"ربيع العمر"عنوان برنامج تلفزيوني مصري استمر لسنوات عدة وهو أحد البرامج القليلة التي تخصصت من الألف إلى الياء في قضايا المسنين في مصر. إلا أن"الحلو"كعادته"لا يكتمل"، فعلى رغم عنوان البرنامج الذي يشع عذوبة وطراوة، فإن فحواه يبث كآبة وشعوراً بالثقل لواقعيته. مقدمة البرنامج كافية: سيدات ورجال ممن تجاوزوا الستين، جميعهم في حال صحية مزرية والوجوه شاحبة تلفها الكآبة. ويبدو أن معدّ المقدمة كان شديد الإعجاب بفكرة الكآبة تلك، فعلى مدى سنوات طويلة جداً، ارتبط برنامج كبار السن بالدموع والآهات وكراسي المقعدين والبؤس وقلة الحيلة والضعف والاستكانة. ويبدو أن تفكير هذا المعد ليس استثناءً بل انه القاعدة: عشرات العبارات التي نرددها بصفة يومية باعتبارها تحصيل حاصل، لكن قلة فقط تدري معناها. تسأل جارك ذا الأعوام ال65"لماذا لا تخرج كثيراً كما كنت تفعل قبل سنوات؟"فيرد قائلاً:"يا الله، حُسن الختام". وتتعجب من قرار خالتك بالتوقف عن الذهاب إلى النادي الاجتماعي، تبادرك بالقول:"هل سآخذ زمني وزمن غيري؟". وتخرج إحداهن من عند مصفف الشعر لتفاجأ بمجموعة من الصبية في عمر أحفادها، فيعلق أحدهم غاضباً:"مش عاملة حساب لسنها". وتمشي أخرى تتكئ على عصا، فيمزح أحد المارة:"الآنسة دفعة توت عنخ آمون بس قاعدة في الدنيا دور تاني"، أو تجري مجموعة من الأطفال في حارة شعبية خلف رجل طاعن في السن مرددة:"يا راجل يا عجوز، مناخيرك قد الكوز". يمكن القول إن المجتمع المصري يعيش حالة من الفصام في ما يختص بكبار السن. فعلى رغم الموروث الشعبي السائد بأن المكان الطبيعي لمن تجاوز الستين من العمر وأحياناً ال55، هو البيت، لأن"من خرج من داره قلَّ مقداره"، هناك محاولات تطفو على السطح بين الحين والآخر لتشجيع كبار السن على الاستمرار في العمل، والانخراط في الأنشطة الاجتماعية والرياضية تحت شعارات لا يصدقها أحد مثل"الحياة تبدأ بعد الستين"، و"الشباب شباب القلب". يقول جمال 69 عاماً وهو موظف متقاعد، بلهجة حادة:"شباب إيه، وقلب إيه، وربيع إيه؟ هذا كلام فاضي، لقد قطعوا قلوبنا، وقصفوا شبابنا، أقاسي الأمرين مرتين شهرياً. مرة لأتقاضى معاشي"الملاليم"، حين أصطف مع العشرات غيري ممن ينتظرون لقاء رواتبهم ليقذف إلينا موظف المصرف المكفهر بمعاشاتنا كأنه يمنّ علينا، والمرة الثانية حين أتوجه للخضوع لفحوص في التأمين الصحي الحكومي". وعن رحلة"التأمين الصحي"يقسم حسين أنه قادر على تأليف مجموعات قصص عن عذابات كبار السن في دهاليز التأمين الصحي،"يكفي أن الأطباء أنفسهم ينظرون إلينا ولسان حالهم يقول: لماذا تتعبوننا وتتعبون أنفسكم وأنتم في الفصل الأخير من الحياة؟". وإذا كانت شكوى جمال تتركز على الطابورين اللذين ينغصان عليه حياته، فإن صفحات الحوادث وأروقة المحاكم تحفل بكمٍ متزايد من جرائم الجحود التي تعكس ارتفاعاً مطرداً في ما يختص بوقوع كبار السن ضحايا لضعاف النفوس، فهذا ابن طرد والدته العجوز من شقته، وهي في الأصل بيتها، بإيعاز من زوجته وتركها في الشارع. وذلك فلذة الكبد وقد وضع خطة مُحكمة للاستيلاء على الفدانين اللذين يملكهما والده المسن خوفاً. جريمة أخرى تحدث يومياً، وإن كان القانون لا يعاقب عليها نظراً الى عدم وجود نص صريح يحاكم من يكتب كلمة"النهاية"أمام المرأة التي تبدأ في التقدم في العمر. مقترف الجريمة هو الجهاز الإعلامي برمته، وتحديداً التلفزيون الذي لا يعترف إلا بالمذيعة الشابة ذات الحيوية والأنوثة المتفجرتين والمذيع الشاب ذي الفحولة و"الروشنة"، فلا هما يخاطبان من تعدى ال50 من العمر، ولا هذا الأخير ينظر إليهما بعين