ليس المشترك بين الطبقة السياسية اللبنانية والمعارضة السورية تعامل الحكم السوري معهما عن طريق ضباط المخابرات، حسب عبارة وليد جنبلاط الساخطة. المشترك، بالأحرى، ما يشير إليه ذلك من تحكيم المستوى الأمني في التعامل مع الطرفين، ومن ورائهما المجتمعين. ولا يغير من شكل التعامل هذا أنه تتاح للطبقة السياسية اللبنانية أن تلتقي"السياسيين"السوريين حين يحضر أركانها إلى دمشق، فيما يكاد الأمني يحتكر العلاقة معها في بيروت. فالمشكلة ليست مشكلة رجال بل مشكلة سياسة - سنحاول رسم ملامحها. وهي، تاليا، لا ترتد إلى محض تولية ضباط مخابرات الاتصال بالسياسيين اللبنانيين، ولا تتحول بمجرد حلول دبلوماسيين محلهم. في المقابل تقتصر العلاقة مع المعارضة السورية على الأمنيين وحدهم، مع ما يعنيه ذلك من وضع المسدس فوق الطاولة، وحلول التهديد محل التفاوض والسجن محل الحوار. في الحالين، السورية واللبنانية، يصدر التعامل الأمني عن عدم الاعتراف بوجود أطراف سياسية مستقلة في البلدين، وهو ما يشكل الوجه الآخر لمسلمة تصادر على التجانس الاجتماعي وعلى تمثيل مباشر لمجتمع في السلطة بل على"فنائه"فيها بالمعنى الصوفي للكلمة. ففي سورية ذاتها يشكل التعامل الأمني مع الأحزاب والتيارات السياسية المعارضة والمستقلة الوجه الآخر لعقيدة تنكر التعدد الاجتماعي والسياسي ولا تقبل صفة تمثيلية أو سياسية مستقلة لأية جهة في الداخل. بعبارة اخرى، تتحالف العقيدة التي تسمى في سورية"الوحدة الوطنية"مع القوة الأمنية على إلغاء السياسة من المجتمع السوري وتنظيفه من اية أطراف مستقلة. وقد كانت ثمرة المزج بين القوة المفرطة والعقيدة المتطرفة طوال عقود تطهيرا سياسيا تاما للمجتمع السوري. والأمر ذاته بخصوص لبنان. فهنا أيضا تحالفت العقيدة القومية المطلقة الوجه الموسع عربيا لعقيدة"الوحدة الوطنية"البعثية مع القوة العسكرية والأمنية لإخلاء المجتمع اللبناني من السياسة والمطالبات المستقلة. ويتجلى حظر السياسة في ان كل خلاف يتحول إلى عداوة وحرب ياسر عرفات، كمال جنبلاط،... وكل الداخليين، وفي المقابل يمحي الفارق بين الحليف والتابع، ويستحيل تأسيس تحالفات على أرضية غير عقيدية. وهو ما يضمر أن لا منزلة مستقلة بذاتها بين العنف الذي يبيد ويخرج من السياسة وبين العقيدة التي تخوّن وتخرج من الوطنية أو القومية أو تستتبع وتقيم"أخوية"على راسها بطريرك مطلق السلطة. وتتحول وظيفة العقيدة من أحد محددات السياسة لتغدو أداة للسلطة أو"سبباً لجلب الدنيا إلى الرؤساء"حسب التعبير الرائع لأبو العلاء المعري. وبموازاة هذا التحول تتجرد من مضامينها الاجتماعية والوطنية والإنسانية من ناحية، و تتوسع في التخوين من ناحية ثانية. تخون وتقصي بقدر ما تتفرغ من المضامين والقيم الحية. من السمات المميزة كذلك للعلاقة الأمنية التفريد، أي التعامل مع المعارضين كأفراد لا كتنظيمات أو احزاب. وبدورها تصدر هذه السمة من رفض السياسة وإنكار وجود اطراف سياسيين مستقلين. وقد افلح هذا التعامل التذريري المشفوع باستخدام شرس للعنف في تحطيم الأحزاب السياسية السورية في مجري العقدين الأخيرين من القرن العشرين. فنحن في الواقع إزاء نسخة متطرفة من سياسة فرق تسد، نسخة طبقت بصورة مخبرية على المعتقلين السياسيين الذين فصلوا عن أحزابهم وعن السياسة، وجعلوا موضوعات أمنية مفردة معزولة عن بعضها. في لبنان أخذت هذه السياسة شكل عرقلة قيام تحالفات متعددة الأطراف أو عابرة للطوائف بالخصوص. ويندرج كل من الإكراه والتفريد الأمنيين والاحتواء العقيدي ضمن علاقة هيمنة متعددة