قد تكون الغفلية هي أوّل ما يستوقف قارىء "غناء البطريق"، رواية الكاتب اللبناني حسن داوود الصادرة حديثاً عن دار "النهار" في بيروت. فعلى امتداد الصفحات التي تبلغ نيفاً ومئتي صفحة والموزّعة على ثلاثة وثلاثين مقطعاً، لا يجد القارىء إسماً واحداً. وفي الأمر هذا ما يشي بحداثة أدبية راسخة أو نازعة الى الرسوخ حاملة طابعها المديني بوصفه مؤهلاً لاحتضان واستقبال الغفلية. فالراوي الذي يتحدّث في صيغة المتكلّم، وعلى امتداد الرواية كلّها، نراه ينقل حديثه السردي عن البناية التي يقيم فيها مع أبويه، وعن الطريق الرملي الذي تقطع البناية امتداده بحيث يصير يفصلها عن المدينة القديمة، جاعلاً البناية ترتفع "وحدها، في ذاك الخلاء، مثل برج سمين قصير"، وعن نفسه، بما في ذلك تلصّصه على المرأة وابنتها المقيمتين في الطابق الأدنى، وانقطاعه عن المدرسة واقتناؤه للكتب، نراه يفعل ذلك من دون أن يقدّم للقارىء أو للمستمع الى غنائه ما يدلّ، أو ما يحسب له الدلالة، على هويات وتعريفات ناجزة ان لم تكن مسبقة. ويغلب على الظن أن الكاتب حسن داوود، الواقف خلف الراوي، قد تقصّد هذه الغفلية باعتبارها شرطاً ضرورياً، في المعنى المحمول على مقتضيات البناء الروائي، لتثبيت و"تعهّد" مادّة عمله الأدبي هذا، وهي مادة تدور في معظمها على القوام والسماكة النفسيين للراوي الذي جاوز العشرين من العمر. واقتضى الأمر، على الأرجح، أن يكون الراوي هذا حاملاً لندبة أو جرح جسدي - نفسي إذ أنه مصاب بتشويه ظاهر، كي لا نقول عاهة، سوف يلازمه كل حياته، محدثاً داخله عوارض الخجل والاضطراب الناتجة عن عدم التناسب بين أعضائه، شأنه في ذلك شأن البطريق الذي لا يقوى على الطيران بسبب صغر جناحيه بحيث تصبح صفة الطائر المنسوبة اليه ضرباً من المجاز الحامل بعض الحقيقة والمفضي بصاحبه الى الإقامة عند الحدود الملتبسة والعائمة بين جنسين وكينونتين. على أن الندبة وتبعاتها والمقدّمة في صورة جرح نرجسي عميق الغور، وكذلك التكنية عنها بحال البطريق، محمولتان كلاهما على الترميز المكثف الذي يكاد يكون شعرياً: "- لم أشأ أن أمرّ من أمامها ماشياً مشية الطابور التي تبديني بينهم متقافزاً معلياً صدري مثل واحد من طيور الشاطىء تلك، التي تتقافز على أقدامها إذ يحول صِغر أجنحتها بينها وبين الطيران". بعبارة أخرى، ليس في أفق الرواية، وفي نسيجها واستغراقها السرديين، أي منحى أو ملمح ميلودراميين من شأنهما إثارة الشفقة على "بطلٍ" تكون غيريته ضرباً من اللاسوية المعهودة. إنها، على الأرجح، رواية السوية الناقصة، إذ السويات ليست إلا هكذا، ناقصة ومجروحة ومثلومة، على ما رأى شيخ التحليل النفسي فرويد. وما يفعله حسن داوود يقرب أن يكون حلولاً صوفياً داخل كيان وقوام هذه السوية الناقصة ليقول لنا كيف يكون العالم والحياة، على قلتهما، حين يُنظر اليهما بعيني كائن ناقص أو قليل الإرث. وإذا كانت رواية "غناء البطريق" تتخذ عموماً صورة المونولوغ الداخلي الطويل، المتنقل بين الوصف الدقيق لأصغر التفاصيل وبين البوح والاعتراف والتذكّر