لو كانت الديموقراطية تتحقق بكثرة الحديث عنها لكانت"رياح التغيير"تعصف عصفا ببلاد العرب من خليجها الى محيطها. الكل يؤمن بالديموقراطية ويحلف بها ليل نهار هذه الأيام، ويتفق الجميع على ضرورة ان يكون التحويل الديموقراطي في بلادنا داخلي المنبع، وطني الهوية، ويتبارى الليبراليون مع القوميين والاسلاميين في تأكيد رفضهم للضغوط الخارجية كأداة لتحقيق الديموقراطية ونبذهم لاستيرادها جاهزة الصنع والتحضير عبر شواطئ أجنبية. كما يجمع أكثر المتحاورين على أن مفهومنا للديموقراطية لا بد أن ينبع من خصائصنا القومية والثقافية ويتصف بسماتنا الحضارية. ولا يسعنا غير أن نلاحظ مع ذلك حضورا طاغيا للعامل الأجنبي في فورة الكلام عن الديموقراطية خلال العامين الماضيين، فيصعب في الحقيقة تبين خيط آخر يمكنه ان يفسر القسم المتكرر، وبأغلظ الإيمانات، للحكومات بأنها في سبيلها الى الدمقرطة، وموجة"الاصلاحات"التجميلية التي أوربيين ليكون رد فعلهم على الهزيمة المطالبة بالديموقراطية، ولم يكن عبد الناصر حين أصدر بيان 30 مارس يخضع لضغوط أميركية وانما لحالة شعبية عارمة ربطت بين الهزيمة والاستبداد. الأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، وكلها تنطوي على عنصر جوهري يكاد ينطق بغيابه عن"الفورة الديموقراطية"الجارية، الا وهو زخم شعبي يطرح المطالب الديموقراطية ويسعى لفرضها. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في نقاش الداخل والخارج. فليس السؤال المطروح بتهافت سؤال ايهما أفضل: استيراد الديموقراطية أم إنتاجها محليا، لكنه يتعلق تحديدا بتعيين هوية المنتج المحلي وكيفية الإنتاج. لماذا تستنكف الشعوب العربية عن المطالبة بالديموقراطية والنضال من أجلها؟ هذا هو السؤال الفعلي المطروح على الجماعات السياسية والايديولوجية الصاخبة بالمطالب الديموقراطية هذه الأيام. والتعليل بالاستبداد مصادرة على المطلوب، فتفسير العجز عن النضال ضد الاستبداد بوجود الاستبداد نفسه هو ضرب من العبث والاضطراب المنطقي السافر. العنصر الأجنبي في الفورة الديموقراطية الجارية يكشف عن نفسه ايضا من خلال عنوانه المختار، أي"الاصلاح العربي". ومن المثير للانتباه ان الجميع - حكومات ومعارضة - تلقفوا عنوان الاصلاح وصاروا يرددونه دونما تأمل يذكر في مغزاه وفي ما يحمله من حقائب ايديولوجية مكتظة. فعبارة الاصلاح هنا لا تطرح بمعناها القديم، أي تدريجية التغيير أو راديكاليته، وانما بمعنى اصلاح المعوج وانتشاله من عوجه الى طريق قويم، وهو المعنى نفسه الذي نقصده عند الحديث عن"اصلاحيات الاحداث"على سبيل المثال. فمشكلة العرب - وفقا للمفهوم الذي تقوم عليه دعوى الاصلاح الراهنة - هي رفضهم للتطور، أي للحداثة، مثلهم في ذلك مثل الحدث الذي تؤدي صدمة أو رضة نفسية معينة الى حجز النمو الطبيعي لشخصيته فيجنح الى العنف أو ادمان المخدرات وغيرها من أشكال الجنوح. فرفض العرب للحداثة، أي للنمو الطبيعي، وفقا للمفهوم نفسه، هو السبب الفعلي وراء افرازهم للعنف والتطرف الذي يجعل منهم خطرا على أنفسهم وعلى الآخرين، واصلاحهم نوع من العلاج النفسي، يقوم على تخليصهم من عقدة الغرب الذي يلومونه على كل خيباتهم وإجبارهم على تحمل المسؤولية عن أنفسهم وأفعالهم، كأي شخص راشد. لكن اذا ما قبلنا بخسارة وخيبة الرهان على عامل خارجي خائب وعنصري واستعماري النزعة في تحقيق الديموقراطية في البلاد العربية فعلام نراهن اذاً؟ بداية لا يوجد في حياتنا السياسية الراهنة تيار واحد يمكن ان نعتبره تيارا ديموقراطيا حقيقيا. الليبراليون العرب يُنتقدون عن حق على افتقادهم لحد أدنى من الانسجام في دعاواهم الديموقراطية، فيروّعهم استبداد صدام وآيات الله في ايران ولا يروعهم بنفس القدر"القانون الوطني"في الولاياتالمتحدة وفضائح أبو غريب وغوانتانامو وعربدة شارون في الأراضي الفلسطينية، يبررون وعلى الأقل يتفهمون غزو العراق وتدميره تحريراً له من نير صدام، ويطالبوننا في الوقت نفسه بالتعامل الواقعي مع نير الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والأميركي للعراق. والواقع، ليست الديموقراطية هي قضية التيار العربي الليبرالى الأهم، قضيته الكبرى هي"الواقعية"في التعامل مع الغرب واسرائيل، وهدفه الأسمى هو طي صفحة صدام يراه مدمرا ولا طائل منه بين العرب وبينهما. ويلي تلك القضية في الأهمية عند الاتجاهات الأكثر انسجاما في صفوف التيار الليبرالي الدفاع عن التقليد الحداثي شبه العلماني في التاريخ العربي الحديث، وذلك بعد ان انفكت عرى الصلة الوثيقة بين هذا الميراث وقضية مقاومة الاستعمار، في زمن كانت"التقدمية"فيه مساوية للعداء للامبريالية، والرجعية السلفية مرادفة للعمالة. ولا يقل التيار القومي-الاسلامي عن الليبراليين افتقادا للمصداقية في دعواه الديموقراطية. فالديموقراطية عند هذا التيار مساوية لطغيان أغلبية مُتصوّرة يراها قومية أو إسلامية أو قومية-اسلامية، والمطالبة بالديموقراطية عنده ليست أكثر من طريق لتحقيق ذلك الطغيان عبر جهاز دولة، وليس أدل على ذلك من تلك الغابة من الخطوط الحمراء التي لا يمل ممثلو هذا التيار من رسمها لنا جميعاً وهم في المعارضة، ومن رحابة صدر لا حد لها تجاه العصف بالحريات الديموقراطية حين يكون القائمون عليها ممثلين مفترضين للأغلبية القومية-الاسلامية. ولم أتعرض هنا لليسار لأنه في الحقيقة لم يعد يمكن الحديث عن يسار عربي، وذلك بعد استقطابه الحاسم بين التيارين العريضين الآنفي الذكر، ليصبح ذيلا لهذا أو ذاك في أسوأ الأحوال، أو جناحا يساريا لهما في أفضلها. وبقدر حاجتنا الملحة الى تيار ديموقراطي حقيقي يطرح طريقا ثالثا بديلا للاستقطاب بين التيارين الرئيسيين، فالديموقراطية في نهاية المطاف هي نتاج ميزان للقوى الاجتماعية. فلماذا تتنازل أنظمة مستبدة عن استبدادها طالما لا يوجد من يقنعها على الأرض وليس على ورق مشاريع الدساتير بأن العقاب على الاستمرار في الاستبداد أشد وطأة من الامتيازات التي تفقدها بتخليها عنه؟ وهل بيننا من يتذكر ان العصر الذهبي للديموقراطية الغربية قد تم على أيدي النقابات العمالية وحركات الشباب والمرأة والمستهلكين والمدافعين عن البيئة وغيرها من القوى والحركات الاجتماعية؟ الليبراليون يريدون"ديموقراطية"تسمح بتسوية الأمور مع الغرب، والقوميون-الاسلاميون يريدونها طريقا لمحاربته، وكلاهما يراهن على ضغوط غربية لتحقيقها، لكن لا يبدو ان هنالك أحدا يرى الديموقراطية ميداناً للتصارع والتفاوض بين القوى الاجتماعية الشديدة التنوع في الرؤى والمصالح التي تحفل بها مجتمعاتنا العربية. وهكذا يظل النقاش الديموقراطي نقاشا بين الأفندية وبينهم وبين الباشوات والبهوات والخواجات، وكل من هو خارج هذه الدائرة ينتمي الى كتلة من الدهماء لا تميز فيها ولا تنوع، موضوع للتلاعب وورقة للتفاوض وأداة للمزايدة، وفي نهاية المطاف ضحية مستمرة لبطش لا يحده قانون.