غداً الاحد 2005-01-31 يشهد العراق انتخابات متعثرة بسبب مقاطعة عدد كبير من القيادات السنية المعارضة لاجرائها في ظل الاحتلال. ومع ان رئيس الجمهورية غازي الياور حرص على تكرار دعوة السنّة ومختلف الاقليات والقوميات لممارسة مبدأ المشاركة، إلا أن رسالة التحريض التي أطلقها أنصار صدام حسين باسم أبي مصعب الزرقاوي، ذكّرت المترددين بالحملة العسكرية الضارية ضد مدينة الفلوجة السنية. وحمل الزرقاوي في رسالة صوتية عبر الانترنت، على المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني واصفاً إياه بالشيطان والكافر والزنديق، لأنه سمح باقتحام بيوت الله. علماً أن السيستاني الذي وُلد ونشأ في ايران، ظل يعارض ولاية الفقيه ويطالب بفصل الدين عن الدولة مناقضاً بذلك المدارس الاسلامية في"قم". ولكنه في نظر غالبية سنّة العراق، يمثل المرجعية الشيعية المهيمنة على مختلف القيادات. لهذا استهدفته المعارضة لانه رفض تعطيل الحياة السياسية، ودعا الى المشاركة في انتخابات قد تنتج التحرير وتُخرج الشعب من حال الفوضى وفراغ السلطة. والمعروف ان النظام الحالي في ايران يستلهم مبدأ"ولاية الفقيه"الذي يسمح لرجال الدين بالإشراف المباشر على الحياة السياسية عبر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. ولكن الحوزة الشيعية في مدينة النجف العراقية تميل الى فصل الدين عن الدولة كما يطالب السيستاني. وهو عازم على جعل دستور العراق الجديد مصدراً اساسياً للتشريع، وليس المصدر الوحيد كما في ايران. وفي رأيه ان المجتمع التعددي يجب ان يراعي مصالح وحقوق الاقليات والقوميات من أكراد وكلدان وآشوريين، خصوصاً ان الكلدان يرفضون ان يُصنّفوا مع مسيحيي الغرب، ويقولون ان جذورهم في المنطقة تعود الى اكثر من الفي سنة، وان محافظتهم على لغة المسيح الآرامية هي افضل شهادة على هذا الانتساب. في كلمة الرثاء والعزاء التي خصّ بها الرئيس جورج بوش عائلات ضحايا آخر مروحية سقطت في العراق، لم ينس ان يذكّر الناخبين بأهمية المناسبة التاريخية التي تحققها عملية الاقتراع. وكان بهذا الوصف يخالف آراء حكّام العرب السنّة ممن عبّر عن مخاوفهم العاهل الأردني بقوله انه يرى هلال الازمات ممتداً بواسطة انظمة متجانسة، من ايرانوالعراق وسورية حتى جنوبلبنان. ومع ان الملك عبدالله الثاني وعد الرئيس بوش بأن لا يكرر هذا الطرح، إلا انه لم يخف قلقه من انعكاس تفاعلات البيئة السياسية الجديدة على الاردن وسائر دول المنطقة. وهو يرى ان ظهور"الهلال الشيعي"في سماء الشرق الاوسط سيؤثر حتماً على نفوذ الكتلة السنية داخل العراق وخارجه، اي الكتلة التي حكمت في ظل الاحتلال البريطاني وفي عهد الاستقلال. يرد زعماء الشيعة على هذه المخاوف بالقول ان النسيج الديني والاجتماعي في العراق لم يحرم الشيعة من المشاركة في الحكم برؤساء حكومات من امثال صالح جبر وفاضل الجمالي وعبدالوهاب مرجان ومحمد الصدر. كما انه لم يحرم الاكراد ايضاً من المشاركة بدليل ان احمد مختار بابان انتقاه الملك فيصل الثاني رئيساً للوزراء اثناء فترة الاتحاد الهاشمي بين الأردنوالعراق. كذلك اختير نسيبه جمال بابان رئيساً لأركان الجيش لمدة طويلة. صحيح ان هيمنة العنصر السني كانت بارزة في الحكومات لأنه من اصل 22 رئيس وزراء تعاقبوا على الحكم قبل انقلاب