ساد الخطاب السياسي اللبناني في الآونة الأخيرة لبس وتناقض كثيراً ما بلغا حد التصادم في ما يخص العلاقات السورية - اللبنانية، بين معادٍ لسورية مطالبٍ برحيلها بأي ثمن، وعاقدٍ عليها الآمال الوطنية والقومية، أو داعٍ الى موقف وسط يستلهم اتفاق الطائف. وفيما لم تصل نداءات التوفيق الاعتدال الى أي من هؤلاء، أوشك الخطاب السياسي السائد أن ينحدر الى مهاوٍ تغيب في غياهبها الرؤية ويسقط المنطق ويخفت صوت العقل. وإذا استحال السجال، وقد يستحيل الى حوار طائفي محموم تدخل في معتركه تظاهرات البلطات والسواطير ومواجهات أعقاب البنادق، لا بدّ من تصور عقلاني هادئ للعلاقات اللبنانية - السورية بعيداً من التوتر والعدائية والشك المتبادل، تصور يستند الى الماضي والتاريخ ويتطلع الى الحاضر والمستقبل. هذا التصور العقلاني يحتم على ساسة البلدين أن يعوا حقائق تاريخية في أي سجال يتميز بحد من الصدق والواقعية. بادئ ذي بدء لا بد للسوريين من الأخذ في الاعتبار واقع لبنان التاريخي ودوره الحضاري الرائد ذي الصلة الوثيقة بجو الحرية النسبي الذي نعم به حتى نحت النير العثماني وفي ظلمات استبداده. لقد استطاع اللبنانيون على رغم كل المظالم التي تتالت على تاريخهم، أن يعلوا صوت العدالة والحق، وأن يحملوا شعلة التقدم والتنوير الى العالم العربي، فكان منهم دعاة القومية والعلمانية والتحرر والوحدة. ولم يكن ذلك من دون معاناة وتضحيات عظيمة عبر عنها الكاتب السوري الراحل ابن اللاذقية الياس مرقص قبيل الحرب الأهلية التي كلّفت لبنان مئات الآلاف، قتلى وجرحى وخراباً وتهجيراً، دفاعاً عن القضية الفلسطينية وقضايا الأمة الكبرى، إذ قال في أحد كتبه عام 1968 :"لقد دفع لبنان وسيدفع من دم أبنائه ثمن مستقبل الأمة العربية". وليس ثمة من ينكر اليوم، في لبنان أو خارجه، أن الساسة السوريين، انطلاقاً من مصلحة حكمهم ودقته أو مما يعتقدونه كذلك، قد عملوا الى حد كبير على سحب النموذج الأمني على الدولة اللبنانية، وأسهموا في تغلغله في كل ثناياها ومجتمعاتها الأهلية وصولاً الى الأشكال البسيطة والأولية من هذه المجتمعات، ومصادرة كل مظاهر المجتمع المدني واقصاء نخبة عن الحياة السياسية، ما أدى الى وأد الطابع الديموقراطي التاريخي للبنان، والتضحية به تالياً كطليعة حضارة وحرية وفكر مع ما في هذا من خسارة كبرى، لا للبنان وسورية وحدهما، بل للأمة العربية بأسرها. إن الإبقاء على واقع لبنان التاريخي ودوره الحضاري، يجب أن يكون هدفاً للعرب جميعاً، لأن لبنان هكذا يشكل ضرورة للدفاع عن قضاياهم الأساسية والمصيرية. وليس من المصادفة أن يكون المسيحيون الذين يتوجسون اليوم في غالبتيهم من السياسة السورية في لبنان، طليعة العمل القومي والوحدوي ومجابهة الخطر الصهيوني حتى قبل وعد بلفور وقبل قيام دولة اسرائيل بعشرات السنين. لقد كانت الوحدة القومية العربية بمختلف أشكالها أحد الأهداف الكبرى والتطلعات الرحبة للفكر اللبناني، والمسيحي تحديداً، ويجب أن تبقى كذلك، ونحن من الذين لا يزالون يراهنون، على رغم كل الإحباط، على اتحاد العرب في مواجهة تحديات التخلف والتنمية والغزو الصهيوني، إلا أن ذلك يجب ألا يعني اطلاقاً، الغاء الهويات، والخصوصيات القطرية، وإسقاط ارادات الشعوب العربية وخياراتها الذاتية، والمصالح الخصوصية لكل شعب من هذه الشعوب. ان التنكر لهذه المبادئ قد أجهض كل مشاريع الوحدة بين العرب حتى الآن، وسيظل عائقاً صلداً أمامها ما لم تتغيّر الذهنيات السياسية السائدة. هذا ما يجب أن يدخل في حسابات الساسة السوريين الذين كما يبدو لا يعيرونه ما يستحق من الأهمية. ربما كان الهاجس الأمني السوري مبرراً نظراً للقلق الذي يساور الساحة اللبنانية ومغالاة المتطرفين على هذه الساحة في عدائهم لسورية، مما يمكن أن يشكل ارباكاً لها في وقت تتضافر في وجهها تحديات كبرى. إلا أن تعامل السياسة السورية مع المتطرفين أعطى نتائج سلبية ومدَّ هؤلاء بمبررات وذرائع للتحصن في مواقعهم ومواقفهم، بينما لو ترك للبنان مناخ الحرية التاريخي لافتقد عداؤهم لسورية أية شرعية ايديولوجية، ولانتُزع فتيل التطرف من جذوره. من هنا نرى أنه يجب أن يقتنع السوريون بأن حرية لبنان أو الحفاظ على طابعه التاريخ المميز يمد سورية والأمة العربية بأسباب المنعة والقوة ويشكل درعاً لها في وجه التحديات التي تواجهها من كل صوب. كما يجب أن يدرك المتطرفون الذين يبدو أنهم بدأوا يعدلون من مفاهيمهم واستراتيجياتهم، أن سورية بوابة لبنان الى الداخل العربي، وأن له مصلحة قومية ووطنية في التفاعل الحر والصادق والبنّاء مع ساستها، أياً تكن توجهات هؤلاء الايديولوجية والعقائدية، وأياً تكن طبيعة حكمهم وممارساته. إذ ان المراهنة على بدائل هي قفز في المجهول، وليس بادياً في المدى المنظور من هذه البدائل سوى خيارات الأصوليين وأصواتهم النشاز. أما الارتداد الى اللبننة الضيقة بحجة الحرص على السيادة والاستقلال، فليس إلا تقليصاً لدور لبنان التاريخي وتطلعاته الرحبة، القومية والإنسانية، التي كانت على الدوام سمة العقل اللبناني المميزة. ان النهضة العربية الحديثة هي في أبرز وجوهها ثمرة تفاعل حضاري بين لبنان وسورية عبر مئات السنين، ويجب أن يستمر كذلك. أما الإجهاز عليه باستبداله بالهيمنة والاستتباع والاستبداد المقنَّع بالأمن، فقد كان من الأسباب الرئيسة للأزمة اللبنانية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وسيجعل المشكلة أكثر خطراً وتعقيداً. كاتب لبناني.