كان موعدنا، عبد الملك نوري وأنا، في المقهى السويسري هذا المساء" ذلك المقهى الذي قيل إن جواد سليم وبعض اصدقائه من الفنانين البولونيين صمموا داخله وزينوا الجدران برسومهم. كان عبد الملك قد قرأ، صدفة، مجموعة من أقاصيصي كتبتها بخط يدي في دفتر صغير ازرق وأعطيتها منذ مدة طويلة لصديقي الفنان نزار سليم. كنت ونزار قد تعارفنا في بداية سنتنا الدراسية الأولى في كلية الحقوق 1945-1946، وتوثقت علاقتنا خلال تلك السنة. أتذكر جيداً زيارتي لدارهم القديمة في الحيدرخانة أم لعلها محلة اخرى قريبة ودخولي الغرفة التي كان جواد سليم يشتغل ويعيش فيها ورؤيتي للقيثار الذي اعتاد العزف عليه ولتمثال أو مشروع تمثال من الجبس وللفوضى الفنية البادية على محل سكن ذلك الفنان العظيم. كان نزار أصغر أخوته وكان رساماً ممتازاً في عائلة من الفنانين، يمتاز عليهم بانه كان مترجماً وكاتباً قصصياً ايضاً" وخلال سنتنا الاولى في كلية الحقوق عمل لي صورتين نصفيتين بورتريه متقنتين جداً، واحدة منهما بالاقلام الملونة. ولكم آسف الآن لضياع تلك الاعمال الفنية التي كنتُ اعتز بها غاية الاعتزاز. الامر الغريب مع نزار انه، مع تفوقه في الدروس القانونية وفهمه الجيد لها، فقد فشل مرتين في اجتياز الامتحانات النهائية واضطر للسفر الى دمشق لاكمال دراسته" ثم تخرج من كلية الحقوق وعين موظفاً في وزارة الخارجية العراقية. وبسبب سفره الى خارج العراق، كما أتذكر، أعطى دفتري الازرق الصغير الى صديقنا المشترك ساطع عبدالرزاق ليوصله إليّ. كنتُ، وقتذاك، أريد من نزار راياً نقدياً في تلك الاقاصيص الاولى التي كتبتها خلال السنوات الماضية والتي لم تنشر على كل حال. ولم يعطني رأيه وسافر دون ان أراه الا بعد ذلك بسنوات طويلة، حين صار رأيه غير ذي محل. أطلع ساطع عبدالرزاق صديقه عبد الملك نوري - القاص المعروف - على ذلك الدفتر الصغير فقرأه وأحب ان يلتقي بي فكان موعدنا ذاك في المقهى السويسري. كان عبد الملك نوري في الثامنة والعشرين من عمره، يتضمن تاريخه بضع نقاط مضيئة في دنيا الادب وفي مجالي الحياة" فقد فازت أقصوصته فطومة بالجائزة الاولى في المسابقة القصصية المهمة التي أجرتها مجلة الأديب البيروتية سنة 1948. كانت تلك المسابقة، حسب علمي، هي الاولى على النطاق العربي في مجال فن الاقصوصة، وكانت محفزاً عظيماً ومنبهاً ذا معنى لهذا الفن الادبي الصعب. ولا بد لي، بعد كل هذه السنوات، من التنويه بمؤسس مجلة الأديب ألبير أديب، ذلك الجندي المجهول والشاعر الرائد الذي ضحّى بحياته، مخلصاً، من اجل خير الادب والادباء العرب. ان الألم يعتصر قلب لاني لم اتعرف عليه شخصياً ولم استطع ان أبدي له مدى التقدير والاعتزاز الذي احمله له وللرموز التي يمثلها والتي انهارت بعده بسرعة على أيدي رافعي الشعارات المزيفة. كان من حق عبد الملك نوري ان يفخر بفوزه ذاك، ولكنه كان يعدّه امراً عادياً" فقد كتب اقصوصة متقنة ومتفوقة ففاز بالجائزة. كانت فطومة أقصوصة مجتثة من اللحم الطري المخفي للحياة العراقية" فقد كانت تحكي حكاية رجل ريفي يهجر زوجته واولاده دون سبب ظاهر ويتركهم لمصيرهم المظلم خمسة عشر عاماً، تبقى خلالها، هذه الزوجة المهجورة، تنتظره بصبر لا ينفد، وتجهد من اجل تدبير معيشة اطفالها. ثم يعود لها بعد هذا الزمن الطويل ويقدم لها، لهذه المشوقة له ولرؤيته مرة اخرى، يقدم لها زوجته الثانية واطفاله من هذه الزوجة. كانت الاقصوصة مكتوبة بلغة "قوية" حسب مفهوم ذلك الوقت، ترصعها كلمات غريبة وصيغ لا مألوفة، فأرضت بذلك جمهرة اللغويين والمتنطعين في هذا المجال. كان شارع الرشيد، حيث يقع المقهى السويسري، أنيساً هادئاً