يتميز الأدب الياباني، أو ما يصلنا منه على الأقل، بتلك المؤالفة النادرة بين الملموس والمجرد أو بين الحسي والماورائي. انه أدب مثقل بالأسئلة العميقة ذات الطابع الوجودي. مع ذلك فإن هذه الأسئلة لا تنتظم في سياق فلسفي أو ذهني بل تنصهر داخل شريط متلاحق من الظواهر والمرئيات وأجزاء الحياة الصغيرة. لكن هذه الجزئيات ليست مجانية أو اعتباطية ولا ترد في اطار من التعسف والافتعال، كما في الكثير من النصوص العربية، بل هي المفاتيح الضرورية للولوج الى الجانب الميتافيزيكي من الحياة وللبحث عن المعنى الخفي الذي يقبع وراء الظواهر والمشاهدات الحسية. ولعل أكثر ما يلفت في الأدب الياباني هو الاحتفاء الاستثنائي بالطبيعة لا بما هي فضاء حيادي أو وجود ساكن ومستقل بل بصفتها فضاء للجسد الإنساني ومدى حيوياً لتمزقات الروح وخلجت القلب. وهذا الاحتفاء يمكن الوقوف على تجلياته في روايات كاواباتا وميشيما وفوكازوا وغيرهم أو في النماذج المختلفة للشعر الياباني القديم والحديث. الا ان الحواس في جميع الحالات هي الممر الإجباري لتلمس جمالات العالم ومراراته ولنقل الرسائل التي ينبغي نقلها للكاتب كما للقارئ. فمن الصعب أن نقرأ رواية يابانية خالية من الزهور والثلوج والفراشات والحباحب والأوز وسائر العناصر والكائنات. والأمر نفسه يتكرر مع الشعر الذي يتحول بكثافته وتقطيره الى لوحات مشهدية شديدة الرهافة والايجاز. ولقد كان الشاعر العراقي سعدي يوسف مصيباً للحقيقة حين اعتبر في احدى الندوات ان ذلك التماهي المدهش مع الطبيعة الذي نجده في الشعر الياباني يجد نظيراً له في الشعر العربي الجاهلي الذي عرف ببراعة كيف يبت الروح في الجمادات وكيف يزيل الفروق بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية محولاً الطبيعة برمتها الى طوطم أصلي للشاعر وللغة على حد سواء. المختارات التي جمعتها ونقلتها نادية عمر صبري من اليابانية الى العربية تحت عنوان"زهور الخوخ"تعكس جزءاً من المشهد الشعري الياباني وبخاصة في نماذجه القديمة التي تعود الى القرن الثامن الميلادي. وإذا كان من الصعب على شخص بمفرده أن يحيط بجميع مراحل الشعر الياباني وفنونه وأساليبه فقد كان يمكن لهذه المختارات أن تكون أكثر تمثيلاً لهذه المراحل والأساليب وبخاصة ما يتعلق منها بشعر الحداثة الذي اكتفت المترجمة بنقل النزر القليل من نصوصه. المقدمة بدورها كانت سريعة ومبشرة ولكنها مع ذلك تمكِّن القارئ من الإلمام بنشأة الشعر الياباني التي كانت نشأة شفوية في البداية ولم يجمع شتاتها إلا في القرن الثامن الميلادي عبر كتاب ماينوشو"عشرة آلاف ورقة شجر". واللافت في العنوان المذكور انه يوائم بين القصائد وأوراق الشجر في لفتة ذكية الى ما يربط بين الناس والأشجار من صلات ووشائج. كما تمر المترجمة سريعاً على نشأة الأشكال الشعرية اليابانية التي بدأت بالتانكا، وهي تعني القصيدة القصيرة، مروراً بقصيدة الرينجا التي كان يتضافر على كتابتها عدد من الشعراء، وانتهاء بقصيدة الهايكو التي هي أشد قصراً وتكثيفاً من التانكا والتي شهدت ازدهارها الأهم مع الشاعر ماتسو باشو في القرن السابع عشر. تتفاوت نصوص المختارات الشعرية اليابانية من حيث موضوعاتها وعمقها وأزمنة كتابتها لكن ما يجمع النصوص برمتها هو الايجاز ودقة الملاحظة وقوة التحديق في الأشياء. فهنا لا نرى أي ملمح للإفاضة الإنشائية والسيلان اللغوي والاطناب الممل الذي نلمحه في الكثير من قصائد الشعر العربي بل ثمة تصويب الى جوهر المعنى وانتقاء ذكي للمفردات والتعابير بحيث يُستغنى عن كل المبالغات التهويلية والعناصر الزائدة. القصيدة اليابانية بهذا المعنى