لا يفارق ابتداء زمن الرواية السياق التوليدي لتأصّل الوعي المديني المحدث الذي سعت نزعته العقلانية الصاعدة إلى تأكيد أهمية المساواة بين أصحاب العقول في اختلافها، وأهمية التعدد بين أشكال الإبداع في تباينها، كما سعت إلى تأكيد عدم التمييز بين البشر أو إبداعهم على أساس من جنس أو عرق أو عقيدة أو ثروة أو تحيز لنوع أدبي بعينه. ويندرج في هذا السياق، ويترتب عليه، ما يبدو على أنه استهلال لنقض التراتب التقليدي لأنواع الآداب والفنون والمعارف، في موازاة ما يبدو على أنه نقض للتراتب الموروث لأوضاع المجتمع وعلاقات إنتاج معرفته وإبداعه، ومن ثم بداية للسعي إلى تحرير الثقافة من سطوة الاتِّباع الجامد، وتخليص الفكر من قبضة التقاليد، وتحريك الإبداع بعيداً من هيمنة النوع الأوحد أو الاتجاه الوحيد أو التقنيات الثابتة. ويصحب ذلك محاولة إشاعة مبدأ التسامح الذي هو لازمة منطقية من لوازم النزعة المدنية، بوصفها نزعة لا تفارق التنوع والاختلاف بحكم تولّدها عن تحديث مدينة لا يكتمل معنى حداثتها الاستهلالي إلا بتأكيد اختلاف ساكنيها واختلاف النوع الأدبي المائز لعلاقات تحديثها. لم يكن غير الرواية فناً يستطيع بمرونة شكله وتنوعه تجسيد تحولات العلاقة بين الطوائف والأجناس والأعراق البشرية، فضلاً عن تحولات الأنواع والوظائف الأدبية والفنية، في فضاء المدينة المتحولة بدورها، وجعل هذا التحول موضوعاً من المواضيع الأثيرة التي لا يخلو منها تصوير الأحداث السياسية أو النقدات الاجتماعية، خصوصاً في مدينة عربية بدأت تكتسب ملامح كوزموبوليتانية انعكست على علاقات أفرادها من الرجال والنساء. وكما التقطت الرواية العربية - في ابتداء زمنها - أشكالاً جديدة من العلاقة بين الشرقي والغربي، العربي والأجنبي، المسلم والمسيحي، أبناء الطائفة الواحدة وصلتهم ببقية الطوائف، عكست الرواية هذه الأشكال على بنيتها التي تشكلت بما يحقق هذا الهدف أو ذاك من إنشائها، فكان اختلاف مبناها استجابة للاختلاف الدافعي الذي انطوت عليه أبنيتها. ولذلك يختلف مبنى"غابة الحق"الأليغوري الذي يعتمد على السرد الوصفي عن مبنى رواية"علم الدين"التي لم تكن سوى حواريات متصلة بين شيخ أزهري وعالم إنكليزي، وذلك في سياق الرحلة التي كانت انتقالاً بالوعي عبر الزمان والمكان والثقافات. ويختلف مبنى سرديات"الساق على الساق"الذي يعتمد على المحاكاة الساخرة لفن المقامة عن المبنى التمثيلي لرواية"الدين والعلم والمال"التي تتوسَّل بالأليغوريا لتنطق المسكوت عنه من المقموع دينياً واجتماعياً. وقل الأمر نفسه عن الفارق بين روايات المرأة أليس البستاني وزينب فواز ولبيبة هاشم التي تقارب أهدافها الاجتماعية المقترنة برفع الظلم الواقع على المرأة، سواء في علاقته بمسبباته أو علاقته بنتائجه. وقس على ذلك روايات جرجي زيدان التي تكشف - عبر موازاة التخييل والتحقيق - عن جذور التمدن الإسلامي الذي يؤكد قيم التسامح الديني والاجتماعي، مجسدة قيمة العمق التاريخي التي لا بد من تأكيدها في لحظات التحول المتوترة التي تدفع بسؤال الهوية إلى صدارة الوعي. وكان اختلاف المبنى - في هذا الإطار - وجهاً آخر من أوجه تعددية الاختلاف البنائي الذي استجابت به الرواية الإحيائية إلى تباين عناصر واقعها النوعي، تحقيقاً لمسعاها الإبداعي الذي اقتحم إشكالية العلاقة بين الفرد ومطلقات الوجود من ناحية، وإشكالية العلاقة بين الحاكم والأفراد المحكومين من ناحية ثانية، والتعارض الحتمي بين القوة الاستعمارية ودعاة