قد تبدو أفغانستان مجرد دولة فقيرة في ذيل قائمة الدول الأكثر فقراً، زادتها الحروب المتعددة بؤساً وشقاء. لكن هذه البلاد المترامية الأطراف 652 ألف كيلومتر مربع بطبيعتها المتباينة ما بين مناطق صحراوية شمال شرق وأخرى جبلية يربو ارتفاعها على ثمانية آلاف متر شرق, ومجاورتهاست دول باكستان والصين وطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان وإيران، كل ذلك يجعلها"بوابة"للتغيير السياسي في هذه الدول، فضلاً عن الدور الذي رسم لها في العقد الماضي، بأن تكون ممراً لنفط الجمهوريات السوفياتية السابقة، خصوصاً تركمانستان التي تملك احتياطاً هائلاً من النفط والغاز. ويبدو ان هذا تحديداً ما يثير الاهتمام الأميركي بأفغانستان، فثمة مجموعات ضغط تدفع في هذا الاتجاه، على رأسها شركات نفط أميركية ذات نفوذ واسع، ومن بين أعضاء مجالس إدارتها السابقين مسؤولون كبار في إدارة الرئيس جورج بوش، أبرزهم نائبه ديك تشيني، الذي تولى منصب المدير العام في شركة"هاليبيرتون"النفطية. كما تملك أفغانستان ثروات متعددة، سواء في ما تختزنه جبالها من ثروات معدنية لم تكتشف بعد، أو وديانها الخصبة التي تمتاز بزراعة أنواع متعددة من الفاكهة والخضار، والتي يمكن ان تنتج بكميات تجارية، يصدر الفائض منها إلى الخارج، خصوصاً مع ما تمتلكه البلاد من ثروات مائية بفضل الأنهار التي تتوزع على مناطق عدة في البلاد. ورقة"طالبان"و"القاعدة" ويعتقد قائد أفغاني لعب دوراً مهماً في قيادة تحالف الشمال، الخصم الأبرز لحركة"طالبان"، الذي أخرجها تحت غطاء جوي أميركي من كابول، وصولاً إلى مناطق الجنوب عدا بعض الجيوب التي لا تزال تتحصن فيها، تحت حماية قبائل بشتونية, ان الغطاء الذي يحمي"طالبان""يتجاوز القبائل إلى عناصر في الاستخبارات الباكستانية لا تزال ترى في الحركة ورقة لم تحرق بعد، ويمكن الاستفادة منها في الوقت المناسب". ويؤكد القائد الأفغاني ل"الحياة"القائد الراحل أحمد شاه مسعود قدم"قبل هجمات 11 أيلول سبتمبر بشهور معلومات تفصيلية حول هجمات محتملة ينوي تنظيم القاعدة تنفيذها على الأراضي الأميركية. وقد رسم سيناريو قريباً من الأحداث التي وقعت بعد ذلك، لكن المسؤولين الأميركيين لم يعيروا تحذيراته أي انتباه". ويعرب محدثنا عن"اعتقاد جازم"بأن مقتل مسعود في التاسع من أيلول 2001, كان"صفقة"بين"القاعدة"و"طالبان"، يقتل فيها التنظيم العدو الأبرز للحركة، في مقابل عدم تسليم الأخيرة قيادة"القاعدة"للأميركيين. لم تردد"تحالف الشمال"في قبول عرض إدارة بوش التحالف لخوض الحرب ضد"طالبان", وحصل على أسلحة حديثة وخطط للحرب التي انطلقت في تشرين الثاني أكتوبر، وانتهت بهزيمة"طالبان"وحليفتها"القاعدة"، وهروب أسامة بن لادن والملا محمد عمر. ويؤكد القائد الأفغاني:"قدمنا في السنوات الأربع الماضية معلومات دقيقة عن أماكن وجود كل من الملا محمد عمر وبن لادن، ولكن يبدو ان الأميركيين غير جادين في اعتقالهما". ويبرر ذلك ب"أهداف خفية"في الأجندة الأميركية"فربما يخدم بقاء بن لادن مصالحهم الإقليمية والدولية، ولذلك يبقونه حراً". ويستعرض القائد محطات من التاريخ الأفغاني، منذ دخول الجيش البريطاني إلى البلاد قبل أكثر من قرن، وصولاً إلى الاستقلال والملكية وانقلاب الشيوعيين، ثم مقاومة السوفيات، حتى خروجهم من البلاد مطلع التسعينات من القرن الماضي، ف"حرب المجاهدين"وظهور حركة"طالبان"على الخريطة السياسية، وأخيراً إسقاطها، ويقول:"كانت لعبة دولية كبرى، تورطنا فيها بغباء كبير". والضمير هنا يعود إلى"الأفغان، كل الأفغان". ويضيف:"كنا نبحث عن الاستقلال من الأجنبي، وأجدنا حمل البندقية في وجوههم المحتلين، لكننا أبداً لم نتقن المناورات السياسية". التناقض القومي ترتكز مناورات القوى، التي يرى القائد، أنها حولت الساحة الأفغانية إلى"بوزكاشي"، على اللعب على تناقض القوميات، وهو يعتقد ان ما تقوم به أميركا في أفغانستان"يتم استناداً إلى القوة الأميركية، والخبرة البريطانية الاستعمارية الطويلة". وتتكون أفغانستان من أربع قوميات أساسية، إضافة إلى قوميات صغيرة، يراوح تعداد أفرادها بين أقل من واحد في المئة إلى اثنين في المئة. ولا توجد إحصاءات رسمية تبين تعداد كل قومية، لكن مصادر حكومية تشير إلى ان قبائل البشتون تمثل الأكثرية 35 في المئة يليهم الطاجيك 30 في المئة ثم الهزارة 15 في المئة، فالأوزبك 10 في المئة. وتتقاسم بقية القوميات الصغيرة مثل اللوريين والتركمان والقمق وغيرهم النسبة المتبقية، والتي تقدر بنحو 10 في المئة. هيمنة البشتون تاريخياً، حكم البشتون أفغانستان منذ نحو قرنين، من خلال الملكية، وأشركوا معهم القوميات الأخرى، بيد ان حجم مشاركتهم في الحكم لم تكن توازي نسبهم الحقيقية، كما يدعي منتمون إلى تلك القوميات. وحين سقطت الملكية على يد الشيوعيين كان الحكام الجدد لكابول من البشتون أيضاَ. وأراد المجاهدون في بداية سيطرتهم على السلطة إيجاد قسمة عادلة بين القوميات، وتحديداً لناحية تمثيل أكبر للطاجيك. غير ان البشتون، رفضوا ذلك، مدعومين من باكستان، فحمل القائد البشتوني قلب الدين حكمتيار السلاح ضد رفاقه من الطاجيك والقوميات الأخرى. ولم ينته الاقتتال إلا بدخول مسلحي"طالبان"ساحة الصراع، وهم بشتون، فسيطروا على كابول ونحو 90 في المئة من البلاد، وبقيت أفغانستان تحت الهيمنة البشتونية في نسختها"الطالبانية"حتى سقوط حكومة الملا عمر أواخر عام 200، على يد"تحالف الشمال"ذي الغالبية الطاجيكية والتحالف الدولي بقيادة واشنطن. ويحكم أفغانستان اليوم الرئيس البشتوني حميد كارزاي، وتضم حكومته عناصر من كل القوميات الرئيسة في البلاد. ويرفع الحكام شعار"أفغانستان لكل الأفغان"، بيد ان ذلك لا يعني ان البلاد تخلصت تماماً من العُقد القومية. فعلى رغم ان كل القوميات تشارك في الحكومة، الا أن كلاً منها تريد الاستئثار بأكبر نصيب من الكعكة، وعبر صناديق الاقتراع. فخلال الانتخابات الأخيرة سعت كل قومية إلى استعراض قوتها، فالكل يطمح في الحصول على أكبر حصة ممكنة من مقاعد البرلمان، لفرض معادلات جديدة ورسم خريطة أخرى للتركيبة السياسية الأفغانية. كارزاي يقر ويرفض ومع إقراره بوجود تعددية قومية في بلاده، ينفي الرئيس الأفغاني وجود"تنافر قومي"، ويقول:"على رغم كل ما شهدته البلاد في العقود