الهجوم على برجي "مركز التجارة العالمية" في نيويورك في 11 أيلول سبتمبر 2001 ما زال الى الآن يثير جدلاً وقضايا شائكة في أميركا وخارج أميركا. نيويورك ليست مدينة عادية. ومثقفو أميركا أصحاب أصوات مسموعة. لكن هذه الأصوات لا تجتمع في تيار واحد. هناك صراعات. هناك فعل وردة فعل. كانت سوزان سونتاغ من بين الكتّاب الأميركيين الذين تعرضوا لنقد سياسي مقذع عشية اعتداء الحادي عشر من ايلول. ففي غمرة الفورة الوطنية التي شملت الولاياتالمتحدة، نتيجة للاعتداء، لم تتورع سونتاغ، أسوة بعدد قليل من الكتّاب والمثقفين، عن ربط ما جرى في ذلك اليوم بالسياسة الخارجية الأميركية ربطاً يصور الاعتداء المذكور كعاقبة محتومة لهذه السياسة. ولكن حتى لو لم تنطق الكاتبة الاميركية بما أثار غيظ ابناء قومها، فإنها ما كانت لتنجو من تقريع دعاة الولاء التام لأميركا، من سياسيين وإعلاميين، رفضوا كل رأي أو تحليل لم ينحُ نحو التشديد على براءة الذات، والتسليم بفطرة الشرّ الكامن في نفوس اولئك الذين اقترفوا الهجوم الإرهابي. وسونتاغ ما كانت لتنجو من النقد، ليس فقط احتساباً لموقفها المعارض طالما انها ما انفكت، ومنذ حرب فيتنام، معارضة دؤوبة لسياسة بلادها، وإنما ايضاً لأن "الوطنية" أو اياً من فرضيات ضرورة الانتماء الى جماعة بعينها لهي أقل الفرضيات أثراً في إنتاج ما أنتجته من مقالات وروايات وأفلام سينمائية ومسرحيات. ألم الآخرين فمنذ مجموعة مقالاتها الأولى، "ضد التأويل"، الصادرة في منتصف عقد الستينات وحتى أحدث كتابيها، "حيث يقع التشديد" و"ألم الآخرين"، ثمة غياب ملحوظ للأدب الأميركي، والإنغلوفوني، من دائرة اهتمامها لا تفسير له سوى خشية مفرطة من المحاصرة في إطار المحليّة. فدائرة اهتمامها من السعة بحيث تشمل كتّاباً من أنحاء مختلفة من العالم، وبعضهم مغمور أو غير معروف الاّ عند قلة قليلة من المعنيين بالأدب العالمي. واهتمامها من التنوع والاختلاف بما يتجاوز حدود اي إختصاص، فهي تكتب في النظرية الجمالية والتحليل الثقافي والاجتماعي، في الأدب والتصوير الفوتوغرافي والسينما والمسرح والموسيقى والرقص، ومن دون حرص على تصنيف الفن الى أرفع أو أدنى أو نخبوي وشعبي، في كتابها "حيث يقع التشديد"، مثلاً، هناك مقالة عن فاغنر متبوعة بمقالة عن مسرح الدمى الياباني. ولئن عزت سونتاغ أمر نزوعها الدائم الى تجاوز حدود المحليّة والاختصاص، ومن ثم الإقبال على الجديد والمغمور، الى تصوّرها للكاتب كرحالة ذي فضول لا حدود له وحماسة لا تنضب، فإن كتابتها تكشف عن مفهوم للجمالي متماسك، يتجاوز، في كل الأحوال، تفسيرها البسيط والطريف هذا. التصوير الفوتوغرافي والسياسة وفي مقالاتها المبكرة واللاحقة - وكتابة المقالة، بالمناسبة، هي التي كافأتها بالاعتراف والشهرة اصلاً - أظهرت سونتاغ وعياً، وانحيازاً الى فكرة ان الجماليّ بما هو الشكلي والظاهري، ليتمتع باستقلال لا يقل عن استقلال مدارات الاهتمام المعرفية الأخرى، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. فالوعي بالجمالي، وخلافاً لما درجت عليه الحكمة الراسخة، ليس وعياً بالقشرة والغطاء، أو حتى بالواسطة ما بين منبع المعرفة ومتلقيها، وإنما هو وعي سابق يحدد في بعض الأحيان ويحكم الوعي بما هو أخلاقي وسياسي. ومن هنا مصدر تركيزها الأبرز على التصوير الفوتوغرافي والسينما عوضاً عن اشكال التعبير الأدبية. فالتركيز على الأنواع الفنية حيث الفن لا يُحمل على كونه محض واسطة للمضمون أو وسيلة للإعراب عن معانٍ عامة مجردة غائرة في عمق ميتافيزيقي يتجاوز مدارك الحس وسبل العقلنة التجريبية، يدل على استواء الشكلي أو الظاهري بذاته، ومن دون افتراض عالم خفي يُكشف عنه أو يُدل عليه. بل ان اهتمامها بالأدب انما هو على الأغلب احتفاء بتلك الكتابة التي تتجاوز الحدود المتواضع عليها ما بين الشعر والنثر، أو ما بين العبارة الأدائية والعبارة التقريرية. فهي لئن اهتمت بالأدب العالمي فقد اهتمت بكتابات أمثال انطون آرتو وناتالي ساروت وسيزار بافيزي ومارتن فاسلر وماكس زيبالد وخوان رولفو ودانيلو كيش وغيرهم من الكتاب الذين نسفت عبارتهم ذلك الظن بأن العبارة دلالة لما هو أبعد وأعمق لما نحسه ونواجهه. في كتابها "في