قبل أيام ثلاثة من نهاية العام المنصرم للتو رحلت الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ، بعد صراع مع مرض السرطان وكانت أصيبت به قبل عام 1976 وأخبرها الأطباء أنها لن تعيش اكثر من عامين لكنها صمدت ثمانية وعشرين عاماً، إلى أن غلبها المرض الخبيث وهي في الحادية والسبعين من عمرها وخلاله أنجزت الكثير من الأعمال مثل الرواية والمقالة والسيناريو السينمائي، وأخرجت مسرحيات وأفلاماً سينمائية تجريبية. بدءاً من ستينات القرن الفائت مثلت سوزان سونتاغ 1933- 2004، في السرد والنقد الأميركيين وكذلك في السينما التجريبية، شخصية إشكالية في علاقتها بالطليعة الأدبية في تلك الحقبة بالغة الأهمية في ثقافة القرن العشرين، فهي استهلت منجزها الإبداعي والنقدي بالهجوم على التيارات النقدية الحداثية التي تتميز بالصرامة المنهجية - بغض النظر عن انتساب هذه التيارات إلى الماركسية أو النقد الجديد أو التحليل النفسي - مفضلة نوعاً من الممارسة النقدية يحتفل ب"السطح الحسي"للنص، معلنة في مقالتها الشهيرة"ضد التأويل"1966 أن ما نحتاجه فعلاً ليس"علماً للتأويل"بل قراءة إروسية للفن". وأعلنت في تلك المقالة، التي وضعتها في قلب الجدل النقدي في فترة حاسمة من الصراع بين تيار النقد الأميركي الجديد ودخول البنيوية إلى الجامعات الأميركية، أن المدرستين الفرويدية والماركسية تعملان على"تجويف النص وتدميره من الداخل، إنهما تحفران خلف النص في محاولة للعثور على نص متوار تعتقدان أنه النص الحقيقي". وهي من ثمّ تدعو إلى أن تكون الطاقة الحسية هدف التأويل، لأن العقل، من وجهة نظرها، مارس في التأويلات الفرويدية والماركسية"انتقاماً من الفن"، و"الأفظع من هذا أنه مارس انتقاماً من العالم". ويمكن أن نعثر في رواياتها التجريبية، كذلك، على صدى لرؤاها النقدية المبكرة حول معنى النص وشكل مقاربته، فهي تستخدم في تلك الروايات المونتاج والتجميع وأسلوبية الفصل والوصل والاستدراك، وهي التقنيات والأساليب في مرحلة ما بعد الحداثية. فضلت سونتاغ، في مطلع مسيرتها الثقافية، صيغة من صيغ الكتابة الأميركية التجريبية التي تجمع الكتابة الإبداعية والإنتاج السينمائي إلى النقد الذي لا يهتم بالمنهجيات الصارمة بل يقدم، بكلمات سونتاغ،"دراسات حالة في علم الجمال، ونظرية في الحساسية الجمالية الخاصة."وهذا ما جعلها تحتفل بالنصوص الهامشية وتلغي الحدود الفاصلة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية. لكن سونتاغ، ببداياتها الطليعية في الكتابة الإبداعية والنقد، وهجومها المستمر في ستينات القرن الماضي على الحداثة ورؤاها المتصلبة وإهمالها لليومي والحسي والمتواري والهامشي، لم تصمد كثيراً في مواقعها الأولى فهي ارتدت، كما يشير نقادها، إلى معسكر اليمين الأميركي واستنكرت مواقفها الراديكالية الأولى وهاجمت الصحف والمجلات الطليعية مفضلة عليها مجلات شعبية مثل"الريدرز دايجست"، واصفة الشيوعية بأنها"فاشية بوجه إنساني"، ما جعل أحد النقاد يصفها بأنها"أعظم كاتب فيكتوري يعيش بين ظهرانينا"! ولدت سوزان روزنبلات وهذا هو اسمها الفعلي في مدينة نيويورك عام 1933 . وكان والداها يمضيان معظم وقتهما في الصين، إذ كان والدها يعمل في تجارة الفرو، تاركين سوزان وأختها التي تصغرها مع مربية إيرلندية الأصل أمية لا تعرف القراءة والكتابة. في السن الخامسة توفي والدها، فانتقلت والدتها إلى نيوجيرسي، وإلى فلوريدا ثم إلى أريزونا. كانت العائلة تتحرك من مكان إلى مكان ولا تعرف الاستقرار ما أثر في شخصية سونتاغ فآثرت العزلة وفضلت الوحدة، وغرقت في عالم الكتب تقرأ بنهم ما يصل إلى يديها. وفي ظل انشغال الأم الجميلة عن ابنتيها، اللتين منعتا من قول"أمي"بحضور الآخرين، أصبحت الكتب تعويضاً عن حنان الأم التي تزوجت فيما بعد من ناتان سونتاغ الذي حملت الأختان اسمه. ولعل هذه الحياة المنعزلة بين الكتب تفسر توجه سونتاغ في بداية حياتها الأدبية إلى كتابة المقالات ومراجعات الكتب لبعض من أهم الصحف والمجلات الأميركية. كانت سونتاغ قد حصّلت من المعرفة الكثير في سن مبكرة بعد أن التحقت بجامعة بيركلي في الخامسة عشرة. هناك وهي تقف في الطابور للالتحاق بالجامعة سمعت طالبين يكبرانها يتحدثان عن مارسيل بروست. لم تكن تعرفت على كتاباته بعد، ولكنها في تلك اللحظة أدركت أن طريقها في عالم الإبداع ينطلق من"البحث عن الزمن الضائع". خططت أن تتبع خطى ذلك الكاتب الفرنسي الذي يصور حياته لحظة بلحظة، لكنها تزوجت بعد ذلك بعامين من محاضر في علم الاجتماع بجامعة بيركلي يكبرها بأحد عشر عاماً. في تلك الفترة انتقلت سوزان سونتاغ إلى بوسطن لتدرس الفلسفة في جامعة هارفارد فسحرها الفيلسوف الألماني الشهير هربرت ماركوز بأفكاره الجديدة، قبل أن تنتقل إلى جامعة أكسفورد البريطانية وتتلمذ على يدي الروائية، والأستاذة الجامعية، آيريس ميردوك والفيلسوف التحليلي أي. جي. آير. في ستينات القرن الماضي بدأ نجم سوزان سونتاغ يلمع في الأوساط الثقافية النيويوركية، فكتبت روايتها الأولى"المُحسِن"1963، ثم روايتها الثانية"عدة الموت"1967. لكن هاتين الروايتين لم تلفتا الانتباه إلى مشروعها السردي، خصوصاً أنها في بداية الستينات كانت انطلقت في رحلة أخرى سلطت عليها الأنظار. في عام 1963 أنشئت مجلة نيويورك لمراجعات الكتب نيويورك ريفيو أوف بوكس، وأصبحت سونتاغ من كتابها اللامعين. وعلق أحد الكتاب قائلاً إن سونتاغ لو لم تكن موجودة بالفعل لكان على هذه المجلة أن تخترعها. على صفحات مجلة"نيويورك"بدأت سوزان سونتاغ تكتب مقالات عن الظاهرة الحداثية في الثقافة الغربية، مطلقة آراء صادمة لما هو سائد في الحياة الثقافية الأميركية. ونشرت ستة كتب من المقالات التي جعلتها من أهم المعلقين على الحياة الثقافية الغربية في الصحافة الأميركية. في مقالاتها وجهت نقداً حاداً للثقافة الغربية، وكتبت عن المؤلف الموسيقي ما بعد الحداثي جون كيج، وعن الناقد الفرنسي رولان بارت، وعن السينمائي جان لوك غودار، ما جعل الصحافة