كان يبدو عليها التردد. تبعد قطعة الملابس عن نظرها وتعيد تقريبها. أخيرا ما كان منها إلا أن توجهت بالسؤال" ما رأيك هل تناسبني؟". وقبل أن تسمع الاجابة، أردفت:"كان زوجي يكره البنطلون! ما كنت لأفكر بشراء هذا وهو على قيد الحياة". أخذنا نتناقش في هذه القضية الشائكة التي شغلت هذه المرأة ذات الثمانين عاماً. كان وجهها ينم عن ملامح جمال سابق لا ريب فيه، وثيابها الأنيقة تدل الى رفاه صاحبتها. كما كان حديثها طريفاً. قالت:"أجد في التسوق فرصة للخروج. بعد موت زوجي، أصبت باكتئاب وشعرت بوحدة فظيعة. قررنا أن أقيم في بيت العجزة... فابنتي تقيم في مدينة أخرى، وابني كثير الانشغال. قدم لرؤيتي مع زوجته قبل الذهاب في عطلة. وكان قلبي يتقطع لمجرد تفكيري بأنني لن أراه خلال شهر. لكنني لم أقل شيئاً. هذه حياته ويجب أن يعيشها بعيداً عني". بدأت بوصف دار المسنين التي تعيش فيها وهي دار معروفة بمستواها الرفيع."لكن لو تعرفين....". ابتسمت ساخرة واضافت:" أكره البقاء مع هؤلاء المسنين. أحاديثهم لا تتغير عن الأبناء أو عن بيوتهم والعقارات. أحب الخروج والتنفس بعيداً منهم وعن هذا المكان ورؤية الشباب. أتحين الفرص للهرب". ليست هذه العجوز الوحيدة التي تحب تبادل الحديث مع الآخرين وتكره دار المسنين. فهذا أمر معروف في فرنسا. العجائز أو المتقدمون في السن - بحسب التعبير الفرنسي المخفف لقسوة الوصف - يتحينون أي فرصة للكلام بسبب شعورهم بالوحدة وحاجتهم الى التواصل مع الآخرين خصوصاً الشبان. ويشعر بعض الشبان - وهم الذين لا يعرفون ما فعل المشيب - بالضيق منهم في بعض الأحيان. يقول ماتيو 16 سنة:"أشعر بالشفقة تجاه العجائز. إنهم يتصيدون الفرصة للحديث معنا عندما نكون في مواقف الحافلات. أرد من باب التهذيب لكنهم لا يتوقفون عن التعليق على كل شيء. أما عندما يجتمع اثنان منهما، فهات يا كلام!". بيد أن النظرة تبدو مختلفة لدى ماتيو عندما يتعلق الأمر بجديه:"لا. إنهما مختلفان عن البقية". إذ أن مكانة الأجداد لا تزال محفوظة لدى الكثير من الشبان، خصوصاً أنهم يسهمون وحتى سن معينة في الاعتناء بأحفادهم خلال العطل المدرسية عندما يكون الأبوان في العمل. ما يحقق الفائدة للطرفين. إذ يشعر المسن أن دوره لم ينته بعد في خدمة المجتمع. في فرنسا نحو خمسة ملايين مسن ممن تجاوزت أعمارهم الخامسة والسبعين. وخلال قرن، ارتفع عدد السكان ممن هم فوق الستين من 12.7 في المئة إلى 20.5 وهي نسبة أقل بخمسة في المئة فقط من نسبة الشبان ممن لم يبلغوا العشرين يشكلون 25.3 في المئة. يبحث المسنون في فرنسا عن الوسائل التي تبقيهم على اتصال مع"الحياة"والحيوية التي يمثلها الشباب المتجسدة في أحفادهم وأبنائهم وحتى أبناء غيرهم. ويعترف ميشال 70 عاماً أنه لا ينزعج من ركوب الحافلة في أوقات الانصراف من المدارس على رغم الازدحام بل على العكس"أحب الضجيج والحركة والمرح الذي يثيره هؤلاء الشبان في الأجواء". ويقوم بعضهم بتقديم العون للآخرين عبر الاعتناء بأطفالهم من دون مقابل أحيانا. أما عند وصولهم إلى سن لا تسمح لهم بالحركة، فيفضل كثيرون منهم البقاء في المكان الذي ألفوه وبالقرب الناس الذين اعتادوا رؤيتهم بدلاً من الذهاب إلى دور العجزة. وعلى رغم تطور هذه المؤسسات المخصصة لكبار السن في فرنسا، فهم يمقتونها. إذ يفتقدون فيها الحب وحنان الأبناء والأصحاب. نقول هذا ونحن نرى آسفين كيف بدأت مؤسسات كتلك تأخذ طريقها إلى البلاد العربية أيضا. اذ طرأت تغييرات على تركيبة الأسرة العربية وأسلوب عيشها ولم تقرّبها من ايجابيات النمط الغربي في احترام الفرد وزرع الشعور بالمسؤولية في نفسه بل من سلبيات هذا النمط. وهو أمر لا نحسد عليه!