أحد السيناريوات التي كانت متوقعة فى الانتخابات البرلمانية المصرية التي ستبدأ في 9 تشرين الثاني نوفمبر المقبل هو ازدياد دور قوى جديدة ظهرت على المسرح السياسي في الشهور الأخيرة. كان هذا هو السيناريو المأمول لدى كل من داعبهم الأمل في تحريك جمود سياسي طال أمده، وخصوصا بعد أن نجحت القوى الجديدة في ملء مساحة لا يستهان بها على المسرح السياسي خلال مرحلة الإعداد للانتخابات الرئاسية التي أجريت في 7 أيلول سبتمبر الماضي. ففي الحزب الوطني الحاكم، قام الجيل الجديد الذي يطلق عليه"الحرس الجديد"حينا و"الإصلاحيون"حينا آخر بدور في الانتخابات الرئاسية لم يقم بمثله منذ أن ظهر في المؤتمر العام الثامن في العام 2002 متمايزا عن القيادة التي أدارت هذا الحزب منذ تأسيسه في 1978 أو بعد ذلك بقليل. انفرد هذا الجيل الجديد بإدارة الحملة الانتخابية لمرشح الحزب حسني مبارك، فيما اختفى من يطلق عليهم"الحرس القديم". وعلى مدى أكثر من ثلاثة شهور، كاد الناس أن ينسوا أسماء أصابهم الملل منها مثل صفوت الشريف وكمال الشاذلي وغيرهما. فقد أدار جمال مبارك وأحمد عز وحسام بدراوي ومحمد كمال ومحمود محيي الدين وغيرهم الحملة الرئاسية كاملة، ومن ورائهم مئات الشبان والشابات امتلأت بهم الخيمة الواسعة التي نصبت في حديقة مركز الدراسات الوطنية التابع للحزب. كانت هذه الخيمة خلية نحل على مدار الساعة. روح شبابية لا عهد للسياسة في مصر بها منذ عدة عقود، وآليات حديثة في إدارة الحملة لا سابق لها في هذا البلد، وكفاءة مبشرة بأن القادم أفضل. وعلى الجانب الآخر في المعارضة، ظهرت عدة حركات احتجاجية قدمت صورة جديدة للحياة السياسية التي عاد الشارع ميدانا لها للمرة الأولى منذ 1954 . وجاءت قيادة هذه الحركات من الجيل الذي قاد الحركة الطلابية الواسعة التي فجرتها هزيمة 1967 وجعلت جامعات مصر مصدرا لأول معارضة حقيقية منذ 1954 أيضا. هذا الجيل، الذي دخل العقد السادس في عمره، أو بات على مشارفه، ما زال شابا في بلد يقترب رؤساء أحزاب المعارضة فيه من العقد التاسع. لكن هذه الحركات الاحتجاجية ضمت، في الوقت نفسه، شبانا وشابات في العقدين الثالث والرابع، بل في نهاية العقد الثاني. وبالرغم من قلة عددهم، الذي لا يتجاوز بضع مئات، فقد أضفوا على الحياة السياسية طابعا جديدا. وساهم في ذلك أيضا حصول حزب الغد على المشروعية القانونية قبل أقل من عام على الانتخابات الرئاسية. فهو الحزب الأكثر شبابا بين الأحزاب المشروعة ليس فقط لأن رئيسه في الأربعين من عمره، ولكن أيضا لأن معظم أعضائه من الأجيال الجديدة، وإن لا يعتبرون جميعهم جددا في الحياة السياسية لأن معظمهم تركوا حزب الوفد والتحقوا به. وكان هذا في حد ذاته مؤشرا آخر على أن الحياة السياسية أخذت في تجديد نفسها. ودعم هذا المؤشر صعود حزب الغد إلى المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية لحصول رئيسه على أكثر من ضعف الأصوات التي حصل عليها رئيس حزب الوفد في هذه