الكتاب: تمارين على قراءة الشعر الياباني المؤلف: أوكا - ماكاتو المترجم: محمد عضيمة الناشر: دار المواقف - دمشق 1998. لا يضع كتاب "تمارين على قراءة الشعر الياباني" الحسبان لموضوعة الإلهام، اذ ان صناعة الجمال بالنسبة اليه تحتاج الى الخبرة ولا سيما الجمال في اللغة او الناتج عن استخدامها. وما يعتقد بأنه نتاج الإلهام هو في الواقع نتاج تكديس الخبرات. وعبر مئة قصيدة "تانكا" و"هايكو" مع الاضاءات التي ترافق كل قصيدة، يتكشف النظام البلاغي للشعر الياباني، وهي شروحات كان وصفها أوكا - ماكاتو في زاويته اليومية في الصفحة الاولى من جريدة "أساهي" الصباحية، حيث يختار قصيدة "تانكا" او قصيدة "هايكو" لشاعر قديم او معاصر، ثم يعلق عليها موضحاً النقاط الادبية الغامضة. ومن تلك الزاوية خرج اكثر من 4500 قصيدة مختارة ومحققة تحقيقاً دقيقاً. وقصائد "التانكا" هي من النوع الذي ساد في العصور القديمة، عندما كان يُدعى الشعراء الى البلاط لاشباع ذوق الاباطرة الادبي وذوق حاشيتهم. وثمة انطباع مزدوج سنؤخذ به: اولاً انطباع الدخول الى عالم غريب، وثانياً انطباع العثور على جمالية وعقلية شمولية. فضيلة عمل الشاعر أوكا - ماكاتو، على حد تعبير المترجم، تكمن في كونه لا يترك في الظل ما يمكن ان تضيئه معرفة صغيرة بمعطيات تاريخية وأدبية خاصة بالقصيدة المنتقاة. وهو يركز على شعراء غامروا بخرق القانون وعبّروا عن تجاربهم الشخصية ببراعة تثبت ان شكلي "التانكا" و"الهايكو" لا يقتصران فقط على الطبيعة، بل يستطيعان ايضاً التعبير عن جوهر الكائن البشري تعبيراً دقيقاً يتسم بالكثافة لصغر حجم القصيدة. ولكن الطبيعة تبقى وتظل مصدر الإلهام الاساسي للشعر الياباني. اذ ان الطبيعة في اليابان ينبغي التعرف عليها بصفتها نوعاً من الجغرافيا الشعورية، على حد تعبيره، والاحتفاء بها طقس يقترب من العبادة. فهو تقليد قديم. وحول موضوعة التقاليد السائدة في دوائر الشعر الياباني القديم، يتطرق المؤلف الى قضية التدريب على كتابة الشعر. اذ ان هناك حلقات خاصة ينتمي اليها شعراء "مبتدئون" ويديرها شعراء كبار، وما يدور فيها يشبه الى حد ما مناقشة مسألة سياسية او مسألة حسابية. كيف يجب ان تكتب قصيدة "هايكو" وان يجب التركيز وكيف؟ برأيه لا يوجد شاعر ياباني قديم او معاصر لم يمر في هذه المرحلة التدريبية. وفي فصول يابانية اربعة يختار اوكا - ماكاتو قصائده على طريقته. فمن "ديوان الامس والآن" نقرأ القصيدة التالية، وهي من فصل الربيع، لشاعر من نهاية القرن التاسع عشر: "غير مضيئة تماماً وغير غائمة تماماً، لا شيء يساوي ليلةً ربيعية يتحجب اثناءها القمر". يشرح أوكا - ماكاتو ان هذه القصيدة مهداة الى الامبراطور اويدا في السنة السادسة من عصر كامبيو 894. وصاحب القصيدة خبير بالآداب الصينية، ألّفها انطلاقاً من بيت شعر للشاعر الصيني بو- تشو الاول. وبما ان قصيدة "التانكا" هذه تعبّر عن جوهر الربيع الياباني