أثارت تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في شأن"إزالة إسرائيل من الخريطة"، ولا تزال، عاصفة من ردود الفعل في عواصم القرار الدولي وطغت على نشرات الأخبار بلغات العالم المختلفة، وأقامت الدنيا من دون أن تقعدها حتى الآن. وتسابقت العواصم الكبرى، واشنطن ولندن وباريس وبرلين على التنديد بهذه التصريحات، وربطتها بالملف النووي الإيراني وضرورة تحويله إلى مجلس الأمن. وكالعادة انتهزت تل أبيب المناسبة للتأكيد على"مظلوميتها"وعقد وزير خارجيتها سيلفان شالوم مؤتمرا صحافيا مع نظيره الفرنسي فيليب دوست بلازي قال فيه ان إيران"تكسب الوقت لصنع أسلحة نووية لإبادة إسرائيل". ولم يسع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي تحتفظ بلاده بعلاقات جيدة مع إيران سوى التنديد بالتصريحات"التي ستعزز من صدقية مطالب دول معينة بتحويل الملف النووى الإيرانى إلى مجلس الأمن". جاءت هذه التصريحات النارية للرئيس الإيراني خلال كلمته أمام مؤتمر"العالم من دون صهيونية"الذي عقد في طهران قبل يومين في حضور ممثلين عن حركتي"حماس"و"الجهاد الإسلامي"، وفي سياق تحضيرات"يوم القدس"الذي تحتفل به إيران منذ انتصار الثورة عام 1979 في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان كل عام. وحين قام آلاف الطلبة الحاضرون بأداء الهتاف التقليدي الإيراني"الموت لإسرائيل"طلب منهم الرئيس الإيراني أن يرفعوا عقيرتهم أكثر بالهتاف. قبل أن يعود ليشدد على"نجاعة العمليات الاستشهادية، إذ أن هذه الموجة من الأعمال ستعبد الطريق أمام إزالة إسرائيل من الوجود". وفى إشارة ذات معنى ومغزى لم ينته يوم المؤتمر إلا بالإعلان عن عملية الخضيرة التى أودت بحياة خمسة إسرائيليين وأصابت أكثر من ثلاثين، فسارعت حركة"الجهاد الإسلامي"الى إعلان مسؤوليتها عن العملية. وأحرجت وكالة الأنباء الإيرانية التي نشرت النص الكامل لخطاب نجاد -من حيث لم تحتسب- وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي، الذي حاول جاهداً التخفيف من حدة تصريحات رئيسه، بالقول ان"الصحافة الغربية لم تطرح كلمة الرئيس في شكل صحيح، فالرئيس لم يفعل شيئا سوى أنه اقتبس بعض أقوال الإمام الخمينى الراحل قبل 26 عاماً". وعاد وزير الخارجية الإيراني ليشدد على أن"الرئيس نجاد والمؤسسة الإيرانية يدعمان استفتاء للشعب الفلسطيني حتى يقرر مستقبله على قاعدة دولتين لشعبين". المدقق فى خطاب أحمدي نجاد لا يمكن أن يشخص تصريحاته النارية بوصفها"زلة لسان"، فهي آتية من صلب مضامين الخطاب ومتوزعة على فقراته كلها، وهي أيضاً ليست بعيدة عن السياقات الإقليمية والدولية الراهنة. إيران تعاني حصاراً ديبلوماسياً دولياً تبدو حلقاته أكثر استحكاماً يوماً بعد آخر، واستمرار برنامجها النووي يصطدم بإرادات عواصم القرار الدولي، والتخوف الإقليمي من نفوذها في دول الجوار، يتصاعد ليرقى إلى مستوى التخوف الذي ساد المنطقة عند انتصار ثورتها الإسلامية. أما المحور الذي تقوده إيران في المنطقة منذ التسعينات - بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع توجهاته- وأرست عليه سياستها الإقليمية فيواجه الآن ضغوطاً أكثر من أي وقت مضى. في ظل هذه المعطيات وعلى هدي من صورة التوازنات الدولية والإقليمية كان على النظام الإيراني أن يمرر رسائل سياسية إلى العالم، وبعطف ذلك على الموقع المتشدد للرئيس الإيراني وما ينهل منه من معين أيديولوجي، جاءت الرسالة بمفردات ومضامين تعود إلى ربع قرن مضى على الأقل. ربما أراد الرئيس الإيراني بخطابه الحافل