع جايسن وبستر في غرام اللغة العربية ويذهب الى اوكسفورد لدراستها، إلا ان مصدر شغفه ب"كشف السرّ"سرعان ما يتجه نحو الأثر الأخير للحضارة العربية في أوروبا، وإذا به ينسى أوكسفورد هاجراً حبيبته الى فلورنسا، ليغوص في عالم الفلامينغو. أراد وبستر، شأنه في ذلك شأن معظم الانكليز حين يصيبهم هوس ما، ان يمتلئ من مصدر شغفه حتى الثمالة، فأخذته المغامرة أبعد مما كان يتصوّر، وعلّمته ان الواقع شيء والخيال شيء مختلف تماماً. وصف الكاتب والشاعر الألماني الرومنطيقي الطرب بأنه قوة داخلية لا يمكن شرحها. وما استطاع وبستر شرحها علماً أنه بذل جهداً كبيراً، حتى انه تعلّم العزف على القيثارة وأتقنها وانخرط في إحدى الفرق الغجرية وتورّط في علاقات غرامية خطرة على غرار ما حصل في حياة تلك الفرق وترحالها. أراد وبستر ان يصاب بلفح حقيقي، ملموس، من روح ذلك"الآخر"عبر الفن - الحياة، وكانت تجربته رائعة ومروعة في آن، لكنها أثمرت أحد الكتب الأكثر امتاعاً ودلالة على ما يسمى بطقوس العبور من ثقافة الى اخرى. "المسلمون في إسبانيا بين العام 1500 والعام 1614"كتاب ثانٍ يقارب الموضوع نفسه من وجهة التأريخ والتحليل الثقافي، صدر أخيراً في شيكاغو للبحاثة ل. ب. هارفي. ويركز هارفي على عناصر التعايش والتضاد بين المسلمين والمسيحيين الأوروبيين، ويدعو الى التبحّر في الأثر الايجابي لتلاقح الثقافتين مؤكداً ان ذلك التلاقح عميق الجذور في الثقافة الأوروبية المعاصرة. ويأتي وصفه للحياة الاندلسية خلال القرن السادس عشر مطابقاً لنمو التعددية الثقافية وتوليد ثقافة غنية في ظل التعايش بين الأديان. ويركز هارفي، من ضمن تفاصيل معيشية دقيقة وكثيرة، على الأدب العربي في الفترة الأندلسية، والثراء الذي أضفاه الفنانون والمبدعون العرب على التيار العام للثقافة الأوروبية. ويتبدّى من الدراسة التي يوردها لنسيج العلاقات والتجاذبات بين القوى السياسية، محلية واقليمية، ان الظروف الراهنة التي نشهد فيها حذراً وتخوفاً اوروبيين حيال المسلمين المتشددين ليست ظاهرة جديدة، والعكس صحيح نسبة الى المبشرين المسيحيين الذين طاردوا المسلمين وأجبروهم على العماد. ويتضمن كتاب هارفي تحذيراً ضمنياً من تكرار تاريخي لفترة ما بعد خروج العرب من اسبانيا، ناهيك عن مراحل التفكك والانحلال التي سبقت ذلك. "المستشرق: بحثاً عن رجل عالق بين الشرق والغرب"، كتاب غريب ومدهش ومثير للفضول، وقعه الصحافي طوم ريس ونشرته هذا الصيف دار"شاتو"العالمية. يكشف الكتاب قصة ليف نوسيمبوم الذي ولد في قطار عام 1905 خلال طلائع الثورة الروسية، والده تاجر نفط من باكو ووالدته متمرّدة خرجت عن الكنيسة فأصابها الحرم، ما دفعها الى محاولة الانتحار غير مرّة. نشأ نوسيمبوم في أذربيجان، وما إن شبّ عن الطوق العائلي حتى بدأ يرتحل شرقاً نحو أواسط آسيا، ثم ايران، ثم عبر البحر الأسود الى القسطنطينية فباريس وبرلين. وفي منتصف ثلاثينات القرن الماضي أصدر نوسيمبوم كتاباً يروي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتلا ذلك كتاب عن آخر قياصرة روسيا وستالين، بعدئذ صدرت روايته الوحيدة واللامعة"علي ونينو". ثم"الله أكبر: سقوط وصعود العالم الاسلامي". وكان نوسيمبوم أشهر إسلامه بفخر كبير ولم ينم يوماً إلا والقرآن الكريم قرب وسادته، حتى انه غيّر اسمه الى محمد أسعد بك وارتدى الملابس الشرقية بما فيها الطربوش العثماني والعمامة الهندية. ويقول ريس، الكاتب في"نيويوركر"، ان نوسيمبوم كان مهووساً بالخرافة، فلم يثبت على اسم ولم يستقر في بلد، امضى طفولته متسكعاً في أزقة باكو، حيث يعيش المسلمون الفقراء، ثم حمل ذكرياتها ومشاهداته وراح"يصنّعها"في أوروبا، خصوصاً ألمانيا، حيث صدرت معظم كتبه وعددها 16 كتاباً، وضعها كلها قبل بلوغه الثلاثين. إلا ان زوجته إيريكا هجرته بعدما خانته غير مرّة، وسرعان ما مُنعت كتبه في ألمانيا وحُجبت عنه مواردها المادية، ففرّ الى ايطاليا وعاش متخفياً يعاني مرضاً عصيّاً يصيب العضلات بالتخثر البطيء، ما جعله"يعوي"ألماً، ويتعكز مرتعداً على عصا، منادياً صبيان بلدة بوستيانو كي يجلبوا له حقن المورفين التي لم يعد يملك ثمنها. مات نوسيمبوم في السادسة والثلاثين من عمره، في بوستيانو، وحيداً. وبقيت حكايته على أفواه الناس هناك، حكاية المسلم الغريب الذي لم يزره أحد، والذي جذبت مأساته بعد عقد من الزمن، الكاتب الأميركي جون شتاينبيك فجاء الى بوستيانو متسائلاً عن سرّه. من تلك الزيارة التقط طوم ريس خيط تحرياته ووضع كتابه بعدما نشر مقالة أولية في"نيويوركر"منذ ثلاث سنوات، أي بعد عام على 11/9.