حرصت سوزان سونتاغ (1933- 2004)، مع كل ما في حياتها من قلق واضطراب، على التواصل مع كل وجوه الفكر والفنون والنشاطات الإنسانية من حولها، بتنويع دراساتها وتوسيع دائرة انشغالها الفكري والإبداعي، بنهم وتوَتر واضحين، يتوازى فيهما الإرسال والاستقبال معاً، وهذا ما دفعها إلى الدراسة أو العمل في أكثر من سبع جامعات في الولاياتالمتحدة، إضافة إلى جامعتي اكسفوردوباريس، وكان هدفها الأول من التنقل بين هذه الجامعات هو التواصل عن قرب مع المفكرين البارزين الذين يعملون في هذه الجامعات، ممن يثيرون اهتماماتها الشخصية المبكرة، في موضوعات مستجدة ومختلفة ومتعددة، حيث انتقلت من دراسة الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع إلى دراسة الفلسفة واللاهوت والأخلاق وعلم النفس، مع تركيز خاص على إعادة قراءة فرويد برؤية جديدة، وأضافت إلى ذلك ولعها بالسينما والرواية والفنون التشكيلية، ثم التصوير الضوئي الذي يحتل مكانة خاصة في حياة المصورين، وحياة عامة الناس، بكل أطيافهم ومستوياتهم الاجتماعية والثقافية، مع اختلاف المظاهر والتقاليد بين الشعوب الحية، ومنحتها إقامتها في باريس فرصة لفهم خصوصية الثقافة الفرنسية والأوروبية معاً، وتابعت من خلالها عشقها لأفلام غودار وبريسون وجان رينوار وتروفو، ونشرت مقالات نقدية بارعة عنها، وهي ترى أن فيلم «النشّال» لبريسون هو الأفضل في تاريخ السينما. كانت سونتاغ امرأة مشاكسة في السياسة وحقوق الإنسان، ومثل النجمة السينمائية جين فوندا التي هبطت في هانوي في ذروة حرب فيتنام، أقامت سونتاغ في سراييفو أثناء الحصار عام 1989 تضامناً مع الشعب المحاصر بالشبّيحة والميليشيات الصربية القاتلة، وأخرجت مسرحية صاموئيل بيكيت «في انتظار غودو»، التي عرضت في ضوء الشموع، واكتسبت سونتاغ شهرة واسعة بين سكان المدينة، ومُنحت لقب «مواطن شرف»، وبعد وفاتها أطلقت بلدية سراييفو اسمها على شارع وساحة في المدينة، وأثارت سونتاغ ضجة إعلامية واسعة حينما كتبت عن هجمات 11 أيلول (سبتمبر) على برجي التجارة في نيويورك آراء لاذعة تدين سياسة الإدارة الأمركية. تركت سونتاغ إرثاً غنياً من البحوث الجريئة والقصص والروايات والمسرحيات، والثقافة ووسائل الاتصال وكتبت وأخرجت أربعة أفلام سينمائية، وواجهت مرض السرطان بشجاعة الكتابة، وهي التي كتبت قبل ذلك بحثاً مطولاً عن كوارث وباء الايدز، وكتبت وأخرجت أربعة أفلام سينمائية، ونشرت مجموعات قصص قصيرة وطويلة، وأربع روايات، منها روايتان تاريخيتان في إطار رومانسي هما «عاشق البركان» و «في أميركا». صورة شخصية في الربيع الماضي عرضت المخرجة السينمائية نانسي كيتس، في مهرجان تريبيكا السينمائي، فيلماً وثائقياً في مئة دقيقة، بعنوان «نظرة إلى سوزان سانتاغ»، بمناسبة مرور عشر سنوات على غيابها، وحرصت المخرجة، التي شاركت في كتابة السيناريو، على أن ترصد حياة سونتاغ ونبوغها المبكر منذ النصف الثاني من الأربعينات الماضية، وأعمالها وعلاقاتها الواسعة مع وجوه الثقافة والفكر والإبداع، إضافة إلى علاقاتها العاطفية والإنسانية، وكانت تكتب نوعاً من المذكرات، على شكل ملاحظات وخواطر يومية، منذ عام 1947 جمعها ونشرها ابنها ديفيد ريف بعد وفاتها. فتنة الفوتوغراف يتشابه بحث سوزان سونتاغ في كتابها «حول الفوتوغراف» مع بحث غوته في «نظرية الألوان»، التي ارتأى فيها أن الأصفر والأزرق هما الأصل في تنويعات الألوان الأخرى، ويأتي التشابه بين غوته وسونتاغ في وجوه متعددة، من حيث اقتحام أبواب غير مألوفة في مسار كل منهما، والولع باكتشاف زوايا معتمة في موضوعات طريفة، تبدو قريبة ولكنها غائبة، أو مغيّبة عنا، مع بعد المسافة الزمنية الفاصلة بين غوته وسونتاغ، وفي البداية تعترف سونتاغ بأنها كانت مهووسة بالفوتوغراف حينما