تشبه الى حد بعيد ما يفعله النحات الذي يقشر الحجر من الزوائد وصولاً الى نواته الجوهرية، أو ما يفعله الرسامون الحديثون الذين يكتفون من المشهد ببعض اشاراته ومن الأجساد والوجوه ببعض خطوطها الدالة. ومن بين الشعراء المختارين لا بد من أن نميز كي نو تسوريوكي الذي عاش في القرن العاشر الميلادي وتميز بلغته الجميلة الآسرة وقدرته على التقاط اشارات الطبيعة وانعكاسها في الداخل الإنساني كقوله:"ازهار الخوخ لم تسقط بعد/ سوى ان الماء المنساب/ يعكس صورتها"، أو"في سبخة القصب/ صاح عصفور بأسى/ كما لو أنه تذكَّر شيئاً نسيه"، أو"في عز الشتاء/ خلافاً لكل التوقعات/ بين الأشجار/ يخيل للمرء أنه يرى بعض الأزهار/ من كثرة ما سقط من ثلج". ولا بد للقارئ العربي وهو يقرأ هذه النصوص من أن يتذكر الأبعاد الجمالية المشابهة والبعد المشهدي الموازي في شعر أبي تمام الذي سبق تسوريوكي بأكثر من قرن من الزمن وبخاصة في بيته الشهير"مطر يذوب الصحو منه وخلفه/ صحو يكاد من النضارة يمطر". ثمة لمسة من الحزن تسري في عروق الشعر الياباني. وهو حزن مشوب بعزلة الكائن وإحساسه بالوحشة حتى وهو يحيا وسط ضجيج الآخرين وزحامهم. لكن ذلك الحزن ليس ذا طبيعة ليلية قاتمة بقدر ما هو قريب من التأمل والانكفاء والشجن الشفاف. انه الحزن النهاري والساطع والمبلل دائماً برذاذ النشوة الخفيف. وقد يكون ذلك عائداً الى طبيعة اليابان الغنية بالتضاريس والقريبة الى أبعد الحدود من مشرق الشمس. من هنا نستطيع أن نفهم عطش اليابانيين الى الحب بصفته أحد أشكال الخروج من العزلة والبحث عمن يمكن للشاعر أن يقتسم معه كسرة الألم والأمل. هذا الحب يأخذ في بعض الأحيان بعداً روحانياً خالصاً كقول شاعر مجهول:"نحن/ أنت وأنا/ مثل إبرتي ورق صنوبر/ تجفَّان/ تسقطان/ لكن لا تفترقان أبداً". ويمكن أن يأخذ أبعاداً جسدية تتجاوز شهوانيتها باتجاه أسئلة أكثر اشكالية، وبخاصة في النصوص النسائية المعاصرة كقول فوكاو سوماكو:"أرفع نهدي/ استنشق وأطلق زفير صوت الحب/ كابنة حارس المنارة الشهوانية/ انه بيت مضيء/ سأصنع فيه عالماً ليس بوسع رجلٍ بناؤه". نادراً ما نعثر في الشعر الياباني على شبهة سياسية وايديولوجية أو على ما يشير الى حدث اجتماعي أو مناسبة عارضة. وهي ميزة لا تقتصر على اشعر الياباني القديم وحده بل تنسحب على النصوص المعاصرة أيضاً بحيث لم تتمكن التكنولوجيا اليابانية المتطورة من أن تبعد الشعر عن مصادره"السماوية"والروحية. وكما الشعر الياباني عابر للأزمنة والأماكن فهو عابر أيضاً للطبقات والشرائح الاجتماعية بحيث نرى في شعر الأباطرة اليابانيين الحرقة الإنسانية نفسها التي نراها في شعر الطبقات الرثة والبشر البسطاء. وربما يكمن ذلك في المخزون الروحي والديني الهائل الذي يعيد اليايانيين دائماً، وعلى رغم انجازاتهم التكنولوجية المذهلة، الى عوالمهم الأولى النقية والشفافة. ليس من قبيل الصدفة، أخيراً، أن يكون بين شعراء المختارات عدد لا بأس به من النسَّاك والرهبان. ذلك لأن الشعر الياباني في جوهره ذو بعد تنسُّكي مثقل بالوحشة والتخلِّي والصمت. انه ثمرة الاصغاء الى الطبيعة ومنادمة كائناتها وأصواتها الدفينة. ومن أجدر من الرهبان والنساك تبعاً لذلك بالتعبير عن العزلة المطبقة التي تحيط بالبشر بحيث لا يظل أمام الراهب جيوسون سوى أن يصرخ بمرارة:"أواه يا كرز الجبل/ تعال نعطف على بعضنا بعضاً/ فباستثناء أزهارك/ لا أعرف أحداً". في حين يعلن نو أكارو بلسان أحد الفقراء:"السماء والأرض شاسعتان كما يبدو/ غير أنهما ضيقتان بالنسبة لي/ الشمس والقمر يشعان كما يؤكد الجميع/ غير أنهما لا يلمعان قط لي أنا"!