حازت الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ جائزة القدس وتسلّمتها من رئيس بلدية القدس الإسرائيلي ايهود أولمرت. وفي "خطاب" الجائزة لم تستطع سونتاغ ان تتخطى "الإشكال" السياسي الذي يعتري علاقة المثقفين الغربيين بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. تمثل سوزان سونتاغ 1933 في السرد والنقد الأميركيين، وكذلك في السينما التجريبية، بدءاً من ستينات القرن الماضي، شخصية إشكالية في علاقتها بالطليعة الأدبية في تلك الحقبة البالغة الأهمية في ثقافة القرن العشرين. فهي استهلت منجزها الإبداعي والنقدي بالهجوم على التيارات النقدية الحداثية التي تتميز بالصرامة المنهجية - بغض النظر عن انتساب هذه التيارات الى الماركسية أو النقد الجديد أو التحليل النفسي - مفضلة نوعاً من الممارسة النقدية يحتفل ب"السطح الحسي" للنص، معلنة في مقالتها الشهيرة "ضد التأويل" 1966 ان ما نحتاجه بالفعل ليس "علماً للتأويل" بل قراءة إروسية للفن". ويمكن ان نعثر في رواياتها التجريبية على صدى لرؤاها النقدية المبكرة حول معنى النص وشكل مقاربته، فهي تستخدم في تلك الروايات المونتاج والتجميع وأسلوبية الفصل والوصل والاستدراك، إلخ. تلك التقنيات والأساليب ما بعد الحداثية. في المعنى السابق تفضل سوزان سونتاغ في مطلع مسيرتها الثقافية، صيغة من صيغ الكتابة الأميركية التجريبية التي تجمع الكتابة الإبداعية والإنتاج السينمائي الى النقد الذي لا يهتم بالمنهجيات الصارمة بل يقدم، كما تعلن سونتاغ، "دراسات حال في علم الجمال، ونظرية في الحساسية الجمالية الخاصة". ومن هنا فإن الكاتبة الأميركية تحتفل بالنصوص الهامشية وتلغي الحدود الفاصلة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية. لكن سونتاغ، ببداياتها الطليعية في الكتابة الإبداعية والنقد، وهجومها المستمر في ستينات القرن الماضي على الحداثة ورؤاها المتصلبة وإهمالها اليومي والحسي والمتواري والهامشي، لم تصمد كثيراً في مواقعها الأولى فهي ترتد، كما يشير نقادها، الى معسكر اليمين الأميركي وتستنكر مواقفها الراديكالية الأولى وتهاجم الصحف والمجلات الطليعية مفضلة عليها مجلات شعبية مثل "الريدرز دايجست"، واصفة الشيوعية بأنها "فاشية بوجه إنساني"، ما جعل احد النقاد يصفها بأنها "أعظم كاتب فيكتوري يعيش بين ظهرانينا"! تسلمت سوزان سونتاغ قبل ايام ما يسمى "جائزة القدس" من رئيس بلدية القدس الإسرائيلي ايهود أولمرت، ولكنها ألقت خطاباً في حفل تسلم الجائزة فيه الكثير من الفذلكة عن مفهومي الحقيقة والعدالة، بما تتضمنه المقارنة بين المفهومين من إحالة غير منظورة الى جذور سونتاغ اليهودية. ومع أن سونتاغ قبلت الجائزة الإسرائيلية في الوقت الذي تشن إسرائيل هجوماً شرساً على الشعب الفلسطيني فتضمنت كلمتها إنكاراً لعملية العقاب الجماعي المستمر للشعب الفلسطيني ما أثار عليها غضب كثيرين ممن شاركوا في احتفال الجائزة. قالت سونتاغ في خطاب تسلم الجائزة: "أنا أؤمن بأن مبدأ المسؤولية الجماعية، كأساس منطقي للعقاب الجماعي، غير مبرر عسكرياً أو أخلاقياً. وأعني بذلك ان استخدام القوة العسكرية غير المتوازن ضد المدنيين، وهدم بيوتهم وتدمير حقولهم وبساتينهم وحرمانهم سبل العيش وسلبهم حقهم في العمل والتعليم والدواء، والدخول غير المقيد الى البلدات والأماكن المجاورة. كل ذلك كنوع من العقاب لعمليات عسكرية معادية قد تكون، أو لا تكون موجودة في المناطق التي يقطنها هؤلاء المدنيون. انني أؤمن أيضاً بأنه لن يتحقق السلام هنا حتى يتوقف زرع التجمعات الإسرائيلية في المناطق، وحتى يتبع ذلك - عاجلاً وليس آجلاً - تفكيك المستوطنات وانسحاب الوحدات العسكرية المكدسة هناك لحراستها". لكن سونتاغ، على رغم موقفها الواضح من الاحتلال والبطش العسكري الإسرائيلي، لا تذكر الفلسطينيين بالاسم، فهناك "مناطق" و"مدنيون" و"عسكريون معادون في الجوار"، لكن ليس هناك فلسطينيون لهم هوية وحقوق في وطنهم الذي انتزعه اخوة سونتاغ في الدين. ان الفلسطيني بلا وجه في هذا النوع من الخطاب الثقافي، وهو موجود في الجوار وليس اكثر من ذلك. ومن هنا تبرز تلك الفذلكة اللغوية، التي وردت في خطاب الكاتبة الأميركية، حول معنى الحقيقة والعدالة، حيث تفهم "العدالة" بوصفها خاصة باليهود الذين تعرضوا ل"الهولوكوست"، و"الحقيقة" بوصفها تمثل الحاضر الذي يتكدس فيه الفلسطينيون في الجوار! إن خطاب سونتاغ، على رغم شجاعته، يهمل جانباً أساسياً في قضية الصراع، ذلك الجانب الذي يتعلق بالحقوق وجذور الصراع، ويتجنب في الوقت نفسه الحديث عن حقيقة قيام إسرائيل على أرض الفلسطينيين وأجسادهم ما يثبت عدم قدرة الخطاب الغربي، ومن ضمن ذلك خطاب اليهود انفسهم، على الوقوف بشجاعة وقول الحقيقة عن الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الفلسطينيين.