الاستقلال من ناحية ثالثة، وتناقضات المرأة والرجل من ناحية رابعة، وعداوات الدين والعلم من ناحية خامسة، والمال والعلم من ناحية سادسة، والدولة الدينية والدولة المدنية من ناحية أخيرة. وكان ذلك كله من منظور الحرية التي أصبحت شعاراً لطلائع الاستنارة، سواء بمعانيها الفردية أو معانيها الجمعية التي وصلت حرية الفكر بحرية الأمة، ووصلت الاثنين معاً برغبة الخلاص من قيود الاتباع وأسر التبعية. ولذلك لم تجد الرواية الإحيائية حرجاً في أن تضع قضية الأديان موضع المساءلة، من حيث علاقتها بالقيم الروحية التي تعمر بها المدينة ويتحقق العدل في المجتمع، ومن حيث علاقتها بالعلم الذي أخذت علامات تحديثه تخايل الأذهان وتفرض نفسها على تأمل العقول، شأنها في ذلك شأن سطوة المال التي أصبحت دالة على عصر مختلف من علاقات الأمم والأفراد. وتلك هي المهمة التي قامت بها روايات كتّاب من أمثال فرنسيس فتح الله المرّاش وفرح أنطون اللذين تميزا بجسارة نزعتهما المدنية الجذرية التي لم تنفصل عن متغيرات العلاقات الاجتماعية في المدينة العربية التي كشفت من أسرار"الحريم"ما ظل محاطاً بالكتمان. كانت الرواية العربية الفن الأدبي الأكثر جذرية في الاستجابة إلى تنوع متغيرات التحديث المادي وتباينها في المدينة العربية التي جمعت - في تحولاتها - بين نقائض كثيرة. أعني نقائض تجلت في ردود الفعل المترتبة على متغيرات التحديث، سواء في تلازمها أو تجاورها أو تباينها أو تعارضها أو تصادمها، أو غير ذلك من أوضاع التنافر التي ما كان يمكن أن يقتنص تعدد أصواتها أو حدة تقابلاتها سوى فن الرواية، وذلك بسبب ما تسمح به خصائصه الحوارية المرنة من إمكانات لا محدودة لا تحصرها في شكل جامد، أو قالب ثابت. والخصائص الحوارية هي الصفة النوعية التي تفتح الرواية، في علاقات شكلها المطواع المراوغ، على إمكانات الإفادة من الملاحم البطولية والسير والحكايات الشعبية المتوارثة، أو المقامات والمجالس والمسايرات والنوادر الموروثة، فضلاً عن ألوان القص التعليمي أو التمثيلات السردية التي لا تخلو من معنى التورية أو التقية. أضف إلى ذلك ما تسمح به المرونة الحوارية من إمكانات التفاعل بين الموروث والوافد، ومن ثم إعادة إنتاج الموروث في علاقته بالوافد، وإعادة إنتاج الوافد في علاقته بموروث فرضه واقع بعينه. ولذلك يصعب أن نتحدث في الرواية الإحيائية عن شكل تراثي خالص، يتكون من عناصر موروثة خالية من التأثر بهذا الشكل أو ذاك من أشكال الإبداع الروائي الوافد. وفي الوقت نفسه، لا يمكن الحديث عن"شكل مستورد"أو"شكل مستعار"نقلته الرواية الإحيائية العربية عن غيرها من روايات العالم الذي عرفته، إذ لا بد أن نضع في اعتبارنا أن الشكل المستورد أو المستعار أعيد إنتاجه، فعلياً، بما جعله ينتسب إلى تراث عقلاني من الإبداع، أعاد تشكيله وعي النهضة العربية في تطلعه إلى التقدم ومقاومته عوائق التخلف. ولذلك كانت الترجمة فناً من التأليف الجديد، كما قلت في الفقرة السابقة، والتعريب نوعاً من أنواع الأقنعة التي اختفى بها أشباه رفاعة الطهطاوي المصري وراء أشباه فينيلون الفرنسي، صاحب"مغامرات تليماك"، أو اختفى بها أمثال بطرس البستاني وراء أشباه دانيل ديفو صاحب"روبنسون كروزو"الشهيرة، ليؤدوا رسالة شبيهة في ازدواج المغزى والمبنى بالرسالة التي سبق أن أدّاها أمثال ابن المقفع من وراء القناع الهندي للحكايات الخمس أو"البنجا تنترا". وكان التأليف الروائي الجديد، من المنظور نفسه، نوعاً من الحوارية