نظّمت مكتبةBouwlust في مدينة لاهاي الهولندية أمسية أدبية للقاص والروائي العراقي فؤاد التكرلي قدّم خلالها شهادة عن تجربته الأدبية التي تمتد منذ أوائل خمسينات القرن الفائت وحتى يومنا هذا. وقد جاءت هذه الشهادة تحت عنوان"تجربة الحياة والكتابة، والعلاقة المتبادلة بينهما". ويمكن تلخيص هذه الشهادة بعدد من المحاور الأساسية أبرزها مدى تأثير الكتابة في الحياة الشخصية، وبالعكس، القراءات القصصية المكثفة منذ أعوام 1939 - 1942، وانفتاحه على العوالم القصصية والروائية الجميلة التي لا عهد له بها سابقاً، بداية وعي الذات والممارسة الآلية لكتابة المذكرات، وبعض القصص والمسرحيات، كتابة رواية"بصقة في وجه الحياة"وتأجيل نشرها قرابة 52 عاماً، ثم انفتاحه على الموسيقى الكلاسيكية التي أمدّت نصوصه بالتناغم، والتماسك، والوحدة العضوية، الابتعاد عن بغداد، وعزلته في"بعقوبة"التي هيأت له فرصاً ذهبية في تأمل الذات الشخصية والعالم المحيط به، إضافة إلى الهمّ الفني، وتوقه اللامحدود لكتابة قصة قصيرة لا يمكن أن نردّها إلى الأدب الأجنبي، كتابة"العيون الخضر"القصة العراقية القصيرة التي وضعت التكرلي في مصاف المجددين في القصة العربية، مواصلة هذا النمط الفني الجديد الذي أشعره بثقة عالية في النفس، ووفر له عنصر الإحساس بالحرية الداخلية التي أفضت إلى كتابة"المجرى، أمسية خريف، الآخرون، موعد مع النار"وقصص أخرى لا تقل شأناً عن سابقاتها ونشرها بين عامي 1956-1957، ثم نشر رواية"الوجه الآخر"عام 1960، مجازفته بنشر رواية"الرجع البعيد"عام 1980 في بيروت على رغم انتقاده الشديد للنظام السابق، وما يترتب على هذا الموقف من مسؤولية جسيمة، انقطاعه عن الكتابة السردية لمدة خمس عشرة سنة، ثم الشروع في كتابة روايته التي كانت مستعصية"خاتم الرمل"بعد إيجاد الصيغة الملائمة التي تعبّر عن رؤيته الفنية الجديدة، نهوض روايته التي كانت راقدة في أعماقه"المسرات والأوجاع"وإنجازها في وقت قصير قياساً بأعماله الروائية السابقة."هذه هي أبرز المحاور التي تحدث عنها خلال الندوة. في اليوم الثاني، وفيما نحن نتجول في مدينة أمستردام دار بيننا حديث من نوع آخر، لا يقتصر على قصصه ورواياته المعروفة، وإنما يمتد إلى روايته الإشكالية"بصقة في وجه الحياة"ومجموعته القصصية الجديدة"خزين اللامرئيات"اللتين لم تأخذا حقهما الكامل من النقد والدراسة والتحليل. وما إن شعر التكرلي بأهمية هذا الحوار حتى قال لي:"من الأفضل أن تدوّن هذه الأسئلة، وتترك لي فرصة الإجابة عنها حينما أعود إلى الفندق". هكذا كانت الأسئلة، وفي الآتي نص الإجابات: طالما أن قصة"العيون الخضر"تشكّل منعطفاً أساسياً في كتابة النمط القصصي الحداثي في العراق دعني أتوقف عندها في أكثر من موضع. لماذا اخترتَ"العيون الخضر"عنواناً لهذه القصة؟ هل يحمل هذا"اللون"دلالة رمزية ساعدت في الشروع بالنص، وبنائه، وتصعيده، والانتهاء منه بطريقة فنية؟ هل أن هذا العنوان جاء مصادفة أم أنك توصلت إليه نتيجة تأمل طويل مدروس هيأته لك حياتك الهادئة والمعزولة في أثناء تواجدك في بعقوبة؟ -"العيون الخضر"أقصوصة شكلّت انعطافة أساسية عندي، وليس في كتابة النمط القصصي العراقي، إذ لا أستطيع أن أدعي أن إنجاز أقصوصة فنية واحدة يمكن أن يغيّر المجرى الأدبي في قطرٍ ما، لكنها كانت عملاً أساسياً بالنسبة إلي كما قلت، جعلتني أثق بنظرتي إلى اللغة وإلى الفن القصصي عموماً. العنوان له صلة بمجرى الأقصوصة وبمسارها، فهي تحكي عن بغي تترك بغداد ذاهبة إلى كركوك بسبب ملاحقة الشرطة لها، وحين يمر القطار بمدينة تتذكر شخصاً كان يزورها في بيتها المشبوه في بغداد وأخبرها أنه يسكن في بعقوبة، فإذا قررت الهرب من حياتها التعيسة التي تعيشها فما عليها إلا أن تأتي إلى بعقوبة، وتسأل عنه. لم يمارس معها الجنس، وكان عاشقاً لعينيها بصورة خاصة، فقد كانت ذات عينين خضراوين جميلتين، ومن هنا جاءت التسمية مبدئياً. لقد جاءني العنوان بشكل تلقائي، وفرض نفسه عليَّ من دون تأمل طويل ولا دراسة، وهو، في اعتقادي، عنوان موحٍ وجذّاب، وله دلالة"ملوّنة"وهذا يكفي. قلتَ غير مرة إنك عرضتَ"العيون الخضر"، هذه القصة التي كتبتها بتأنٍ ملحوظ على القاص عبدالملك نوري، وقد حاول مداراة دموعه التي غالبته في أثناء قراءته لها، جرّاء تأثره البالغ بأحداث هذه القصة ودلالتها الرمزية العميقة. هل لك أن تحدثنا عن مشاعره الحقيقية، وانطباعاته الصادقة عن غبطته بهذه القصة إلى درجة التصريح بالقول:"إنه كان يتمنى أن يكتب قصة مثلها أو على شاكلتها". وفي المناسبة لماذا لم تعرض هذه القصة على صديقك الشاعر عبدالوهاب البياتي في حين أنه كان يعرض عليك محاولاته الشعرية الأولى؟ - أخبرتك بظروف كتابة هذه الأقصوصة، وكيف كانت ولادتها سهلة ومن دون تعقيد، وكنت سعيداً بإنجازها. آنذاك كانت صداقتي مع عبدالملك في بدايتها، وكنّا نلتقي بين أسبوع وآخر. أنزل أنا بعد ظهر يوم الخميس لألتقيه عصراً في المقهى"السويسري"، فنذهب مع أصدقاء آخرين إلى كازينو"بلقيس"أو كازينو"غاردينيا"من أجل جلسة شراب أو حديث أدبي جميل. كان عبدالملك نوري اسماً لامعاً في سماء الأقصوصة العربية، وكنت أجد فيه الصراحة والرأي النافذ. لم يكن يخفي رأيه مهما بدا ذلك الرأي قاسياً، ولذلك كنت واثقاً من أنه سيبدي رأياً جديراً بالاستماع إليه. لم أتوقّع أن يتأثر هكذا، وأن يحاول إخفاء تأثره، كنت أراه هكذا أول مرّة. قال بعد ان هدأ وأشعل سيجارة، إنه يشعر وكأنه هو الذي كتب هذه الأقصوصة. أما لماذا لم أعرضها على عبدالوهاب البياتي على رغم صداقتنا القديمة فلأنه كان مدرّساً في الرمادي، ولا يأتي إلى بغداد إلا لُماماً، وكنّا نتبادل الرسائل لنتغلّب على هذه المسافات. عطفاً على السؤال السابق، وفي ما يتعلق بالسياق الزمني ودوره في حياتك الإبداعية التي وُسِمَت بميسم الحداثة منذ زمن مبكّر. ففي العام 1951 أسستم جماعة أدبية صغيرة، لم تُعلن عن نفسها ببيان أو خطاب أدبي محدد، وقد تألفت هذه المجموعة من أربعة أسماء أدبية مهمة وهي القاص عبدالملك نوري، والشاعر عبدالوهاب البياتي، والناقد نهاد التكرلي، والقاص فؤاد التكرلي، وكنتم تجتمعون كل خميس تقريباً في مقهى"السويسري"، هل لك أن تتحدث لنا عن طبيعة هذه اللقاءات وأهميتها في تكوينك الثقافي، وما هي طبيعة الفائدة الأدبية منها خصوصاً أن بين هذه المجموعة القاص والروائي والشاعر والناقد؟ - يهمني كثيراً أن أذكر بالخير هذه الجماعة الصغيرة: نهاد التكرلي، وعبدالملك نوري، وعبدالوهاب البياتي، وأنا. كنّا نجتمع معظم الأحيان مساء الخميس، ليس كل خميس، ولكن بين أسبوع وآخر، أنا ونهاد نأتي من بعقوبة حيث كنا نسكن بحكم الوظيفة، ويأتي عبدالوهاب من الرمادي حيث يقيم بحكم عمله أيضاً. نجتمع في المقهى"السويسري". كان مقهى رائعاً، يحلو الجلوس فيه والنقاش. وكنا، في جلستنا تلك، وقبل أن نترك المقهى، نتبادل ما لدينا من إنتاج أدبي وفكري. ثم يحثّنا عبدالملك بعد نفاد صبره من الجلوس، بخاصة بعد أن يأتي نديمه وصديقنا ساطع عبدالرزاق. نقوم قاصدين كازينو"غاردينيا"... الجلسات في تلك الكازينو، تبدو لي كأنها حدثت في ما قبل التاريخ. كم مضت بسرعة؟! كنا نداوم على الحديث والمداعبات والتعليقات خلال الساعة الأولى، ثم تتأجج الأحاديث والمناقشات، وعلى رغم ما كان يفصل بيننا من أفكار، فإنّ المودّة والاحترام المتبادل كانا سائدين على الدوام. خلال سنوات اللقاء تلك 1950-1954 كنا ننصهر روحياً وفكرياً ونحاول أن نتمثّل مشكلات العالم الحقيقية، وأن نتلمّس معنى التغييرات الجذرية التي كانت تحدث على الساحة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية. كان شقيقي نهاد يتابع باهتمام مستجدات الجو الثقافي والأدبي في فرنسا، وكنّا نتلقف كل صغيرة وكبيرة باهتمام زائد. كان عبدالملك قارئاً شرهاً للأدب الإنكليزي والأميركي. وكنت أدرك أن الوعي الفني والسيطرة عليه هو الأهم. وكان عبدالوهاب يحمل"معملاً"داخلياً من طاقة شعرية لا تنفد. لم يكن يتكلم في تلك الجلسات، لا كثيراً ولا قليلاً. يشير أحياناً بيديه دلالة على الموافقة أو على الرفض. إذا أمكن أن نفترض أن المواهب والطاقات الأدبية"تطبخ"أحياناً على نار هادئة، فقد كانت تلك اللقاءات هي نارنا الهادئة المباركة. فإذا اعتبرنا من بعض نتائجها صدور ديوان"أباريق مهشّمة"لعبدالوهاب البياتي و"نشيد الأرض"لعبدالملك نوري، ومجموعتي"الوجه الآخر"، ومقالات شقيقي نهاد المتميزة، فإن النتائج الأخرى التي حققناها أنا وعبدالوهاب كانت أخطر، وأكثر اتساعاً وتأثيراً. منذ قصصك الأولى وأنت مشغول بالتجريب والتجديد، ما الذي يدعوك لهذه النزعة التجديدية؟ أهو الملل من الأساليب القديمة، أم حاجة القارئ أو الناشر لذلك؟ أم حاجتك الشخصية بصفتك مبدعاً لا يروق له السقوط في فخ النمطية؟ - يمكن أن أقول لك أيها الصديق عدنان، إنني لم أكن مشغولاً بالتجديد، بل كنت مشغولاً بإتقان تنفيذ الأفكار التي كانت لدّي عن كيفية كتابة الأقصوصة. كانت هناك مشكلات غير مرئية أمام الكاتب القصصي العربي، عليه أن يحلّها قبل أن يبدأ، ليس آخرها استكمال رؤياه عن العالم والإنسان، وأمام هذا الموقف يصير البحث عن التجديد من أجل التجديد أمراً عبثياً، ولا جدوى منه. في قصصك ورواياتك اللاحقة اتضحت معالم"الكلاسيكية الجديدة"بحيث بات القارئ قادراً على ملاحظة الخصائص والمزايا السينمائية في أعمالك كالتقطيع السينمائي، والفلاش باك، والتداخلات الزمنية، وما إلى ذلك. هل هذه البنية الدرامية السينمائية من ولعك بتيار"الواقعية الجديدة"التي رسم ملامحها مخرجون كبار من طراز أنتونيوني، وفلليني وروسلليني. هل لك أن تضيء لنا جوانب من هذا الأسلوب الذي يجمع بين الأدب والسينما والدراما إلى حد ما؟ - أتفق معك في وصف أعمالي بأنها كلاسيكية جديدة، وأعتقد بأن القارئ، بمستواه الحالي، يمكن أن يستجيب لها، ويتمتّع بها فنياً. الأسلوب السينمائي لم ألجأ إليه إلا أخيراً، قبل ذلك كنت أحاول أن أستغل مخيلة القارئ لأحرّكها بواسطة اللغة فتترسّم عليها صور تتحرك وتؤثر في نفس هذا القارئ، هذه عملية شبه سينمائية، ولكنها لا تتبع الأسلوب السينمائي. تأثرت طبعاً ببدايات"الواقعية الجديدة"في السينما الإيطالية، وبخاصة لدى"دي سيكا"في فيلمه"سارق الدرّاجات"المشهور، وفيلم"الطريق"لفلليني، و"الليلة"و"فوق الغيوم"لأنتونيوني. سحرتني فيها بساطة الأسلوب، وعمق الصورة، وما يتولّد من دراما إنسانية مؤثرة للغاية. وبسبب اختلاف وسائل التعبير، وتعقيد التقنيات السينمائية المعاصرة، يصعب على المؤلف الروائي أن يتأثر أكثر مما يجب بما يفعله المخرجون الحاليون. كل تقنية سينمائية يجب أن تؤخذ بحذر حين نحتاج إلى تطبيقها أدبياً. لدينا الصورة وكيفية تقديمها، ووجهة النظر، ثم التقطيع، والانتقال الزماني والمكاني. صحيح أن هذه التقنيات توسّع أمامك مجالات الاختيار، ولكن يجب أن تُستغل من أجل تقديم الفكرة الأدبية بصورة جيدة، ولذلك فقد مارست بعض هذه التقنيات لضرورة استكمال فكرتي الروائية. في معظم قصصك القصيرة ورواياتك ثمة بطل مثقف، متحدر من الطبقة الوسطى، مسكون بالأفكار الوجودية، والقلق الحياتي المتواصل. هل تريد أن تخلق نمطاً محدداً من الشخصية العراقية التي تنتمي إلى فؤاد التكرلي أكثر من انتمائها إلى القصاصين والروائيين العراقيين كما هو حال محمد جعفر في"الوجه الآخر"وتوفيق لام في"المسرات والأوجاع"وما إلى ذلك؟ - كلا، وفي ظني، أن هناك اختلافاً بين الشخصيات التي قدّمتها... اختلافاً أخلاقياً إذا أمكن القول،"محمد جعفر"لا علاقة له ب"مدحت"في"الرجع البعيد"، وهذا الأخير لا يشبه أبداً"هاشم السليم"في"خاتم الرمل"، وكلهم لا يرتبطون، كما أعتقد، ب"توفيق لام"بأي صلة. لقد أردت دائماً أن أقدّم فرداً لا أنموذجاً، ولا بد لكل ما أقدّمه من أن يكون منتمياً لي بوعي، أم من دون وعي. روايتك المهمة"الرجع البعيد"فلتت من الرقيب بعد أن جازفت بنشرها في بيروت، ثم دخلت العراق لاحقاً في أول أيام الحرب العراقية - الإيرانية. هل لك أن تتحدث لنا الآن عن وجه الإدانة لما فعله النظام السابق من قتل، وتغييب، وهتك، وتدمير للعراقيين، وخصوصاً أن هذه الإدانة فنية، بعيدة من الشعارات والزعيق السياسي الصارخ؟ - خضعت"الرجع البعيد"للرقابة، وقد رفضها الرقيب الحزبي، فاضطررت للسفر مرتين إلى بيروت خلال الحرب لطبعها والإشراف على تصحيحها. كانت تلك معاناة من نوع خاص كنت في غنى عنها. والغريب أن دخول الرواية إلى العراق كان سهلاً ومن دون تعقيدات. أجلتَ نشر روايتك الأولى"بصقة في وجه الحياة"قرابة "52" سنة، هل جاء هذا التأجيل لأن الرواية تتحدى التابو الجنسي وتتعاطى مع فكرة"سفاح المحارم"، أم أن هناك أسباباً أخرى ورد بعضها في تقديمك للرواية التي وصفتها ظلماً بأنها"ثمرة فجة قُطفت قبل أوانها"في حين أن الرواية تكشف عن هاجس وجودي قوي و"تصفية لحسابات الذات المرتبكة"، ولغة متوهجة في الكثير من مواضع النص؟ - لم يكن المجتمع العراقي في آخر الأربعينات يتحمل أو يطيق عملاً من نوع"بصقة في وجه الحياة"، ولم يكن في استطاعتي، في سني آنذاك، أن أنشر تلك القصة. لا تنسى أن حسين مردان حوكم على نشره"قصائد عارية"وسُجن ستة أشهر بحكم من محكمة جزاء بغداد."بصقة في وجه الحياة"كانت أخطر بكثير من قصائد حسين، ولم يكن أمامي إلا المحاكمة إذا نجحت في نشرها. وبسبب أنني كنت في السنة الثالثة من دراستي الجامعية، وكان وضعي العائلي معقداً، لم أستطع أن أغامر بنشرها وأقضي على مستقبلي. إضافة لذلك، فقد كان في إمكاننا، أنا والرواية، أن ننتظر الوقت المناسب، وقد جاء بعد أن طال كثيراً. في معظم حواراتك الصحافية تتحدث عما يشبه الثالوث المؤلف من"الحرية الداخلية والطاقة الكتابية والرؤية الفنية"، هذا الثالوث الذي يساعدك دائماً في كتابة نص مختلف لا ينتمي إلى السائد والمكرور من النتاجات القصصية والروائية. ما صحة هذه المقاربة النقدية؟ - أعتقد بأن هذه المقولات ضرورية لكل كاتب مخلص يريد أن يقدّم عملاً متميزاً هو صدى لا خلاصة، ومن خلال تجربتي وجدت أن فقدان إحدى هذه المقولات يهبط بالعمل الأدبي، بل قد لا يؤدي إلى استكماله، فهذه المقولات مرتبطة ببعضها ارتباطاً يكاد يكون ارتباط السبب بالنتيجة، فالحرية الداخلية تطلق الطاقة الكتابية من عقالها فتمسك بها الرؤية الفنية لتوجهها الوجهة الصحيحة المطلوبة. غالباً ما تصف اللحظة التنويرية التي تدفعك للشروع في الكتابة، سواء في القصة أو الرواية أو الحوارية، باللحظة الغامضة أو المبهمة أو المعقدة لأنك تغوص في الأعماق السفلى السود من ذاتك، وأناك العميقة، وباطنك الوجودي العصي من أجل استجلاء الرؤى الفنية والفكرية السابحة في السديم الأول أو الهيولي الذي لم تتحدد ماهيته بعد؟ ما صحة هذا التأويل في مقاربة فعل الكتابة لديك، وطقوسها إن كانت لديك طقوس محددة؟ - في الحقيقة تطرقت إلى وصف لعملية الاقتراب من الفعل الكتابي فقلت إنني أشعر بأنني"مبتلع"من فكرة طاغية مستبدة ترغمني على الجلوس والإمساك بالقلم والكتابة. هذا الابتلاع، هو في الواقع، الدخول في نفق مظلم لا أعرف نهايته بالضبط أحياناً، ولذلك أميل إلى تشبيهه، كما قلتَ، بالسديم أو الهيولي. إنها عملية غامضة وممتعة ومحاطة بالمعاناة. لماذا لم تُمثّل حوارياتك مثل"الصخرة"و"الكف"و"لعبة الأحلام"و"أوديب، الملك السعيد"و"الثمن الآخر"، هل لصعوبتها الأسلوبية، أم لأنها تجمع بين القصة والمسرحية، أم لأنها جنس أدبي ثالث يحمل خواصاً معينة؟ - أعتقد بأنها تحتاج إلى مَن يعمل عليها ليجعلها صالحة للتمثيل، فأنا لست كاتباً مسرحياً، بل كاتب حوار. وكم بودي لو شاهدت إحدى هذه الحواريات تنجح على المسرح. في مجموعتك الأخيرة"خزين اللامرئيات"الصادرة العام 2004 وفي هذه القصة بالذات التي تحمل المجموعة عنوانها ينتكس البطل عبدالرحمن بطريقة فنية توحي بأن القاص لا يريد له أن يتجاسد مع حبيبته السابقة خديجة، تماماً كما يتجه الأب في"بصقة في وجه الحياة"إلى خنق ابنته وقتلها لئلا يقع هذا الاتصال الجسدي، هل هذه حيلة فنية أم أن طبيعة الحدث القصصي تقتضي هذا النوع من المراوغة؟ - يخيّل إلي أن عبدالرحمن في"خزين اللامرئيات"كان أقرب إلى العجز وعدم التوازن حين كانت فتاته تستسلم له بعيون حزينة. كان مملوكاً بالشفقة عليها آنذاك، ومع هذا الشعور يصير امتلاكها أمراً صعباً وبعيداً.