عبدالكريم قاسم سنة 1958 كان هناك اربعة رؤساء حكومات شيعة فقط. اضافة الى هذا فإن الملك فيصل الاول اختار عبد الحسين الجلبي كأول رئيس حكومة تألفت في عهده سنة 1922. ولكن هذه الخلفية السياسية لا تطمئن زعماء الكتل السنية وبينهم انصار صدام حسين لأن الاكثرية الشيعية لن تبقى مهمّشة ومعزولة مثلما كانت طوال ثلاثين سنة الماضية. وهذا يعني ان سلطة العدد ستفرض ادوار المذاهب والأقليات الاخرى ضمن التركيبة الجديدة. من هنا يمكن تفسير المعارضة السنية الشرسة التي تشعر بأن قوة محلية ستُنزلها عن العرش بسبب استقوائها بقوة خارجية هي الولاياتالمتحدة. ولقد طغى مثل هذا الشعور المقلق على الطائفة المارونية في لبنان طوال الحرب الأخيرة عندما شعرت بأن قوة عديدية بديلة تتهيأ لاحتلال مركز النفوذ مكانها. وهذا ما يفسر المحاولات المستميتة من قبل جماعة صدام على أمل أن تنتهي عمليات إنهاك المحتل لعل الانسحاب المبكر يوفر المناخ المطلوب لإنجاح محاولة انقاذ زعيمهم. ولما تأكدت القيادة الأميركية أن أنصار صدام يُعدّون خطة لخطفه من المعتقل، قررت نقله إلى الثكنة العسكرية في قطر بانتظار انتهاء الانتخابات وتقديمه للمحاكمة. يقول المحللون إن نتائج الانتخابات المقرر اعلانها بعد أسبوع بسبب أصوات المهاجرين، ستؤسس لأول نظام شيعي في العالم العربي منذ سقوط الدولة الفاطمية في مصر سنة 1170م. وتكمن أهمية هذا التغيير في نظر إدارة بوش، أن العراق سيصبح منصة الانطلاق التي تقفز منها الولاياتالمتحدة إلى كل الدول المجاورة. بل منصة التأثير على دول المنطقة وعلى أوضاع الشيعة في كل بلد عربي ومسلم، مثل إيران وسورية والسعودية والكويت والأردن والبحرين ولبنان. وهي تتوقع قيام فيديرالية غير مرتبطة بأحكام المركزية بحيث يسمح للأكراد بإقامة دولة شبه مستقلة، وربما يستغل مسعود بارزاني وجلال طالباني الظرف الدولي المناسب لإحراج رجب طيب اردوغان ومنعه من تنفيذ تهديداته بالتدخل العسكري. ذلك أنه يدرك خطورة هذه المغامرة التي ستضيّع عليه فرصة الدخول إلى نادي الاتحاد الأوروبي. كما تفقده الدعم الأميركي المطلوب لضمان المصالح التركية في قبرص وأرمينيا. من جهة أخرى، استغل الأكراد ورطة الحكومة في بغداد ليطرحوا مطالبهم المبدئية بثلاثة شروط يعتبرونها ضرورية لبقائهم تحت مظلة العراق العربي: أولاً، إذا لم يقبل العرب مبدأ الفيديرالية. ثانياً، إذا أقاموا نظاماً دينياً مثل إيران. ثالثاً، إذا رفضوا إعادة الأراضي الكردية إلى كردستان. ولقد هددوا بالانفصال إذا تجاهلت الحكومة الانتقالية أياً من المطالب الثلاثة، أو إذا قوبلت دعوة سيطرتهم على نفط كركوك بالرفض. ويبدو أن رئيس الوزراء الموقت اياد علاوي لمس خطورة هذه التهديدات ومدى تأثيرها على عملية الانتخاب في حال انسحب ثاني أكبر فصيل سني من المعركة، لذلك سارع إلى عقد تحالف انتخابي مع القائمة الكردستانية بزعامة مسعود بارزاني وجلال طالباني على أمل استمالة الأكراد والحفاظ عليهم داخل الدولة. ويؤكد المراسلون في كركوك أن علاوي وعد زعيمي الحزبين بحصص سياسية واقتصادية ترضي مطالبهم. وفي هذا السياق، أعلن السفير الأميركي لدى بغداد جون نغروبونتي أنه يتوقع هيمنة ثلاث مجموعات على البرلمان العراقي المقبل هي: الشيعة والأكراد والعلمانيون. كذلك توقع السفير حصول