والسيارات قليلة وكذا المارة" وكان المقهى أنيقاً بادي النظافة، ذا جو رومانسي تزيد من رومانسيته تلك الرسوم الجدارية الرائعة" وكان عبد الملك شاباً يميل الى القصر والسمنة، خلاف ما أوحت لي به كتاباته! كان قد انفصل عن زوجته منذ وقت غير طويل، فانتهت بذلك قصة حب دامت عدة سنين" ولم يلفت نظري اول الامر انه كان حزيناً أو مكلوم النفس. رأيتهما جالسين الى مائدة في مقدمة المقهى فسلمت عليهما وأخذت مقعداً. أتذكر جيداً، بعد ذلك، ان الود أخذ طريقه بيني وبين عبد الملك بسرعة وكذا التفاهم المتبادل. قال لي بأن أقاصيصي التي قرأها تفضل ما كان يقرأه تلك الايام في المجلات والصحف" وكان يجاملني بالطبع، غير اني لمست خلف كلامه احتراماً غامضاً لما اطلع عليه، رغم فجاجته وعدم نضجه الواضح. خلال جلستنا الجميلة تلك وما اعقبها من أحاديث، بدا لي ان آراءنا عن "أدبية" الاقصوصة متقاربة جداً" فمع عدم اطلاعنا بصورة جيدة على آراء النقاد الشكليين الروس أو على اتجاهات النقد الجديد الانكلوسكسوني، فقد كنا نرى، بوثوق، ان على الكاتب القصصي ان يضع في نصه عناصر، لغوية وغيرها، تجعل منه أدباً ينتمي الى نوع معين من انواع الادب، وان ليس كل ما يكتب على انه اقصوصة هو في الحقيقة كذلك. شباط فبراير 1954 تحت شمس بغداد المبهجة، الرقيقة، كنا نسير نحن الاصدقاء الاربعة كما سمانا عبدالوهاب على جهة من نهاية شارع الرشيد، فأخذ لنا صديقنا المهندس هنري لويس صورة شمسية قدر لها ان تكون تاريخية بالنسبة لنا. كنتُ برفقة عبد الملك نوري وعبدالوهاب البياتي واخي نهاد، وكنا متجهين تلك الظهيرة نحو شارع ابي نؤاس حيث توجد كازينو كاردينيا لتناول طعام الغداء فيها مع ما يسبق ذلك ويتبعه من مشروبات. اعتدنا منذ سنوات ان نجتمع في هذه الكازينو ليلاً للشراب وتبادل الاحاديث والمناقشات" وكانت هذه السنة 1954، كما تبين بعد ذلك، هي سنة انفصام علاقة الصداقة الادبية بيننا. كان عبدالوهاب البياتي زميلي في الدراسة منذ الصف الاول الابتدائي حين كنا في سن السادسة او السابعة" وبقينا معاً، ننتقل مع تنقلات مدرسة باب الشيخ الابتدائية للبنين من مقرها القديم تحت الطاق الى مقرها الجديد في محلة الشيخ رفيع. تلك مسميات مبهمة لا يخفى عتقها، ولكنها ما تزال حية في نفوسنا. أكملنا معاً دراستنا الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ثم تخرجنا سوياً وكانت صداقتنا قد اتخذت درباً أدبياً حين جاوزنا سن السادسة عشرة كما أتذكر. في ذلك العمر أو بعده بقليل أطلعني عبدالوهاب على قصائده العمودية الاولى التي نشر بعضها في ديوانه ملائكة شياطين بعد ذلك" وكنا، نحن الاثنين، نشعر بالاعتزاز لما كنا ننجزه. كان عبدالوهاب احمد البياتي، خلال سني دراسته معي، صموتاً بشكل لافت للنظر ويميل الى العزلة، خلاف حاله، بعد اعوام، حين اقتحم الدنيا على طريقته الخاصة وأقام شهرته. لم تنقطع علاقتنا بعد ان نلنا شهادة البكالوريا الثانوية للقسم الادبي" فاتجهت أنا لدراسة القانون في كلية الحقوق العراقية في حين اختار عبدالوهاب الانتماء الى الكلية العسكرية! كان اختياراً غريباً بالطبع، حدثني عنه عبدالوهاب بعد ذلك فقال ان القصائد كانت تدور في ذهنه وهو يمارس التمرينات العسكرية ويتراكض من هنا الى هناك. الا انه لم يبق في الكلية العسكرية ملتحقاً، في السنة التالية، بدار المعلمين العالية قسم اللغة العربية. خلال السنوات الخمسين الاولى تمّ التعارف بين عبد الملك وعبدالوهاب وأخي نهاد، بمجهود بسيط مني" وكان عبد الملك وساطع عبدالرزاق وعبدالوهاب يأتون احياناً في ايام الجمع الصاحية، الى بعقوبة حيث كنا نشتغل انا ونهاد، فنجلس للشراب