والهمسات العالية حيناً، والخافتة والحميمة حيناً آخر، فإن ذلك لا يمنعها من أن تكون رواية علاقات ومقاربات لوظائف ومواقع كائنات بعينها داخل هذه العلاقات. أي أنها ليست رواية شخصيات ممسرحة. حتى المكان، بما في ذلك الفضاء الحميم للمنزل العائلي والفضاء المجاور والبناية وطريق الرمل ومشهد المدينة القديمة التي تجري فيها عمليات بناء، هذا المكان لا يتقدم بوصفه إطاراً مسرحياً بل بوصفه مدار علاقة بين البشر وفضائهم. ذلك أن المكان الحامل لقسماته وشواهده الشاخصة، إنّما هو، في عرف حسن داوود الممعن ببراعة في تسقط والتقاط تفاصيله مهما استدقّت وصغرت، حقل علامات لا تمكث ولا تشخص، هكذا، من دون تبعات ومن دون بقية. إذ هناك دائماً وجوه تراسل وتناظر وإحالة وتجاور بين العلامات التي يتعرف بواسطتها الإنسان على نفسه وذويه وعلى موضوعات أشواقه وشهواته، وبين العلامات التي يحملها المكان ويلقي بثقلها وحمولتها داخل الكيان النفسي لكل أنسي. لذا يمكننا القول أن رواية حسن داوود قابلة للوصف بأنها رواية سيميولوجية، أي دائرة على العلامات وعلى العلاقات المنسوجة بينها. إذا شئنا، على سبيل التقديم الموجز، إرجاع رواية "غناء البطريق" الى عناصرها الأولية، سيكون لدينا أسرة مؤلّفة من أب تقدّم في السن وزاغ بصره وأصبح من دون عمل بعد أن ترك محله في المدينة، ومن أمّ ترعى زوجها وابنهما الوحيد الحامل لتشويه جسدي، وهو الراوي، وبناية قصيرة مأهولة بكائنات قليلة، بما في ذلك امرأة وابنتها تقيمان في الطابق الواقع مباشرة تحت مسكن الراوي وأسرته، ولدينا طريق رملي يفصل البناية عن المدينة القديمة. هذه العدّة القليلة والشديدة التواضع، هي، تقريباً، كلّ ما لدينا. فوق ذلك، يشفع حسن داوود هذه العدّة القليلة بغفلية تلفّ سائر عناصرها، بحيث يمكن للرواية أن تدور في أي مكان في العالم الواسع هذا، إذ ليس هناك ما يدلّ صراحة على وقوع هذه العناصر في مكان وزمان قائمين برأسهما بحيث يحيلان الى مدينة ومجتمع وتاريخ وثقافة. على أن الكاتب حسن داوود يكافىء هذه الغفلية بتعهّد العلامات وتقليب وجوهها بدقة ورشاقة سرديتين، دافعاً بقارئه الى قراءة ثانية ذات طابع إناسي أنتروبولوجي وتحليلي - نفسي. وفي هذه القراءة الثانية الملتفتة الى التلميحات والإيحاءات والسلوكات والتجاذبات، خصوصاً اللاواعية منها، يتكشف للقارىء إمكانية الاهتداء الى المحل الذي تصدر عنه الرواية، وهو محلّ لبناني مديني غير مقطوع الصلة بالمحل العربي، المديني والمحدث بطبيعة الحال. قد يكون البطريق طائراً ناقصاً أو أنه لم يحظ إلا بإرث قليل من جنسه السابق، وصار بدوره جنساً ناقصاً لا يستوي في صفة واحدة، ومشتركة مع سائر الطيور. والراوي في "غناء البطريق" الممعن في سرد وجوه بارزة من روايته العائلية ومن طفولته ومن تربيته العاطفية والجنسية، إنّما يغوص في قوام ومخزون التفاصيل التي تختصرها الصورة الرمزية للبطريق. إذ هو أيضاً مشغول بقضية الإرث، في المعنى الواسع للكلمة، الإرث القليل الذي حظي به في حياة أبيه والذي سيتحول بعد