التي وصلت الخبرة الأدبية الموروثة بالخبرة المكتسبة، في ظل نزوع عقلاني أساسي وتأسيسي، يناقض معنى الاتبّاع أو النقل. وتلك هي النقطة التي تستحق المزيد من الدرس التفصيلي والتحليلي. والهدف - طبعاً - هو الكشف عن علاقات التفاعل والتبادل والتوتر والصراع التي حدثت ما بين الأشكال الموروثة والوافدة، داخل سياق فاعل، يؤكد علاقة النوع الروائي الوليد بالشروط النوعية لتشكلاته التي كانت أداء لوظائف بعينها، فرضت خصوصيتها وخصوصية دوافعها - في واقعها المتعين - على تنوع وتعدد التشكلات الروائية التي كانت استجابات إبداعية إلى شروطها التوليدية. وكشفت الدراسة الرائدة للصديق المرحوم سعد الدين دغمان "الأصول التاريخية لنشأة الدراما في الأدب العربي الحديث"جامعة بيروت العربية سنة 1973 عن آليات تشكل مسرحيات النشأة المؤلفة والمترجمة في علاقتها بالواقع التاريخي العربي الذي أدى إلى تكونها على هذا النحو من دون غيره، كاشفة عن آليات إعادة إنتاج المسرحيات المترجمة بما أحالها إلى إنتاج مغاير بنائياً بأكثر من معنى، وآليات إنتاج المسرحيات المؤلفة في علاقتها بموروثها - الشعبي والرسمي - الذي أعادت إنتاجه استجابةً إلى شروط الواقع التاريخي نفسه. وتواصل الجهد الكاشف عن هذا الجانب من منظور الرواية في الدراسة التي قام بها إبراهيم السعافين عن"تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام 1870- 1976". وقد تابع النهج الذي مضى عليه عبد المحسن بدر في التمييز التراتبي بين"الرواية الفنية"وروايتي"التعليم"و"التسلية والترفيه"، ولاحظ - مثله - امتداد التيار المتأثر بالذوق الشعبي في روايات البدايات، مبرزاً استمرار الموروث حتى في الأشكال الوافدة التي لم تصل إلى مرحلة النضج الفني، والتي اختزل قيمتها عندما نظر إليها نظرة دونية من علياء"الرواية الفنية". لكن دراسته أكدت - في هذا السياق - الحاجة إلى دراسة روايات الرحلة من منظور الكشف عن آليات التشكل النوعي الذي يقوم على تنوع العلاقة البنائية بين أطراف الموروث والوافد، وأهمية الكشف عن التنوع في مدى استجابة رواية الابتداء إلى شروطها التاريخية التي أسهمت في تحديد الأبنية التي تجسّدت فيها. وفي تقديري أن إغفال عمليات التشكل النوعي للرواية العربية في ابتداء زمنها، ومن منظور استجاباتها إلى شروطها، يؤدي إلى نتائج غير دقيقة، مضللة، تقترن بالهبوط على هذه الروايات بمعيار إبداعي خارجي، لا يراعي الخصوصية التاريخية. كما أن قياس هذه الروايات على نموذج جمالي بعينه، وإعطاء هذا النموذج صفة الإطلاق التاريخي، عملية غير تاريخية، تغترب بالتاريخ المتعين لروايات النشأة من ناحية، وتفصل بين الجمالي ووظيفته التي تربط القيمة الاستطيقية الجمالية بالمسعى الوظيفي الذي حاولت به الرواية تجسيد وعي المدينة الصاعد للمجتمع المدني والتجسّد به في أبنية متغايرة، أبنية ينطوي كل منها على تغاير الخواص نفسه الذي انبنت عليه المدينة العربية التي تولد منها وفيها وبها فن الرواية العربية. ومن هذا المنظور، تحديداً، كان ابتداء زمن الرواية - فيما قلت في بحث استكشافي سابق - مرآة إبداعية لخطط المدينة العربية التي جمعت بين القديم والجديد، الموروث والوافد، وخلطت بينهما بواسطة عمليات متعددة من المجاورة والتداخل والإزاحة والإحلال والامتداد والتحوير في عمران المكان. وبالقدر نفسه، كانت روايات هذا الابتداء ساحة لصراع الاتجاهات المتباينة المناوئة لعقل الاستنارة ووعيها المدني، الأمر الذي جعل من