الانتخابات. هذا الإنجاز الذي حققه"الغد"جدد الأمل في أن تكون مشروعات أحزاب يقودها نشطاء من الجيل نفسه بديلا عن الأحزاب القديمة التي يتفق معظم دارسي النظام الحزبي في مصر على أن عمرها الافتراضي انتهى منذ سنوات. ومن أهم هذه المشروعات حزبا"الوسط"الإسلامي، و"الكرامة"الناصري اللذان يخوض كل منهما معركة قانونية مضنية سعيا إلى انتزاع المشروعية منذ عدة سنوات. وأصبح حزب"الوسط"قريبًا منها بعد أن انتهى تقرير هيئة المفوضين الذي طلبته محكمة الأحزاب إلى التوصية بتأسيسه. وستصدر المحكمة حكمها في كانون الأول ديسمبر المقبل. وهكذا حفلت الشهور الأخيرة بتطورات كان الاتجاه الرئيس فيها هو صعود قوى جديدة، بالمعنى الجيلي والسياسي في آن معا، على نحو يمكن أن يغير صورة مصر ويعيد إليها حيوية تشتد الحاجة إليها. وكان هذا هو الأساس الذي بني عليه السيناريو المتفائل بأن تكون الانتخابات البرلمانية التي باتت وشيكة مناسبة لتثبيت هذه التطورات سواء في الحزب الحاكم أو في صفوف المعارضة. غير أن الأمر لم يمض في هذا الاتجاه. فما أن انفضت الانتخابات الرئاسية، حتى أخذت القوى القديمة في استعادة مواقعها على الجانبين بسهولة شديدة تثير دهشة كثير من المراقبين. ففي الحزب الحاكم عاد الوضع إلى ما كان عليه. القادة الجدد الذين ملأوا المسرح السياسي اختفى معظمهم، والقادة القدامى الذين كانوا اختفوا هم الذين يملأون المسرح الآن. وباستثناء يوم ونصف اليوم عقد فيها المؤتمر السنوي للحزب الحاكم في 27 و 28 الشهر الماضي، لم يظهر منهم إلا جمال مبارك الذي عاد إلى موقعه الحزبي أمينا للسياسات يشارك بدور بين أدوار في الانتخابات البرلمانية، بعد أن كان له الدور الأول في الانتخابات الرئاسية. وعلى الجانب الآخر، فالوضع ليس أفضل حالا. فحزب"الغد"الذي رفع أسهم القوى الجديدة في أوساط أحزاب المعارضة، دخل أزمة نمطية سبقتها إليه هذه الأحزاب جميعها. فقد تصاعد الصراع بين مجموعتين في قيادته أساء رئيسه أيمن نور إدارة العلاقة بينهما إلى أن بات تعايشهما مستحيلا. ولذلك انشقت إحداهما وأعلنت الحرب على الحزب ورئيسه الذي ضعف مركزه بعد أن كانت الانتخابات الرئاسية رفعته إلى مرتبة الصدارة بين أحزاب المعارضة. أما الحركات الاحتجاجية الجديدة، وفي مقدمتها حركة"كفاية"التي حظيت بشهرة على الصعيدين العربي والدولي، فبدت فاقدة الاتجاه. قامت هذه الحركات في اتجاهها العام على شعار بسيط هو"رفض التمديد والتوريث". ولذلك ركزت نشاطاتها، التي اقتصرت غالبا على تظاهرات نخبوية، في العمل ضد انتخاب حسني مبارك لفترة جديدة. وكان شعار"كفاية"تعبيرا عن هذا الموقف الذي يعبر بدوره وبطابعه عن لحظة محددة تنتهي بإجراء الانتخابات الرئاسية. فكانت هذه الحركات في حاجة إلى تجديد المفهوم الذي قامت عليه وتطوير شعاراتها لتناسب مرحلة جديدة. ولكن باستثناء رفع شعار"باطل"تعبيرا عن عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية، إلى جانب شعار"كفاية"، لم تقدم