اذا لم تحدث مفاجأة سياسية، والأرجح انها مستبعدة، فإن الانتخابات العراقية ستجري في موعدها، وسيكون ل"العراق الجديد"برلمان غير مكتمل التمثيل وغير مكتمل الشرعية. هذا هو الواقع، طالما ان هناك اصطفافاً طائفياً وعرقياً قد حصل، وطالما ان تركيب لوائح الترشيح راعى هذا الاصطفاف. واعتباراً من 31 كانون الثاني يناير ستبدأ - رسمياً - أزمة هي موجودة الآن لكن أطرافها يؤجلون الاعتراف بها. لكن ترسيخها سيساهم في تعقيدها ومفاقمتها. هذه الأزمة الناجمة عن استبعاد السنّة، أو عن استبعادهم أنفسهم، تحقق بعض أهداف المقاومة التي ركزت عملياً على إفشال مشروع الدولة الجديدة، سواء بسعيها الى تعطيل انشاء جيش وقوى أمن، أو بجعلها الاضطراب الأمني وسيلة لشل الحكومة الموقتة ومنعها من تنشيط مؤسساتها. منذ التزام دول الجوار عدم التدخل ودعوتها جميع العراقيين، بمن فيهم السنّة، الى المشاركة في الانتخابات، لم يطرأ أي معطى من شأنه تغيير اتجاه الأحداث. بل على العكس حصل على الأرض ما دفع بمجموعات سنية أخرى الى المقاطعة. وعلى رغم أن العديد من زعماء دول الجوار أصدروا تصريحات ودعوات مشجعة على خوض الاستحقاق، إلا أن الوضع راوح في مكانه. ما يعني ان المسألة تتخطى دول الجوار التي، وان صحت الاتهامات بأنها ساهمت في التوتير الأمني، لا يمكن اعتبارها ممسكة بخيوط المقاومة تسيّرها أو تفرملها حسب الظروف. هناك إذاً اعتبارات داخلية بحتة لم تعرف قوات الاحتلال كيف تتعامل معها، أو بالأحرى تعاملت معها بطريقة تحقق عكس ما هو متوخى. كان يؤمل، بل يفترض، أن تشكل هذه الانتخابات بداية طيبة لعراق ما بعد صدام. لكنها كانت، ولا تزال، تحتاج الى تحضير مختلف. ويدرك الجميع في العراق ما هو مطلوب لانتخابات سوية، لكنهم يدركون أيضاً ان ثمة فرصة أو فرصاً ضاعت، فباتوا محكومين بالموعد المحدد. الأخطر هو ما سيضيع بعد الانتخابات، وربما بسبب الانتخابات. فالذين يستعدون لتسلم"الدولة الجديدة"تعاملوا مع الاستحقاقات بدوافع فئوية وطائفية، متجاوزين حس الدولة الذي يجب أن يتحلوا به مهما قست الظروف. اما قوة الاحتلال التي احتفلت ب"نقل السلطة"الى العراقيين فأبقت على قبضتها عليهم، لذا استمرت ممارسة السلطة مجرد طقوس لمسايرة سلطة الاحتلال وللاستفادة من الخطوة لديها لتحقيق مكاسب خاصة. وهكذا ضاعت الشهور الستة من دون أي اختراق يمهد لانتخابات صحيحة. أكثر من ذلك بددت تلك الشهور الثمينة على نحو حال دون انجاز يمكن أن تكون له نكهة وطنية. حتى ان مبادرات وأفكاراً ومحاولات راودت رئيس الحكومة الموقتة، أو زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني، أو عدداً من القوى السياسية الأخرى، لم تتمكن من إبصار النور إما بسبب الانهيارات الأمنية وإما بسبب تعارض المصالح. ثم فات الوقت، وصار الحديث عن تأجيل الانتخابات أشبه بالكفر، خصوصاً ان مؤيدي التأجيل لم يبرهنوا على أنهم يملكون مشروعاً سياسياً كفيلاً بحل الاشكالات التي تجعل الاقتراع بداية لأزمة خطيرة وليس نهاية لها. لذا ساد منطق: التأجيل، من أجل ماذا؟ وكأن أحداً لا يعرف، مع أن سبعة عشر حزباً وافقت على مبدأ التأجيل، قبل أن يأتي الردع على لسان جورج بوش شخصياً حاسماً بوجوب اجراء الانتخابات في موعدها. السنّة ليسوا جميعاً في المقاومة، ولا يعترفون جميعاً ب"امارة""أبو مصعب الزرقاوي"، وليسوا جميعاً ممن قاطعوا مجلس الحكم والحكومة الموقتة، لكنهم رفضوا جميعاً ما حدث للفلوجة التي لا تزال ممنوعة ومقفلة أمام الإعلام. والحاصل حالياً هو خذلان للسنة الذين تعاملوا مع الوضع الجديد وتطلعوا الى امكان صوغ عقد اجتماعي سياسي جديد يتيح للجميع التعايش في ظل توازن وفاقي. كانت هناك حاجة الى حوار تاريخي يمكن لدول الجوار ان تساهم فيه بشيء من الايجابية، فليس سراً ان ما سقط في العراق هو"الدولة السنية"- اذا كان لا بد من توصيفها طائفياً - وليس واقعياً اعتبار ان المقاومة يمكن ان تعيدها. ومع بروز العراق التعددي لم يعد ممكناً سوى التعامل مع مكوّنات المجتمع كما هي، وطالما ان الشيعة يشكلون قوة عددية فمن البديهي ان الاحتكام الى الانتخابات سيقود الى"دولة شيعية". الحوار الذي لم يحدث، الذي استبعد، الذي لم يسع اليه أحد بجدية، أبقى الحلقة الوطنية مفقودة، لذلك يهيمن على الانتخابات طابع"دولة الغالبين"كوريثة طبيعية ل"دولة المغلوبين". ومع نموذج كالذي قدّم في الفلوجة كان هناك تكرار للتاريخ لكن باتجاه معكوس. اذ ان"الغالبين"والمستفيدين بمعيتهم تعاملوا مع تدمير المدينة كما لو انه حصل أيام النظام السابق، أو كأنه انتقام مؤجل من النظام السابق. لم يدركوا ان هذا الدمار ينعكس على المستقبل الذي يتهيأون لادارته في ما سيغدو"دولتهم". أصبح اجراء الانتخابات تحدياً بوشياً شخصياً، بغض النظر عما سينتج عنه من مشاكل. فالاميركيون دأبوا، منذ احتلوا العراق، على اصطناع التخريب غير مهتمين بنتائجه. ولا شك في انهم سيواصلون هذا النهج كما حذّرت"نيويورك تايمز"التي أيدت تأجيل الانتخابات تفادياً لما سمته"السيناريو الأسوأ"وهو الحرب الاهلية في العراق.