التصوير"، تقول سونتاغ إن هذا الفن، ومن خلال تنبيهنا الى ان هناك الكثير مما يظفر باهتمامنا، غيّر مفهوم العالم المنظور باعتباره "كهف أفلاطون"، اي عالم المحسوسات المتكافئة في انعدام قيمتها الفعلية طالما انها محض ظلال وصور المُثل المطلقة. وهذا التنبيه يدل على ان الصور ليست محايدة وإلا لاستوت معاني موضوعاتها وقيمتها. وفي كتاب "حيث يقع التشديد" تذهب الى ان الصوّر ليست نوافذ تمدّنا برؤية شفافة للعالم كما هو عليه، أو كما كان عليه. فالصور تدلي بإفادات لمصلحة إيديولوجيات سائدة وترتيبات اجتماعية قائمة، إنها تفبرك وتعزّز هذه الخرافات والترتيبات. فالصورة بما هي شكل جاهز للإدراك الحسي، لا تحتاج الى معانٍ تُنسب اليها لاحقاً. فليست هي من دون معنى أو مضمون تؤسسه وتكرسه. ويصح القول إن هذا الوعي لما هو جمالي، كأمر مستقل، بل وسابق، على الموضوع السياسي أو الأخلاقي، لهو نموذج للوعي الفني الحديث او الحداثي الذي ذاع شأنه في مطلع القرن العشرين. غير انه، وعلى رغم ما يتمتع به من تماسك عبر مجمل كتاباتها، لا يخلو من استدراكات وشكوك تصب في نزوعين مختلفين: الأول، نزوع الى فكرة "الأدب الكبير" أو حتى العبقرية في الفن، وبما يناوئ ضروب الأدب والفن التي جعلت تبشر بها وتنحاز اليها. غير ان هذا النزوع، وإن انطوى على حنين الى عهود الأدب الكلاسيكي، خصوصاً الأدب الروسي منه، يتلخص في التطلع الى الفرادة التي تجعله كونياً وتأسيسيّ الطابع، ولكن من دون أن يضحي بسماته المعاصرة. ولئن التمست سونتاغ في أعمال الروائي الألماني الراحل ماكس زيبالد صورة للأدب الكبير، فليس لأن هذه الأعمال تسعى الى إحياء الحكمة الكلاسيكية في الأدب، أو بالضرورة تتبع سبيل السرد الفخم المتماسك - فروايات زيبالد خلاف ذلك تماماً - وإنما لما فيها من مستوى من النضج أو الاكتمال ما يجعلها تامة بذاتها. فهي تستوعب جلّ التقنيات التعبيرية الحديثة، ولكن من دون ان تتخذها ذريعة أو غطاء لكتابة ما يُكتب. رحلة الى هانوي الثاني، نزوع الى الكتابة باعتبارها ذات غرض سياسي صريح. وهذا وإن كان نادر التحقق عندها الاّ انه حينما يتحقق يكون نافذ الأثر قوياً. وإذا ما دل مقالها الريبوتاجي الشهير "رحلة الى هانوي"، 1968، الى ان الحرص المبدئي تجاه جمالية الفن والأدب لا يعني الإعراض عن السياسة، إن كنشاط عملي أو تأمل فكري، فإن مقالها الريبورتاجي "في انتظار غودو في ساراييفو"، الذي جاء بعد ربع قرن على مقالها الأول، أتى تعبيراً عن تشبث بالاعتقاد أن للمثقف دوراً في الحوادث الجسيمة، في الوقت الذي فقد مثل هذا الاعتقاد رصيده عند أصحابه الأصليين. وكانت الكاتبة الاميركية يممت شطر ساراييفو عام 1993، وأقبلت على إخراج مسرحية صمويل بيكت "في إنتظار غودو" كضرب من التضامن مع أهالي المدينة المحاصرة، وكاحتجاج على تواني القوات الدولية عن التدخل لصدّ العدوان الصربي والكراوتي. أما كتابها "ألم الآخرين"، الصادر أخيراً فتتناول فيه علاقة الصورة الفوتوغرافية بالحرب، وتمعن التعبير عن هذا النزوع الى حد التخلي عن مزاعمها السابقة حول مكانة الصورة والدور الذي يسعها لعبه. ففي هذا الكتاب تجادل بأن الصورة قادرة على ان تصل نفس الناظر وتؤثر فيها، مهما تكرر ظهورها، وبمعزل عن الأيديولوجيا أو الترتيب الذي ينتظمها. ففي الصورة من قوة الواقع الفعلي ما يجعلها تتجاوز السياق الذي تُدرج فيه أو الغرض الذي تُعرض في سبيله. وإذا ما جيز لنا رد النزوع الى لعب دور سياسي عملي الى أمر محدد، فإنه حتماً ليس الالتزام ببرنامج سياسي، وأقله كذلك الإيمان برسالة تبشيرية للفنان أو المثقف، وإنما على الأرجح، من قبيل الإعراب عن وعي "كوزموبوليتي" لا يميّز ما بين ما يحدث في نيويورك وساراييفو. وما هذا بالامر الغريب على كاتبة نيويوركية شأن سونتاغ تعي عبث الوعي المحلي أو الوطني في مدينة لهي مثال المدينة "الكوزموبوليتية". والنقد القاسي الذي تعرضت له الكاتبة، وغيرها من الكتاب الأميركيين، عشية الاعتداء الإرهابي على نيويورك، لم يكن من باب التضامن مع المدينة الضحية وضد اولئك الذين لم يظهروا إخلاصاً تاماً لها، وإنما هو اقرب الى هجوم آخر على المدينة نفسها حيث لا سبيل الى سيادة هوية واحدة أو ولاء محدد.