وفاة الأب، الى صفة تلازم وجوده وكيانه. فهو يخبرنا بلغة شديدة الإيحاء، عن انتقال جوفي لتقنيات تطاول طريقة الوجود وإرسال النظر ومقاربة الأشياء. إذ في الأيام التي أعقبت موت الأب "صرت أقف في مكانه، حيث كان يجلس، وأنظر الى المساحة الواسعة الخالية لأرى ان كانوا قد بدأوا فيها شيئاً. وكنت أفعل ذلك من أجله، كأنني أعاين، من أجله، الشيء الذي، لا بدّ، انشغل به كيف سيكون بعد موته". "كنت أفعل ذلك له وعلى طريقته هو الذي يعتقد أن ما خلّفه وراءه سيبقى حقيقياً وصلباً برغم موته". والابن يفعل ذلك لا من قبيل التقليد والتطبع بطبائع الأب، بل لكي "أكمل عنه حرصه لمعرفة أين أصبحوا، كأنما من أجل أن يبقى أحد منتبهاً لما يحدث هناك". إذا كانت رمزية البطريق، في بعض وجوه دلالاتها، تحمل على الظن بأنه ليس طائراً ناقصاً فحسب، بل هو حامل لبقايا أجنحة، فإن الراوي هو أيضاً مدعو الى حمل بقايا سيكون عليه حراستها إذ هي موئل علامات كيانه ووجوده. وهو يفعل ذلك من دون أن يتوقف عن الاعتقاد بأن هذه البقايا مهدّدة بالذواء والتلاشي، بل حتى من دون أن يتوقف هو نفسه عن تحويل حياته وأثاثها النفسي والحسّي والمادي الى بقايا. في هذا السياق، يمكننا تسجيل المقطع الذي يخشى فيه الراوي من أن يضيّع الطريق الى قبر أبيه: "ينبغي لي ألاّ أضيّع قبره وإن كان هناك، في المدينة الجديدة التي لا أحبّها ولم يحبّها هو. انه نقطة ثابتة على أي حال، باقية له. في البيت هنا، بالبناية التي ترتفع على الرمل مثل برج سمين قصير، سأظلّ أُنقص مما حولي وأضيّقه". وإذا ما استثنينا المقطعين، العشرين والواحد والعشرين، الدائرين على مغامرة الراوي الجنسية مع جارته التي تكبره سناً، والمكتوبين بلغة سردية نابضة، راجفة، شهوانية وحسيّة، إذ فيهما يهمّ الراوي في التعرّف على جسد المرأة وعلى جسده، واضعاً على محك الاختبار الحسي سائر هواماته وتجاذباته واضطراباته وتمثلاته لرجولته وذكورته، خصوصاً وأنه يتكهن بتواطؤ أمه مع الجارة في تدبير مغامرته هذه بحيث يزدوج نظر الراوي الى مغامرته إذ يتزاحم ويتناوش فيه ما يراه هو بعينيه وكيانه وما يحسب أن أمه تراه وتتسقطه، إذا ما استثنينا هذين المقطعين، تبدو رواية "غناء البطريق" بلا أحداث، في المعنى المعهود للكلمة. وليس في الأمر أي "كسل" أو تهاون روائيين، إذ أن نبرة الرواية تكاد تفصح منذ بدايتها عن بؤرة حبكتها: الحياة حدث رمزي وروحي من شأن السرد وحده أن يتوغل في علاماته وفي حمولته. إنها رواية الحدّ الأدنى للوجود الفردي، إلاّ أن هذا الحدّ الأدنى إذ يتعهده حسن داوود كما لو تهجية أيقونة وفك رموزها يصبح في معنى ما حداً قصوياً. ونحسب أن هذا ما دفع بالكاتب الى إحداث فراغ وخلاء حول كيان الراوي كي يتسنى لنا التعرّف على سماكة العلامات التي تجعله كائناً مسكوناً بحياة سابقة، أي بمكان وزمان سابقين. وقد يخيل لقارىء "غناء البطريق" أن الرواية صادرة عن لحظة طللية وأن الراوي يقيم في حاضر ومحلٍ باتا أثراً بعد عين. على أننا نرجّح الاعتقاد بأنّ حسن داوود لا يفعل سوى التوسّل