الاعتبار. الزمن تغيّر يقول أسامة 47 عاماً إن أباه البالغ من العمر نحو 80 عاماً ما زال يصر على أن يدلو بدلوه في أدق تفاصيل الأسرة. فهو لا يريد أن يعترف بأن الزمن تغير، والمقاييس اختلفت،"وإذا لم نأخذ برأيه، يغضب ويمضي أياماً طويلة من دون أن يتحدث إلى أي منا". ويؤكد مندور أنه يفعل كل ما في وسعه ليرضي والده، بل إنه أحياناً يختلق موقفاً أو مشكلة يقصها عليه لأخذ رأيه فيها ليشعره بأنه ما زال مصدر الحكمة والرأي السديد. ويقول:"أحياناً أشعر أن الأهل أشبه بنجوم ونجمات السينما الذي يأفل نجمهم بعد زمن كانوا فيه بؤرة الاهتمام والشهرة، ثم مضى قطار الزمن، فانسحب من تحت أقدامهم بساط الشهرة والمجد، تاركاً لهم الكثير من الذكريات والقليل من الأشخاص المستعدين لتوفير الوقت للتأكيد لهم على أنهم ما زالوا مهمين".وإذا كانت سُنة الحياة تشير إلى استحالة دوام الحال. وإذا كان الواقع يفرض تجديد الفكر والرؤى، إلا أن المصريين يكونون أحيانًا قادرين على التغلب على قوانين الطبيعة. وتكون هذه الغلبة أحياناً ناجمة عن نوع من التغييب. فمثلاً الوزير الذي يبلغ من العمر خمسين عاماً يكتسب لقب"الوزير الشاب"وإن بدأ هذا التغيير في التشكيل الوزاري الأحدث، ورئيس التحرير الحكومي لو لم تتجدد فترة خدمته بعد سن ال62 مثلاً، يقال إنه خرج من الخدمة وهو في عز شبابه. فالاستقالة من دون إقالة وصمة في المناصب العليا، لا سيما أن الإقالة في مثل هذه الحالات يليها غالباً انتهاء الأجل عموماً، أي أن المسؤولين الكبار من المسنين لا يضطرون إلى شغل بالهم بقضايا هامشية مثل منافسة آخرين يتمتعون بخبرات ومراحل عمرية مشابهة. إذ إن دراسات حديثة أكدت أن المسنين من أكثر فئات المجتمع عزوفاً عن السياسة بعد الشباب، كما أن المسؤولين ورجال السياسة لا يجدون أنفسهم مضطرين للتفكير في قضايا شائكة مثل دور المسنين. وأشارت دراسة أصدرها المجلس القومي للسكان إلى وجود قرابة 65 داراً للمسنين في مصر كلها، معظمها في القاهرة وتليها الاسكندرية، وهناك محافظات بأكملها لا توجد فيها دار واحدة. غالبية نزلاء تلك الدور من النساء الأرامل نحو70 في المئة، منهم من جاء مضطراً بعدما أخرجه الابن أو الابنة طمعاً في الاحتفاظ بالمسكن لنفسه وأسرته، ومنهم من اختار الدار هرباً من الوحدة والعزلة، وخوفاً من غدر الزمان، وبحثاً عن الصحبة. إلا أن فكرة"دار المسنين"لدى المصريين ترتبط في أذهان الغالبية العظمى بمفاهيم"الجحود"و"العقوق"و"التشبه بالغرب المادي المتحجر المشاعر". وتظهر مظاهر الفصام مرة أخرى، ففي الوقت الذي يعيش فيه المجتمع المصري كل مظاهر الحياة العصرية ذات الإيقاع السريع، واللهاث لتحقيق احتياجات الحياة، تعرضت منظومة الأسرة الممتدة - أي تلك التي تشمل الأجداد والأعمام والأخوال - إلى انفلات عقد الترابط الأسري الذي كان يمتد قبل سنوات إلى الأقارب من الدرجة العاشرة. حسنية 45 عاماً تقطن في شقة واحدة مع حماتها منذ تزوجت قبل نحو 22 عاماً تصفها كلها ب"أيام سود"بسبب الخلافات المستمرة بينهما. وعلى رغم ذلك، فقد لطمت حسنية بكلتا يديها على وجهها حين أتى السؤال عن موقف حماتها من الإقامة في دار للمسنين، لا سيما أن معاشها يسمح لها بالإقامة في دار فاخرة، قالت:"هذه هي الفضيحة بعينها، لو تفوهت بمثل هذا الاقتراح سيطلقني زوجي". وإذا كانت حماة حسنية قادرة على الإقامة في دار فاخرة، فإن الغالبية العظمى من المسنين في مصر غير قادرة على مثل هذه الخطوة مادياً. فكما أن انضمام مولود جديد إلى الأسرة يعد إضافة مالية جديدة كذلك الحال بالنسبة إلى وجود شخص متقدم في السن في الأسرة.