والطعام والحديث ساعات وساعات. كان اخي نهاد ينشر مقالاته الادبية والفلسفية منذ نهاية الاربعينات في مجلة الاديب البيروتية وفي بعض المجلات العراقية" وكانت تقابل بالاحترام، وقد أثّرت على اكثر من جيل من الاجيال الادبية. كنا ننزل الى بغداد بعد ظهر يوم الخميس، أنا وأخي نهاد كل حسب دوره، لنقضي المساء والليل مع الجماعة ثم نعود يوم الجمعة في الوقت الذي نستطيعه. غير ان بعض الامسيات كانت تجمعنا نحن الاربعة على مائدة غنية بالمشروبات، في ركن من اركان كازينو كاردينيا على شارع ابي نؤاس. كان الحديث، غالباً، ما يدور ويدور حول شؤون عامة أو شخصية اول الامر، ثم يتركز حول همّنا الاساسي نحن الاربعة.. الأدب. بسبب تبادلي الرسائل مع عبد الملك في بغداد وعبدالوهاب في الرمادي واطلاع احدنا الآخر على ما يكتب خلال الايام او الاسابيع الماضية، كانت المناقشات بيننا تتناوش انتاجنا الاخير بالاضافة الى ما كنا نقرأه أو نفكر فيه. كنا متمردين عموماً، فيما يخص الادب والافكار العامة" ولم تنتهِ هذه السنة 1954 حتى كان عبد الملك قد نشر مجموعته المتميزة نشيد الارض وعبدالوهاب ديوانه الرائع أباريق مهشمة. ولا بد لي هنا ان اذكر بان هذا الديوان نُشر خلواً من المقدمة التي كتبها له نهاد بناء على طلب عبدالوهاب" فقد اشترط الناشرون حذفها، لان فيها افكاراً تخالف افكارهم فوافق عبدالوهاب على طلبهم مع الاسف. حين كانت الساعة تتجاوز علينا العاشرة مساءً في الليل الشتائي، وتبلغ النشوة منا مبلغها، كانت ضحكات عبد الملك الرنانة تتجاوب في انحاء الكازينو" وفي الحين نفسه ينغلق عبدالوهاب على ذاته ولا يعود ينبس حتى ببنت الشفة التي اعتاد عليها. كان، في هذا المستوى المتألق من الديمومة النفسية، يكتفي بالاشارات المعبرة من يديه وأصابعه، حين نوجه اليه سؤالاً أو نطلب منه رأياً" فحين يرفع ذراعه ويقبض، بحركة مفاجئة، أصابعه على بعضها فان ذلك كان يعني، بوضوح، ان الموضوع لا يستحق عناء الجواب أو ان الشخص الذي نسأل عنه تافه وشرير. غير اننا كنا، مع ذلك، نشعر شعوراً قوياً بمدى ارتباطه الروحي بنا وبعمق مشاركته لأفكارنا. كان عبد الملك يملك صوتاً أوبرالياً رخيماً، ولم يكن يحب ان يجهل احد ذلك" لهذا ومع اقتراب الساعة من منتصف الليل وبلوغ النشوة، في رؤوسنا، قمتها، ومع صخب الافكار في الاحاديث بيننا وصخب العواطف المكبوتة في اعماق النفوس، كان عبد الملك ينطلق، ليس على توقع دائماً، رافعاً صوته الجميل باحدى الاغاني العاطفية المؤثرة حقاً. أتذكر، بشكل مشوش، مقطعاً من اغنية كان يحب التغني بها وهنا ترجمته: "ذات يوم، ذات يوم جميل من ايام ايار مايو / قلت لي إنك أحببتني، حين كنا صغاراً ذات يوم". غير ان هذه الاجتماعات الليلية كانت تتوقف حينذاك، ولا يعود لها المعنى المتسامي الذي يميزها" ونصير بشراً سكارى مثل بقية البشر السكارى. وفي الحقيقة، نكون قد استنفدنا طاقتنا لتبادل الافكار وانتهى وقت الأدب والابداع والمستقبل، وتبقى لنا لملمة شؤوننا الحياتية المشعثة من اجل الاستمرار على التوازن المطلوب. بعد شهر، في آذار مارس 1954 كما أتذكر، نشرنا اربعتنا في عدد متميز من اعداد مجلة الأديب انجازاتنا الاخيرة. كتب نهاد مقالاً عن التمرد لدى "كامي" ونشر عبدالوهاب قصيدته الاصدقاء الاربعة التي تنبأ فيها بتفرق جماعتنا الصغيرة كما نشر عبد الملك أقصوصة نشيد الارض" اما انا فقد نشرت أقصوصة الطريق الى المدنية مهداة الى الاصدقاء عبد الملك نوري وعبدالوهاب البياتي ونهاد التكرلي، ما دمنا معاً في مقاواتنا للتعبير عن انسانيتنا. تلك ايام لا يجب ان تمضي مع الزمن. تونس - 1998 * كاتب عراقي مقيم في تونس