الأميركية تصفها بأنها ناتالي وود الطليعة الأدبية. ومن بين الكتب التي جمعت فيها مقالاتها، إضافة إلى كتابها الشهير"ضد التأويل": أساليب الإرادة الجذرية 1969، عن التصوير 1977، المرض بصفته مجازاً 1978، تحت شارة برج زحل 1980، الإيدز ومجازاته 1989، عن ألم الآخرين 2003. وكتبت سونتاغ، إضافة إلى ذلك، سيناريوات أربعة أفلام، وظهرت بنفسها كسوزان سونتاغ في فيلم"زيليغ"، وهو فيلم وثائقي ساخر أخرجه السينمائي الأميركي الشهير وودي ألن. وأخرجت عدداً من الأعمال المسرحية، ففي عام 1993 أخرجت مسرحية"في انتظار غودو"لصمويل بيكيت في مدينة ساراييفو المحاصرة، التي كانت ترزح تحت القصف ويتعرض سكانها للقنص، تعبيراً عن تضامنها مع أهالي ساراييفو وإيماناً منها بأن المحاصرين يمكنهم أن يستمتعوا بالفن ويشاهدوا عرضاً مسرحياً. في التسعينات من القرن الماضي عادت سوزان سونتاغ إلى كتابة الرواية، التي أعلنت أكثر من مرة أنها الشكل الأقرب إلى نفسها من أي شكل من أشكال الكتابة. وأصدرت عام 1992 روايتها"عاشق البركان"، وهي تصف علاقة مثلثة بين اللورد هاملتون وزوجته إيما وعشيقها هوراشيو نلسون. ونشرت عام 2000 روايتها"في أميركا"، التي نالت الجائزة الوطنية الأميركية للكتاب، وهي تحكي عن ممثلة بولندية من القرن التاسع عشر تهجر التمثيل وتستقر في كاليفورنيا أملاً في إقامة كومونة حلمت بها. عام 1968 زارت سوزان سونتاغ هانوي وكتبت"رحلة إلى هانوي"مهاجمة الحرب التي تشنها الولاياتالمتحدة على فيتنام. في كتابها ذاك، الذي وضعها مجدداً وسط حلبة النقاش الساخن في السياسة والثقافة، أطلقت سونتاغ بعضاً من أقسى كلماتها ضد أميركا والغرب. قالت:"لقد بنيت أميركا على إبادة الجنس البشري، بنيت على القتل"، وأضافت:"إن نوعية الحياة التي يعيشها الأميركيون تهدد إمكان تطور الحياة الإنسانية". ثم صرخت لكي تسمعها أميركا كلها:"الجنس الأبيض هو سرطان التاريخ". تلك الكلمات جلبت لها الكثير من النقد في أوساط اليمين واليسار، بين مؤيدي الحرب على فيتنام والمناهضين لها. اللافت أنها هوجمت بعنف أيضاً بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 . لقد تجرأت فقالت في مقالة كتبتها في مجلة"نيويوركر"إن الهجوم"استهدف القوة العظمى التي نصبت نفسها زعيمة للعالم"، وجاء ذلك"على خلفية تحالفات أميركا وأفعالها التي قامت بها". وانتقدت المعلقين الذين كتبوا بلهجة مشحونة بالوطنية السطحية ووصفتهم بأنهم يتعاملون مع الشعب الأميركي وكأنه رهط من الأطفال حين يتحدثون عن قوة أميركا وعنفوانها واستحالة هزيمتها. على خلفية تلك المقالة تلقت سونتاغ تهديدات بالقتل، وطالب معلّقون في الصحافة الأميركية بضرورة تجريدها من الجنسية الأميركية، وتساءلت مجلة"نيو ريببلك"اليمينية عن الصفة التي يشترك فيها كل من أسامة بن لادن وصدام حسين وسوزان سونتاغ وأجابت أن الثلاثة يرغبون في تدمير أميركا! في عام 1976 أصيبت سوزان سونتاغ بمرض سرطان الثدي. وشخّص الأطباء حالتها بأنها ميؤوس