المستويات وثابتة. وأعني بالهيمنة هنا احتلال السلطة السورية الموقع الذي يمكنها من التحكم والسيطرة على جملة وتفاصيل التفاعلات والعلاقات بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين المحتملين، سواء كانوا أحزابا ام منظمات أم طوائف، أم حتى أفرادا في الحالة السورية. تقوم سياسة الهيمنة هذه، بعبارة اخرى، على منع أي تفاعل مستقل بين الفاعلين المذكورين، وفرض مرور جميع أشكال التلاقي والتواصل والتعارف بينهم عبر رقابة الأجهزة الامنية والإيديولوجية للنظام. وهذا الشكل من الهيمنة ليس مضادا للسياسة فقط وإنما هو مضاد لمحض نشوء مجتمع حي ومتفاعل،"مجتمع مدني". العنف بمفعوله التفريقي والتفريدي والعقيدة بمفعولها الاحتوائي والتخويني أدوات علاقة الهيمنة هذه. ما جعل هذه العلاقة ممكنة هو اختلال ميزان القوى بين الأطراف السورية واللبنانية المعنية. فضعف المعارضين السوريين والقوى السياسية اللبنانية يقلل من فرصهما في نيل الاعتراف بهما كأطراف سياسية مستقلة. وهذا يبقى صحيحا حتى مع علمنا أن ضعف الطرفين المذكورين صنعي وسياسي وبفعل فاعل. إن ما يمكن أن نسميه نظام اللاسياسة يخلق الشروط التي تحرره من الحاجة إلى السياسة: يضعف المعارضين إلى درجة مرورهم دون عتبة السياسة وإغنائه عن الاعتراف بهم والتفاوض معهم. ولعل تبدلات في ميزان القوى تفسر تعيين وليد المعلم نائبا لوزير الخارجية السوري وما تداولته وسائل الإعلام من تكليفه التعاطي مع الشأن اللبناني. فدينامية تحسن وزن المعارضين اللبنانيين وقدرتهم على تشكيل إطار تحالفي يعمل علنا ويكسر حاجز الخوف، حسب تعبير متداول في الأوساط المعارضة السورية استخدمه وليد جنبلاط مؤخرا، دفعت الحكم السوري إلى رفع مستوى العلاقة مع لبنان من المستوى الأمني إلى المستوى السياسي. غير ان المشكلة مشكلة سياسة لا مشكلة رجال كما قلنا، وهو ما يعني ان ولاية المعلم ستكون محدودة الأثر إن لم تندرج في سياق نزع الطابع العسكري والمخابراتي عن العلاقة السورية اللبنانية. سيكون هذا التحول بدوره محدود الأثر في سورية ما لم يندرج في سياق نزع الطابع العنفي والعقيدي عن الدولة السورية، اي طي صفحة دولة الشوكة والغلبة حسب العبارة الخلدونية، الدولة التي لا تترك مجالا للسياسة والتسوية والتي تحتاج إلى عقيدة مطلقة تسوغ عنفها وتطبعه حتى في أقصى اشكاله. نظام اللاسياسة هذا حصيلة غياب نصاب السياسة قدر ما هو سياسة فاعل واع مريد. من جهة أولى لا مقام للسياسة في هذا النظام، لا يعرفها، وفكرتها غير موجودة لديه ولا مكان لها فيه، وقيمها غائبة عن افق تفكيره وممارسته. ولعله حين نزع نظام الحزب الواحد السياسة من المجتمع نسي ان يحتفظ بشيء منها لنفسه. ومن المنطقي أن صاحب السلطة لا يستطيع أن يحكّم العنف والعقيدة في المجتمع الذي يحكمه وأن يبقى سياسيا في الوقت ذاته. فالسياسيون في هذا النظام أسرى سياستهم، او بالأحرى أسرى مفهومهم اللاسياسي للدولة والسياسة، المفهوم الذي ينوس بين العقيدة المطلقة وبين العنف المطلق ولا يكاد يمر بالسياسة إلا عابرا ومضطرا. من جهة ثانية، سيتكشف نزع السياسة مناسبا جدا لمصالح النخبة اللاسياسية وانفرادها بالحكم. وهذا ما سيجعله أيضا خيارا حرا لنخبة لا تملك مؤهلات لغيره. ولن يلبث نظام اللاسياسة أن يقوم على إنتاج العنف والعقائد اللازمة لتغييب نصاب السياسة وتمكينه من إعادة إنتاج ذاته وضمان دوامه. وأسرى اللاسياسة لن يلبثوا ان يأسروا مجتمعهم بشباك الأمن المخيف والعقيدة المعصومة- ويجعلوا من إبقائه في الأسر حريتهم الوحيدة. دمشق 18/1/2005