بالمفردات النارية إرسال رسائل سياسية متنوعة، الأولى تمثلت في التأكيد على الصورة الجديدة للتوازنات الداخلية في إيران وسيطرة التيار الأصولي المتشدد على مؤسسات الدولة وتصفية مواقف معتدلة سابقة راجت على لسان هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وأولها شعار"نقبل بما يقبل به الفلسطينيون". والرسالة الثانية جاءت إقليمية وتمثلت في التأكيد على قيادة بلاده للمحور الراديكالي في المنطقة وقدرتها على"الضغط المعنوي"على العواصم المندرجة في سياق عملية التسوية الراهنة. أما الرسالة الثالثة التي توخى الرئيس المتشدد إيصالها إلى الغرب فهي أن الضغوط المتلاحقة على طهران لن تغير مواقفها في شأن ملفها النووي وأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى حل هي التفاوض مع طهران على حزمة أمور تطال دورها الإقليمي وليس التفاهم معها بالقطعة في أفغانستان أو العراق أو ملفها النووي. فات الرئيس الإيراني، على رغم وضوح الرسائل، أن ما كان مسموحاً دولياً قبل ربع قرن لم يعد كذلك الآن. كما فاتته حقيقة أن تصريحات رؤساء الجمهوريات هي بالأساس وسيلة لإيصال رسائل سياسية محددة لأطراف بعينها وبعيار لفظي ولغوي يتناسب مع حمولتها السياسية تلك، ولم تعد التصريحات في عالم يتزايد صغراً بفضل التكنولوجيا، أداة للرأي العام المحلي فقط. اذ تاهت الفواصل الجغرافية بين المحلي والإقليمي والدولي في إيصال الرسائل السياسية. كما أن التجارب التاريخية في منطقتنا تثبت أن"التصريحات النارية"أقل جدوى بكثير من غيرها من الوسائل والأدوات، خصوصاً إذا لم تكن مقترنة بقدرة حقيقية وجدية على الفعل. وبتحليل الوضع الناشئ عن تصريحات أحمدي نجاد النارية الأخيرة نجد أنها أفلحت في إصابة أهداف عدة، ولكن في المرمى الإيراني وليس الأميركي أو الإسرائيلي. فهي رصت صفوف الدول المطالبة بتحويل ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن وضيقت الخناق على الدول المتعاطفة مع إيران مثل الصين وروسيا والهند. وتعدت ذلك إلى إطلاق العنان لحملة دعائية ديبلوماسية إسرائيلية تضع إيران - الأضعف عسكرياً- في موقع"المعتدي"، وتستنجد بعواصم العالم ل"حمايتها من الإبادة". أما"الحروب الصليبية"التي أعاد الرئيس الإيراني التذكير بها في خطابه فلم تحسم لمصلحة أبناء المنطقة بتصريحات نارية، وإنما من طريق البناء المحكم لقدرة على الفعل الاقتصادي والعلمي والعسكري الدؤوب على مدار حقب زمنية طويلة، وهي أيضاً الحروب التي لم تنته بمعركة عسكرية واحدة بل بمزيج فريد من العسكرية والديبلوماسية. صحيح أن الحق لا يساوي القوة في المنطق الدولي الراهن، ولكن الصحيح أيضاً أن التصريحات النارية لم تستعد حقاً أو ترفع حيفاً وأن الحق المستند إلى قوة وليس إلى الخطب النارية يظل هو الأجدى والأبقى. أعادت تصريحات أحمدي نجاد النارية وما أدت إليه من نتائج وردات فعل الاعتبار إلى سلفه محمد خاتمي، الذي لم يكن قادراً مثله على الفعل أيضاً، لكنه استطاع غالباً صك مفردات حداثية ومدنية لم تغادر المربع الأيديولوجي الإيراني ولم ترتد أهدافاً في مرمى بلاده في الوقت ذاته. ربما أمكن تشبيه التصريحات التى تفوق قدرات صاحبها بمثلث"البومارانج"، الذي يقذفه المصطافون على الشواطئ في الهواء"فيحلق بعيداً ولكنه يرتد في كل الأحوال بفعل الهواء بسرعة أكبر تجاه مصدر الإطلاق. وفي حين ستخسر الشواطئ بعضاًً من متعتها إذا غاب عنها مثلث البومارانج، فإن منطقتنا والعالم سيربحان كثيراً من دون تصريحات نارية. * كاتب مصري مختص في الشؤون الإيرانية.