الماضية، بقيت أفغانستان موحدة تتعايش فيها القوميات، وهناك تداخل كبير بينها، سواء في مناطق السكن أو من خلال المصاهرة". ويرى مراقبون أفغان في كلام رئيسهم"نوعاً من المثاليات المفرطة"، مشيرين إلى"تقاسم المناصب على أساس قومي"، فلكل قومية من قوميات البلاد، خصوصاً الأربع الرئيسة، حصتها من الوزارات ووكالات الوزارات ومناصب المديرين العامين والولاة وغيرها من المناصب المهمة. كما أن لكل قومية حزبها، ولا تخرج الأحزاب الليبرالية والعلمانية من التصنيف القومي، على رغم محاولاتها التنصل من ذلك، وإبراز عناصر من القوميات الأخرى في واجهة الحزب. الصغار يستفيدون وإذا كان البشتون والطاجيك القوميتين الأكبر في البلاد، فإن القوميات الأصغر مثل الهزارة والأوزبك تبدو مستفيدة من صراع الكبار. اذ ليس في مقدور قومية تشكيل غالبية، سواءً في البرلمان أو الحكومة أو المشهد السياسي عموماً. لذا تبدو الحاجة إلى صوغ تحالفات، تملي فيها القوميات الأصغر شروطها للدخول في التحالف. فيما تتبادل القوميتان الأكبر اتهامات الاستئثار بالحكم. فالبشتون يتهمون الطاجيك بالإمساك بالمفاصل الرئيسة للدولة، على رغم ان معظم الوزارات السيادية في البلاد تديرها شخصيات بشتونية وعلى رغم ان الرئيس نفسه بشتوني. ومن جهتهم يرد الطاجيك بأن"البلاد يحكمها البشتون، وهم يرفضون مشاركة حقيقية من القوميات الأخرى". مسعود الحاضر الغائب وفي جلسة خاصة، تحدث مسؤول بارز في وزارة الخارجية من أصول طاجيكية إلى"الحياة"، عما قدمه القائد الطاجيكي أحمد شاه مسعود من"تضحيات وإنجازات"منذ انطلاقة الشرارة الأولى لمواجهة الشيوعيين، وحتى هزيمتهم النهائية في وادي بانجشير أواخر الثمانينات، وصولاً إلى مواجهته حركة طالبان، وحتى مقتله, وخلص الى"ان التلاميذ الذين رباهم القائد مسعود في جبهات القتال يحكمون أفغانستان اليوم، بالنهج ذاته الذي رسمه قائدهم الشهيد". صمت المسؤول الأفغاني برهة قبل أن يستدرك:"...مع إخوانهم من أبناء القوميات الأخرى". لكن ما قاله أولاً ربما يعبر عن حقيقة الصراع الخفي والظاهر بين القوميتين الأكبر في أفغانستان اللتين ترى كل منهما أنها الأجدر باحتلال قمة الهرم الحاكم في أفغانستان، مع إشراك القوميات الأخرى. الفيديرالية مرفوضة يوجد البشتون بكثافة في جنوب البلاد وشرقها حتى العاصمة كابول، ليبدأ بعدها انتشار الطاجيك، وصولاً إلى الأطراف الشمالية، حيث يبدأ الوجود الأوزبكي. أما الغرب, خصوصاً في ولايتي باميان وهيرات, فيقيم فيه"الهزارة"الذين يتباينون مع الآخرين قومياً ومذهبياً، فغالبيتهم ينتمون إلى الطائفة الشيعية الاثنى عشرية. وتتكون غالبية المدن الأفغانية من خليط من القوميات الرئيسة الأربع، مع كثافة لقومية معينة، بحسب موقع المدينة. وعلى رغم تباينهم القومي ذلك يتفق معظم الأفغان على رفض مبدأ الفيدرالية. وفي هذا الصدد يقول ل"الحياة"والي بلخ عطا محمد، أحد قادة تحالف الشمال:"من النادر ان تجد أفغانيا ينادي بالفيديرالية. نحن متباينون قومياً، لكننا نريد وحدة هذه البلاد". ويضيف مازحاً:"الفيديرالية ليست مرغوبة بالضرورة في كل بلد يحتله الأميركيون"!