اختارت أن تكتب عنه مقالات صحافية مكثفة، متصلة - منفصلة، جمعتها في كتاب فريد في نوعه، نشر عام 1977، بعنوان «حول الفوتوغراف»، (وصدر بالعربية عن دار المدى - بيروت بترجمة عباس المفرجي). ترى سونتاغ أن الفوتوغراف يمنحنا الشعور بإمكانية استيعاب العالم كله في أذهاننا، من خلال مختارات من الصور، لأن الصور الأخرى في السينما والتلفزيون تومض بسرعة وتختفي، وتأخذ الصور شكل مصغرات للواقع، يمكن أي شخص أن يصنعها أو يمتلكها، وهي مرتبطة بالإغواء والحنين «حين ينتابنا الخوف نطلق الرصاص، وحين ينتابنا الحنين نطلق الصورة»، وقد تحمل هذه الصورة معها نوعاً من الصدمة، أو تكون وثيقة إثبات لحدث ما، وتتذكر سونتاغ صورة الطفلة الفيتنامية الجنوبية ذات السنوات التسع (فان ثي كيم فوك)، والتي كانت تركض بأقصى سرعتها في شارع رئيسي وهي عارية وتصرخ ويداها مفتوحتان في اتجاه الكاميرا، بعد أن تعرضت لقذيفة نابالم أميركية أحرقت ثيابها وجلدها، فالتقط صورتها المراسل الصحافي الأميركي نك يوت، ونشرت في صدر الصفحة الأولى من صحيفة «نيويورك تايمز» وانتقلت إلى أهم الصحف في العالم، وأذهلت كل من شاهدها، بمن فيهم الرئيس الأميركي نيكسون، وحصلت على جائزة بوليتزر، واختيرت كأفضل صورة صحافية لعام 1972، فكان تأثيرها يفوق تأثير مئة ساعة تلفزيونية، في تحريض الرأي العالمي والأميركي ضد أعمال حربية وحشية استعمارية، وكانت صور مروّعة أخرى تصل إلى الأميركيين من مصادر عسكرية، ولكنها التقطت لغايات مختلفة تماماً، ولم تحظ الحرب الكورية المدمرة، في أوائل الخمسينات، بمثل هذه الصور، لأنها كانت منظورة من زاوية أخرى، كحرب عادلة للعالم الحر ضد الاتحاد السوفياتي والصين. وترصد سونتاغ اتجاهات وتحولات عدد من المصورين المحترفين الذين نُشرت أعمالهم في كتب، أو عرضتها المتاحف في مناسبات احتفالية، ومنهم الذين انصبت اهتماماتهم على تصوير المدن، أو الطبيعة، أو الأحداث، واقتبست شواهد من مذكراتهم لتكشف طبيعة العلاقة التي تربطهم بالتصوير، كما رصدت المسافة التي ابتعدت بها المعايير والقيَم الأخلاقية والجمالية الأميركية الراهنة عن تلك التي بشّر بها الشاعر والت ويتمان في «أوراق العشب»، في مشروع ثورة ثقافية أميركية وعالمية مقبلة، لكنها لم تحدث بعد أكثر من مئة عام، فالثقافة الأميركية كما تراها سونتاغ «ثقافة بندقية»، وقد تأخذ البندقية معنى آخر هو الكاميرا العدوانية، التي تغذي ثقافة الاستهلاك وطوفان الإعلانات. منذ سبعينات القرن التاسع عشر بدأت الشرطة الفرنسية بتوثيق صور المجرمين والمطلوبين من جماعة «كومونة باريس»، وابتعد الفوتوغراف عن أهداف الرسامين، ليكون فناً وطقساً جماعياً يرافق المناسبات والتقاليد العائلية، في احتفالات الزواج والأعياد، أو تسجيل المراحل التي يمر بها الأطفال، أو توثيق رحلات العائلات أو المجموعات السياحية حول العالم، وهي الحالة التي تكون فيها الصورة بريئة، غير متحيزة، بينما تكون الصورة في حالات أخرى عدوانية، وتطرح سونتاغ أمثلة مغايرة من روايات ومذكرات، ثم من أفلام سينمائية، يدخل التصوير الفوتوغرافي في نسيج موضوعاتها، بين البراءة والعدوانية، أو الانحياز ومنها فيلم دزيغا فيرتوف «رجل وكاميرا سينمائية» - 1929- الذي يتحرك فيه مصور سينمائي بسرعة ورشاقة بين أحداث تدعو إلى اليأس وهو في حالة لا تسمح له بالتدخل، خلافاً لأفلام أخرى، مثل فيلم هيتشكوك «النافذة الخلفية - 1964 - من بطولة جيمس ستيوارت وغريس كيلي، وفيلم أنطونيوني «بلو أب» - 1966- وفيلم كريس ماركر «لو كان عندي أربعة جِمال» - 1965 – وظل السؤال القديم يبحث عن جواب: هل التصوير الفوتوغرافي فن، أم حرفة وهواية، وما هي الشروط التي يقترب بها من الفن؟ ظل السؤال مستمراً ومشروعاً، ولكن... عند سوزان الخبر اليقين.