هذه الحركات جديدا. كما أن شعار"باطل"بدا ضعيفا للغاية بعد أن نقل مراسلو وسائل الإعلام صورة لهذه الانتخابات مفادها أن المخالفات والتجاوزات التي شابتها كانت أقل من ذي قبل ولم تؤثر في نتائجها. وهذا هو ما أكدته المنظمات الحقوقية المصرية التي راقبت الانتخابات. وهكذا دخلت الحركات الاحتجاجية حال جمود بسرعة قياسية، وهي التي ظهرت لمواجهة جمود في النظام السياسي سعت إلى تحريكه. ولذلك كان سهلا على أحزاب المعارضة القديمة، مثلها مثل القيادة القديمة في الحزب الحاكم، استعادة موقعها في الصدارة ووقف الزحف الذي بدأته الحركات الجديدة وحزب الغد صوب هذا الموقع. فسارعت حركة"كفاية"إلى تسليم الراية لأحزاب الوفد والناصري والتجمع لخلق أي شكل من أشكال العمل المشترك يجمع المعارضة كلها، بالرغم من أن سجل هذه الأحزاب يحفل بفشل متكرر في إقامة علاقة تعاون من أي نوع. وكانت النتيجة موقعا ذيليا لهذه الحركات في تحالف انتخابي جزئي فقد أي أهمية له لرفض"الإخوان المسلمين"الانضمام إليه، ومشروعا لجبهة وطنية يستحيل إنجازه بسبب الخلافات العميقة بين أطرافه. كما تسابق جناحا حزب"الغد"للالتحاق بهذا الكيان، وهو الحزب الذي تصوره كثيرون بداية إحلال محل الأحزاب القديمة. وهكذا انتهى الأمر إلى قبول القوى الجديدة العمل تحت قيادة أحزاب نشأت هذه القوى احتجاجا على أدائها وليس فقط على الحزب الحاكم ونظام الحكم. وأصبحت الحركات التي حاولت ضخ دماء جديدة في الحياة السياسية ملحقا لكيان منسقه العام رئيس وزراء أسبق رأس الحكومة قبل 33 عاما بالتمام والكمال. ولم تكن قوة الجمود وحدها هي التي سهلت لقدامى قادة الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة استعادة موقع الصدارة في الساحة السياسية، وإنما عمق التناقض بين القوى الجديدة في الحزب الحاكم وفي المعارضة. فالإصلاحيون الجدد في الحزب الحاكم يفضلون التعامل مع أحزاب المعارضة القديمة، لأن القوى الجديدة أكثر راديكالية وحدة، وبعضها أقل نضجا من أن يمكن التعامل معه بجدية. فلم يستطع العقلاء في الحركات الاحتجاجية وضع حد لممارسات تبدو أقرب إلى حالات انفعالية منها إلى العمل السياسي. وينطبق ذلك على حزب"الغد"الذي ترك رئيسه أيمن نور نفسه نهجا لنزعة ثأرية سيطرت عليه ردا على تصعيد بعض أجهزة الدولة ضده. وبالرغم من أن الإصلاحيين الجدد أقرب موضوعيا إلى الإصلاح مقارنة بالحرس القديم في الحزب الحاكم، فقد تبنت قوى المعارضة الجديدة موقفا شديد الحدة ضدهم على خلفية رفضها الدور الذي يقوم به جمال مبارك، خشية أن يكون تمهيدا لتوريثه الرئاسة. ولذلك بدت المعارضة الجديدة منحازة فعلياً إلى الحرس القديم في الحزب الحاكم، مثلما بدا القادة الجدد في هذا الحزب منحازين ضمنيا إلى أحزاب المعارضة القديمة. وفي ظل هذه المعادلة المرتبكة، سيظل جديد الحياة السياسية في مصر محتجزا بل معاقا إلى أجل غير مسمى، وسيبقى قديمها متصدرا المشهد وموحيا بأن الجمود في هذا البلد أقوى من كل جديد!