منها، فأخبروا أصدقاءها بأنها لن تعيش أكثر من عامين، في حين أخبروا ابنها بأنها لن تعيش اكثر من ستة أشهر. لكنها بدلاً من الاستسلام للمرض غادرت إلى باريس وتلقت كمية هائلة من جرعات العلاج الكيماوي وشفيت. الأوساط الثقافية الأميركية أطلقت عليها وصف"المريض المعجزة"فكتبت"المرض بصفته مجازاً"1978 شارحة فيه كيف أن المجتمع يضرب حصاراً على المرض ويحول علاقته بالمرض إلى مجاز للانحطاط الاجتماعي والثقافي والأخلاقي. وانطلقت في كتابها، الذي لقي صدى كبيراً لدى القراء، من مرضها الخاص ملقية الضوء على علاقة المرض بالذات والمجتمع. وفي عام 1998 عاودها السرطان وأصيبت بنوع نادر من سرطان الرحم، وشخص الأطباء المرض هذه المرة بأنه لن يمهلها أكثر من خمس سنوات. ضمن هذا الوضع الصحي كتبت سوزان سونتاغ كتابها"الالتفات إلى ألم الآخرين"2003، وصدرت طبعته العربية، بترجمة مجيد البرغوثي، عن دار"أزمنة"في عمان قبل أيام من رحيلها. ويذكرنا هذا الكتاب بكتابها"عن التصوير"1977 الذي حاولت فيه أن تتوصل إلى حل للمشكلات الجمالية الخاصة بتأويل الصور وقدرتها على النقل الجزئي للحقيقة، وبتساؤلها إذا كانت الصور قطعة من الحقيقة. والمدهش أن كتابها عن التصوير لم يتضمن أية صورة، أي تخطيط، بل كان كله كلاماً في كلام. ويركز كتاب"الالتفات إلى ألم الآخرين"على موضوع الحرب والصور التي تلتقط لها، خصوصاً تلك التي تصور الألم الذي يعانيه المصابون أو الألم الذي تنطق به الوجوه والأعضاء المشوهة المبتورة للموتى والأشياء والأماكن المدمرة. إنه كتاب حول الصورة وأثرها على المشاهد، حول الصورة وقدرتها على تحريك المشاعر والأحاسيس أو جعل تلك المشاعر والأحاسيس تتبلد. تقول سونتاغ في هذا الكتاب - الصرخة ضد الحرب:"في الواقع هناك استخدامات عدة للفرص التي لا تعد ولا تحصى والتي توفرها الحياة الحديثة للالتفات - من مسافة ما، ومن خلال التصوير كوسيط - إلى ألم الأشخاص الآخرين. إن الصور التي تعكس عملاً وحشياً قد تثير استجابات مضادة. دعوة للسلام. صرخة للانتقام. أو ببساطة، وعي مربك، يعاد تخزينه باستمرار بواسطة المعلومات الفوتوغرافية بأن أشياء مريعة تحدث". ص: 21 وتضيف في موضع آخر من الكتاب:"إن المقصود من وراء أعمال القسوة الوحشية في كوارث الحرب هو أن تنبه وأن تصدم وأن تجرح المشاهد". ص47 لكنها تتساءل حائرة عن التأثير الفعلي للصور، ففي"عالم مشبع بالصور، بل مفرط في تشبعه بالصور، فإن تأثير الصور التي يجب أن تثير الاهتمام يتلاشى تدريجاً، فنصبح متبلدين. وفي نهاية المطاف تجعلنا مثل هذه الصور أقل قدرة على الإحساس". ص100 تلك هي الأمثولة التي خرجت بها سونتاغ من الكتابة عن ألمها الخاص، عن ألم الآخرين، عن الحرب وما تحدثه في المشاهد. ويبدو أن الألم الذي عانته في مرضها الأول، ثم في مرضها الثاني، حدد بؤرة اهتماماتها: الألم في أشكاله وتجلياته المختلفة، الألم كما نعانيه في أجسادنا وعقولنا، كما يتعامل معه المجتمع، الألم منظوراً إليه بعين الكاميرا.