السنّة على فرصة ثانية خلال مرحلة الاستفتاء على دستور دائم تعقبه انتخابات عامة. الصحف الأميركية تسلط الأضواء على ثلاث شخصيات عراقية تأمل بأن تخلف اياد علاوي في الحكومة المنبثقة عن الانتخابات. ففي المقام الأول ذكرت اسم وزير المال عادل عبد المهدي المننفشي. وهو ينتمي إلى أسرة سكنت محافظة المنتفك، بينما شغل والده منصب وزير التربية مرات عدة. ومع انه يمثل المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، الا ان زعيم المجلس عبدالعزيز الحكيم رشحه لرئاسة الوزراء بسبب استحالة تبوء رجل دين لهذا المنصب السياسي. وتدل السيرة الذاتية لعادل عبد المهدي انه عاش في باريس فترة من الزمن عقب سقوط جناح علي صالح السعدي الذي كان ينتمي الى صفوفه. ويقول اصدقاؤه انه تعرض لسلسلة تحولات عقائدية فانقلب من عضو نشيط في حزب البعث الى عضو مؤثر في الحزب الشيوعي. ولما انهار النظام الماركسي انخرط في صفوف الاسلاميين. ولقد عاد الى حظيرة السلطة عقب صدور قرار يسمح للبعثيين القدامى بممارسة العمل السياسي بعد مرور عشر سنوات على استقالاتهم من الحزب. الرجل الثاني المرشح لخلافة علاوي هو حسين الشهرستاني الذي يخوض المعركة الانتخابية على قائمة المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني. وهو عالم نووي عاش في بريطانيا وتعاون مع الجبهات المناوئة لحزب"البعث". ولقد اطلق في حملته الانتخابية شعارات عدة استعارها من السيستاني أهمها:"لا تسمحوا لطاغية آخر بأن يحكمكم، ولا تدعوا قوات اجنبية أخرى تحتلكم وتملي عليكم ارادتها". الرجل الثالث الذي يستعد للحصول على هذا المنصب هو ابراهيم الجعفري، زعيم"حزب الدعوة"ونائب علاوي. وهو يحذر من الاستسلام لمخاوف الذين يعبثون بأمن البلاد، ويستغلون الاسلام السني لزرع الفتنة. وفي اعتقاده ان المرحلة المقبلة ستشهد حركة من الهدوء والاستقرار لأن الاختبارات السابقة أثبتت فشل مثل هذه المحاولات بسبب نعمة التعايش وروح التآخي. وفي تصوره ان حصانة الانتماءات العشائرية أحبطت التحريض الطائفي في العراق. والدليل على ذلك ان قبيلة"شمر"التي ينتمي اليها رئيس الجمهورية غازي الياور، منتشرة في العراق والسعودية والأردن وسورية، وأن أفرادها ينتمون في مذاهبهم الى السنة والشيعة. ولكن مقاربة هذا الموضوع الحساس من زاوية العشيرة أو الطائفة أو النسب العائلي قد لا تصدق في أكثر الأحيان. ذلك ان عنصر المصاهرة المكثفة بين الأردنيين والفلسطينيين لم يمنع حدوث أيلول الأسود. كما لم يمنع الانتماء الى الطائفة المارونية من وقوع أحداث ثأرية تسببت في سقوط آلاف الضحايا. يقول المؤرخ الدكتور محمد كامل ان الانتخابات التي يشهدها العراق هي أول انتخابات تعددية تجري بعد انقضاء 52 سنة على آخر انتخابات تعددية جرت سنة 1953. ثم جاء انقلاب عبدالكريم قاسم 1958 ليفتتح حقبة طويلة من الانقلابات الدموية انتهت بالاحتلال الاميركي. وربما يكون يوم غد الأحد نقطة فاصلة بين حقبتين يصعب تحديد أثرها السياسي والاقتصادي والثقافي على وحدة العراق. ويبدو أن واشنطن مهتمة بتقرير المراقبين الذين يزيد عددهم على 14 ألف عنصر. في حين ينحصر اهتمام العرب بالنتائج العملية التي ستفرزها مقاطعة السنة وما اذا كانت المقاومة المسلحة ستواصل عملياتها ضد كل المشاركين! * كاتب وصحافي لبناني.