بهذه اللحظة الطللية من أجل التوصل الى ما هو أساس في السرد الروائي: تحرير دفقات من المشاعر والهوامات والانفعالات والكثافات والتمزقات الحميمة. وإذ يمعن في سرده هذا، إنما يختبر النظر الى نفسه والى ما حوله بعينيه هو، في زمن تكثر فيه النظرات المستعارة والجاهزة. نقول يختبر لأن الراوي لا يزعم لنفسه امتلاك معرفة مسبقة وناجزة عن قوام فرديّته، بل هو يحمل شعوراً عميقاً بأنه مقيم في عالم لا تتوالى وتتناسل فيه الأمكنة والأزمنة من بعضها البعض بل أن هذه الأخيرة تبتلع وتصادر بعضها البعض، وتصبح كيانية الراوي أشبه بعلبة مقفلة مهدّدة بالمصادرة والتبديد من دون التعرّف على محتوياتها. تجري الأمور، بحسب إحالات رمزية يحتملها النسيج السردي عند حسن داوود المتألّق في تشاؤمه، كما لو أن الحياة الفردية، في المكان والزمان الموصوفين، مدفوعة على الدوام الى استباق شيخوختها وزوغات بصرها وبصيرتها، مثلها مثل تهالك نظرة الأب: "من عيني أبي، حين أنظر اليهما، أقدر أن أعيّن درجة الضعف التي بلغها بصره. من الغلالة التب تنتشر على حدقتيهما، والتي كانت في بدايتها أشبه بغلاف رقيق من النايلون الشفّاف النظيف .... آنذاك، وأنا بعد في المدرسة، كنت أخمّن أنه يرى الأشياء كما لو أنها مغطاة بحاجز مائي غير سميك. لكن مع تقادم الوقت، وقد بدأ ذلك وهو بعد في دكانه، أخذ هذا الحاجز يتسخ إذ مال غشاء النايلون الى اللون الرمادي. كما أنه، كما صار يبدو لي، سمك وغلظ قليلاً عما كانه. أما نظر أبي من تحته فتحوّل الى أن يكون محتبساً به، ومخنوقاً، شأن رئة لا يصلها، لتتنفس، إلاّ هواء قليل". إنها رواية أقلّوية، وصفة "الأقلّوية" هذه غير محمولة على المعنى الذي يحيل إلى أقلّية اجتماعية أو اتنية أو دينية أو عددية، بل في المعنى الرمزي وشبه الوجودي للكلمة. ذلك أن الراوي، القليل الحول والحيلة والجسم، ومعه سكان روايته وليس بنايته فحسب القليلون، إنما يروي من الداخل حكاية القلّة والحدّ الأدنى للكائن. لذا تبدو رواية "غناء البطريق" كما لو أنها تتوغّل في ثنايا وأنفاق كائنات وهواجس ورغبات معتبرة هامشية وزائدة، على قلّتها. فالمحلّ أو الموضع الذي ينظر منه الراوي الى المدينة والى "سوياتها" الاجتماعية والمدرسية والجنسية، لهو بالتأكيد موضع الهامش بالقياس الى المتن، وموضع الملحق والإضافة بالقياس الى ماهيات أساسية يحسب لها التصدّر والسلطان والسيادة. على أن الهامش والملحق هذين، كما يتعهّد روايتهما حسن داوود، لا يعدمان المقدرة على تهديد المتن وإزعاجه بأسئلة ونظرات قابلة للتمدد والنفاذ الى داخل المتن، على ما رأى فيلسوف "تفكيكي" حديث جاك دريدا. أي أن حسن داوود يردّ الكلام إلى أهل القلّة والهامش والملحق، ليس بوصفهم فئة محددة، بل بوصفهم أهل "جغرافية" نفسية وروحية محبوسة ومخنوقة ومكتومة. وبذلك يصنع الكاتب اللبناني من تراب القلّة ذهباً روائياً. وإذ تحاصره الكثرة ذات الاستعراضية الباذخة، وربما البذيئة، نراه يمعن في أقلوّيته، في المعنى النبيل الذي يلح عليه الإبداع الروائي وغيره.