نماذجها ساحات سردية، تستوعب الممكن والمحتمل، المنطوق والمسكوت عنه من مناقشات الأبطال الذين تتباين توجهاتهم، وتتصارع ثقافاتهم، وتتعارض درجات انتمائهم ما بين القديم والجديد أو الموروث والوافد. وقد كانت النتيجة اللماحة التي توصل إليها روغر آلان في كتابه عن"الرواية العربية"- الطبعة الأولى الإنكليزية سنة 1982 وترجمتها العربية سنة 1986 . والطبعة الإنكليزية الثانية سنة 1995 والترجمة العربية سنة 1997 - دالة في هذا الاتجاه، خصوصاً حين ذهب إلى أن تطور الرواية العربية نتاج عملية طويلة الأمد، جاء كثمرة للمواجهة والالتقاء بين كل من الغرب بعلومه وثقافته من جهة، وإعادة كشف التراث الكلاسيكي العظيم للغة العربية وآدابها وإحيائه من جهة ثانية. وأسعدتني المحاولة المنهجية التي قام بها عبدالله إبراهيم في كتابه"السردية العربية الحديثة: تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة"الصادر عن المركز الثقافي العربي، في بيروت سنة 2003. وهو كتاب في هذا الاتجاه الذي يقترن بنقض تفسير نشأة الرواية العربية على أساس من مبدأ الاستعارة من الغرب. وقد قام عبدالله إبراهيم بعمله الكاشف ببراعة منهجية وتوثيق تاريخي دقيق ومحكم، ساعده على إعادة تفسير نشأة الرواية العربية، من منظور ناقض لخطاب الاستعارة، ناظراً إلى الرواية بصفتها الثمرة التي انتهت إليها حركة التمازج التي قامت بين الرصيد السردي التقليدي والمؤثرات الثقافية الجديدة. يقصد إلى الحركة التي اقترنت بالحراك الذي عصف بالأنواع الأدبية التقليدية، وأدى إلى ضعف الحدود الفاصلة بين الأجناس والأنواع، وتداخل النصوص، وتفكك الأنظمة السردية الموروثة. وكانت الرواية - في هذا الحراك - نتيجة حركة التمازج التي تولى عبدالله إبراهيم تحليلها تحليلاً تفصيلياً، مؤكداً ارتباط التنوع في شكل الرواية بوضعها المفصلي على الحدود الرمزية ما بين عالمين: عالم في طريقه للأفول والتحلل، وعالم في طريقه للظهور والتكون، وموضحاً - في الوقت نفسه - قدرة الرواية الوليدة على التعبير عن العالم الجديد بمكوناته وعلاقاته وقيمه، على النحو الذي جعلها إحدى نتائجه وتعبيراً عنه في آن واحد. ويعني ذلك - من المنظور الذي ألح عليه شخصياً منذ التسعينات - أن ما حصل من صراع بين القديم والجديد في عمليات تحديث المدينة العربية، حيث تجاورت الأضداد أو تصارعت، أو تخلق من بين تضادها مركب ثالث، حدث في عمليات تشكيل الخطاب السردي، حيث تجاورت الأضداد القديمة والجديدة، المقامة التقليدية والسرد المحدث، الأمثولة والتمثيل الكنائي، التسجيع والكلام المرسل، في صراع متوتر بدأ من"الساق على الساق"المنشورة سنة 1855، وانتهى بانسحاب قالب المقامة التي لم تصمد عناصرها طويلاً لضغط متغيرات السرد الروائي الذي حسم أمر تحديثه، نهائياً، مع الجيل الليبرالي الذي ضم عيسى عبيد وطاهر لاشين وهيكل وغيرهم من الذين كانت رواياتهم، مع مطلع القرن العشرين، ونتيجة الشروط التي وصلت إلى ذروتها في ثورة 1919، علامة على عهد جديد من الكتابة التي تجاوز بنزوعها الفردي ورؤيتها الذاتية كتابة النهضة برؤيتها العقلانية إلى العالم. وكان ذلك بعد أن تقلص حضور"الأمثولة"التي اقتضتها العقلانية وذاب"التمثيل الكنائي"للنزعة الأخلاقية في مواقف النقد الاجتماعي، وبرز صوت الكائن المتوحد المغترب عن عالمه وفيه، ولكن بما لم يقض على تأثيرات الموروث، بل استبقى عناصره ضمن العمليات الجديدة من إنتاج وإعادة إنتاج الشكل الروائي بما يحقق وظائف مغايرة.