أحاول ان اضيع في متاهة الوقت، ان أسلك تلك الدروب غير المرئية التي تردنا الى الزمن البائد الذي لم نعرفه، ولكنه حاضر موجود في اعماق الحجارة، في مادة الخيال...". هذا ما يقوله الراوي في رواية ربيع جابر ما قبل الأخيرة"بيروت مدينة العالم"2003، ص69. وفي"بيريتوس: مدينة تحت الأرض"المركز الثقافي العربي، دار الآداب 2005، رواية ربيع جابر الجديدة، يركض الراوي، حارس سينما"سيتي بالاس"الخربة، خلف الشبح الأبيض، يظنه صبياً مشرّداً، وبدل ان يقبض عليه، يقع في الحفرة العميقة التي اختفى فيها من ظنه صبياً مشرداً، ليكتشف، ويكشف لنا ان تحت بيروت التي نعرف مدينة اخرى، لا نعرفها، هي بيريتوس التي استقبله اهلها وآووه من كسوره وعرّفوه بعدها، بمدينتهم... من رواية الى اخرى يتابع ربيع جابر رحلته في اكتشاف الأزمنة البائدة والأعماق غير المرئية لبيروت، المدينة التاريخية، مدينة التحولات، المدمّرة بعوامل الطبيعة والحروب، والمعاد بناؤها مراراً. يرحل ربيع جابر الى أزمنة المدينة باحثاً عنها في"طبقات الطلاء"و"المجلدات القديمة"، في حجارتها ودمارها، في ما هو فوق الأرض وفي ما هو تحت الأرض، ارضها. تشكّل بيروت، بأزمنتها، مادة لخياله السردي في اكثر من رواية من رواياته. كأن المدينة بحركة زوالها ووجودها، هاجسه وموضوع سؤاله الفكري التأملي المطروح على علاقة الواقع المرئي بالواقع غير المرئي، التاريخ بالذاكرة والزوال بالوجود. ليس التاريخ الذي يعود إليه ربيع جابر ويستعين بمادة منه، في اكثر من رواية من رواياته، هو ما يشغل المؤلف، او يشكّل المعنى العميق لسرده، بل ان ما يشغله - كما يبدو لقارئ رواياته - هو معنى الأمن والوجود، وهذا الإيقاع الذي يأخذك"خارج النبض السريع للكون"، كما يقول لنا راوي"بيروت مدينة العالم"ص16. مؤرّق، فكرياً، مؤلف الروايات العديدة ومبتدع عوالمها المتنوعة، بما يراه ولا يراه الآخرون، ب"زمن غير مرئي ولكنه حاضر موجود". زمن لعوالم يُحيل، روائياً، على التاريخ، على الماضي وذاكرته، أو على واقع معيش، وهو، احياناً، زمن لعوالم هي مجرد خيال لا تُحيل إلا على حقيقة يبتدعها الفني. هكذا، ومن مدينة فوق الأرض اعاد المؤلف الى تاريخها البائد وجوده في الزمن الحاضر في روايته"بيروت مدينة العالم"، يرحل الراوي، في"بيريتوس..."، الى مدينة تحت الأرض تبتدعها مخيلة المؤلف ويبني لها السرد، بفنّيته، وجوداً حقيقياً. من بيروت التي فوق الأرض تبدأ رواية بيروت التي تحت الأرض. من سور مظلم، يشير إليه راوي بيروت التي فوق الأرض، سور"يمتد حتى البحر المظلم"، يتابع هذا الراوي رحلته الى بيروت التي تحت الأرض. كأنه يتابع رحلته من تاريخ متروك زمنه للعتمة، عتمة النسيان، الى تاريخ لزمن سحيق تحت الأرض، او الى زمن لا تاريخي مجهول... يحيله السرد الى حاضر موجود. يسقط الراوي في الحفرة العميقة، وحين يخرج منها يحكي، لربيع عن مدينة خيالية، تكتسب المدينة الخيالية في حكاية الراوي عنها، وفي سرد المؤلف لهذه الحكاية، طابع الحقيقي. اللامعقول الذي لا يصدّق يكتسب، روائياً، صنعة المعقول القابل للتصديق. ترتسم بيريتوس في مخيلتنا مدينة تتمتع بكل ما يكوّن مقومات وجودها وشروط العيش والحياة - ولو البائسة - فيها. تصير بيريتوس، بعد قراءة الرواية، ذاكرة لمدينة لها احياؤها وحاراتها ودروبها التي يركض فيها اطفال المدينة. ثمة دهاليز ومتاهات علينا، شأن بعض سكان المدينة ان نتجنبها، ولو مشينا فيها، شأن البعض الآخر، لانتهينا مثلهم، الى دروب تضيق وتزداد ظلمة. في حارة الشيخ محمد حيث بيت الشيخ اسحق الذي امضى فيه بطرس - الراوي - فترة شفائه من كسوره، نتعرف الى ابنة الشيخ اسحق راحيل، التي كانت ترعاه وتقدم له الطعام، كما الى المرأة الجميلة التي وقع بطرس في غرامها، ياسمينة التي ظنها صبياً مشرداً يوم خرجت، بلباسها الأبيض!! براً، تبحث عن زوج ايليا الذي لم يعد الى تحت. مدينة يرسم المؤلف خريطتها ويعرفنا بسكانها، بالمؤرخ مسعود والجغرافي زكريا، والفلكي سلمان. بالعميان الذين لهم حيّهم المنسوب لهم بحي الأزرق الذي تعيش فيه ياسمينة. تجيب الرواية على اسئلتنا المضمرة: كيف يعيش هؤلاء الناس. ماذا يأكلون، ومن اين يأتون بما يحتاجون إليه في عيشهم، هنا، تحت الأرض؟ السمك هو طعامهم يتغنون في إعداده ويربونه في مزارع هي عبارة عن اجران عميقة بفتحات عالية، وذلك بعد ان شحّ النهر وتحولت الهوة الى واد عميق موحل نتن الرائحة ص 134. وفي ماء هذا النهر كانوا يدفنون موتاهم، وعندما شح صاروا يحرقون الجثث في افران ويحفظون رمادها في قوارير فخار توضع في النواويس الحجر. من بقايا السمك يصنعون الشمع الذي ينير ظلمتهم، ومن الحجارة، حجارة مدينتهم، يصنعون ادواتهم كلها: الطاولة والكرسي وعجلاتها... النول والاواني والمطارق. سمك كله اعمى لأن النور لا يبلغ هذه الاعماق، وأناس يولدون بعيون واسعة، تبيضّ جلودهم... نحلاء معرضون لفقدان البصر. تفاصيل مدهشة اترك للقارئ متعة اكتشافها. اكتفي بما ذكرت لأشير الى متخيل يبتدعه ربيع جابر داخل المتخيل: - مدينة تحت الارض هي، كما يبدو، مجرد خيال! - ومدينة فوق الارض هي ذاكرة تحيل على تاريخ ودافع معيش... وتنسج زمناً سردياً يتداخل فيه الحاضر بالماضي، ما بعد الحرب بما قبلها... الزائل بالموجود او ما نرى بما لا نرى... مدينتان تتناظران في الوجود، لكن من دون ان تشبه احداهما الاخرى. كأن ما تحت الارض هو معنى مضمر من معاني المدينة التي فوق الارض. معنى مهمش، مقذوف الى عتمة النسيان في هذا الزمن الحديث، زمن الضجيج والاستهلاك السريع. ليست بيريتوس مدينة من التاريخ، بل هي معنى من معانيه، او من معاني المدينة التاريخية، بيروت في الزمن الحاضر. وهي بهذا المعنى محض خيال لا تتولد دلالاتها إلا في حوار مع تاريخ المدينة، وواقعها المعيش في الزمن الحاضر. "أعلم أنك تحب القصص الحقيقية. قرأت رواياتك عن مارون بغدادي ورالف رزق الله ويوسف جابر وسليمان بسترس وعائلة البارودي، اعرف انك تحب القصص الحقيقية، وأنك مرات تخترع قصصاً تبدو حقيقية..."بيريتوس ص 15. هكذا يتحاور الراوي الشفوي، راوي حكاية المدينة التي تحت الارض، ومؤلفها الصريح اي ربيع جابر مؤلف الروايات المذكورة في عبارة الراوي أعلاه الذي يجلس في مطعم، عالياً، فوق الارض. كأن المؤلف، هنا، يبرم عقداً مشتركاً بينه وبين الراوي، عقداً لا يخفي حقيقة المؤلف، او حضوره، إلا بقدر ما يسهل هذا التآلف بين من يروي ومن يكتب، بين الشفوي والمكتوب، بين الحكاية وروايتها، او بين حقيقة المتخيل وحقيقة المرجعي. تآلف له شكل اللعب، ولعب يفضي الى الالتباس. يلتبس وجود الحارس، بطرس، راوي الحكاية. يبدو في عين الكاتب غير حقيقي، مشكوك في وجوده الفعلي، كأن من يكتب الحكاية هو مؤلفها، وكأن بطرس، راويها، ليس سوى دلالة على المعنى العميق للرواية:- الغربة والنسيان. غربة الناس الذين يعيشون في العتمة ونسيانهم في الزمن والتاريخ. وتلتبس الحكاية بسردٍ يلعب على معناها وينسج دلالاتها الروائية في علاقة التناظر بين مدينتين، تتداخل أزمنتهما ببراعة لافتة وغواية خفية تلبس لبوس اللغة البسيطة المتكتمة على لعبها الفاتن. ينساب خيط الحكي في رواية"بيريتوس: مدينة تحت الأرض"مؤكداً بساطة بدأها ربيع جابر، في شكل ملحوظ، في روايته"رحلة الغرناطي"2002، ومولياً أسلوب الحكاية في السرد أهمية أولى. كأنه بذلك يشرّع نوافذ الرواية، عندما تتناول التاريخ، على ما هو من ذكريات الطفولة وسيرتها. أو كأنه يشرع لرواية تتداخل فيها الأزمنة تداخل المرجعيات وحقائقها. تستمد المدينة التي تحت الأرض معنى وجودها من المدينة التي فوق الأرض، كأن المتخيل اللاواقعي بيريتوس يستمدّ حقيقة معناه من المتخيّل الواقعي بيروت. بدل الواقعية السحرية، يبتدع ربيع جابر الواقعية التناظرية: يكتسب اللاواقع واقعيته من نظيره، لا على قاعدة التماثل معه، بل على قاعدة الاختلاف والمعنى المفارق: تختلف بيريتوس عن بيروت وإن كانت، ومن حيث هي مدينة، تناظرها. وفي علاقة التناظر يتولد المعنى المختلف اللامرئي... الذي يشكل المعنى العميق للرواية. يذهب هذا المعنى الى ما هو أبعد من معنى الحكاية - حكاية مدينة تحت الأرض - الى سؤال يترجَّع صداه في نسيج الرواية كلها، وتلتمع دلالاته في إيقاعها البنائي المشحون، على بساطته، بأكثر من نغم... كأنّ ما يكتبه ربيع جابر من روايات ليس سوى تشكيل فني لسؤال مطروح على معنى الزمن وحقيقة الوجود. وكأن الرواية العربية تنبني، مع ربيع جابر، على ما يعوزها، على فكر تتألق به فنيتها.