فقد حظيت بتقدير شديد. ويبدو انها كانت وراء انطلاقة "ديوان الامس والآن"، فجمال قمر يتحجّب بشكل خفيف في فتور ونداوة ليلية ربيعية له سحر خاص ومن دون منازع. وفي كتاب "سيرة كانجي" تنشد سيدة "ليلة قمر غائم" هذه القصيدة اثناء لقائها الاول مع الأمير في فصل مأدبة الزهور. ومن فصل الصيف: "حتى قوس القزح نفسه يفكر بأن الزمن موجود". وهي قصيدة من ديوان "ابواب النار" للشاعر آبي - سياي 1914. ان قصائد الهايكو التي تحتفي بقوس القزح كثيرة. غير ان هذه القصيدة فريدة من نوعها، فالشاعر لا يشفق على عرضية ظاهرة يؤنسنُها بالتموضع مكانها كجزء لا يتجزأ من الاشياء. قوس القزح الذي يتكون عندما تنكسر اشعة الشمس في قطرات من المياه العالقة في الهواء هو لا - ظاهرة، ولا - وجود، هو عدم. ان يكون لهذا العدم العابر الذي قدرهُ ان يختفي من دون ان يترك أي أثر، ان يكون لهذه النواة التي لا يقبض عليها، الوقت للتفكير واستخلاص ان الوقت موجود. هذا هو التناقض المثير. ومن فصل الخريف: "نملة جائعة في قمة البرج والقمر عالٍ جداً". وهي قصيدة من ديوان "دفتر الخط" للشاعر يوكو - ميتسو - رئتشي 1898 - 1947. في نهاية عصر تايشو ترأس يوكوميتسو الحركة الادبية لمدرسة الحساسية الجديدة، وتابع إثارة الاهتمام به خلال السنوات الاولى من عصر شوا. كتب قصائد حرة، وقصائد هايكو. والقصيدة المذكورة هنا تحمل عنوان "نملة" وهي من الشعر الحر مكتوبة على سطر واحد. ومن فصل الشتاء: "أثلوج في الجبال؟ عصافير مجهولة تغني في العاصمة". وهي قصيدة مقتطعة من كتاب "حوارات اليابانالشرقية" للشاعر شينكي 1409 - 1457. أتثلج في الجبال؟ رسل الشتاء عصافير مجهولة ظهرت في العاصمة. قد يكون هذا هو معنى القصيدة. لكن هذه القراءة تقلل من اهميتها على حد تعبير أوكا - ماكاتو . أليس من الشيّق اكثر أن نتخيل تضايقاً بسيطاً بين وصف العصافير والاحساس الذي يدفع المشاهد الى التساؤل عما اذا كانت أثلجت في الجبال؟ وشينكي راهب وشاعر من عصر روماتشي، ويُقدّر تقديراً عالياً بصفته منظّراً ل "رنغا" قصيدة مسلسلة. وهذا المقطع - القصيدة مستشهد به كمثال على رهافته في كتاب "حوارات في اليابانالشرقية" وهو بحث نظري كتبه تلميذ له اسمه سوغي: هو الآخر معلّم معروف في مجال "الرنغا" وهذه القصيدة تشكّل - كما يقول - نقطة انطلاق "رنغا" طويلة. اخيراً، بين كون الشعر الياباني صناعة بشرية ونتاج تمارين لا طائل لها وبين الشعر العربي كنتاج قدرة إلهامية هي التي تشكل سطوع اللغة والتعبير الشعريين في روح الشاعر وكيانه، تظهر جماليات ومساحة التعبير الشعري حيث الكثافة والمشهدية واللغة والشكل والافتراق لجهة التناول وهما يحلقان في فضائين مختلفين، يتلقيان تارة "بومضة الحركة وانحناءة اللغة على المعنى وتشظيته، ومن ثمّ تشكيله وفق ما تمليه ارادة الشاعر من جهة وارادة الجملة او الصورة غير الممسوكة وهي تسكن في ذروة اللهيب المترامي، مغسولةً بماءٍ أزرق.