سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
طارق البشري في جامع مقالاته في تاريخ الجماعات والبلدان العربية والإسلامية المعاصر . استيلاد "الإرادة السياسية" و"الصالح العام" من معجم الألفاظ ... يرسي الاستبداد على شرعية لا تفنى
يَجمع طارق البشري، الحقوقي والمؤرخ والكاتب المصري، في "حوار شامل" مع محمود الورداني نشرته "أخبار الأدب" الأسبوعية المصرية في 29 آب / أغسطس ما يكاد يكون قواسم فكرية وتاريخية مشتركة يدين بها شطر عريض من مثقفي المجتمعات العربية اليوم. وقد تكون الأفكار السياسية والتاريخية والثقافية هذه عمدة ما يسميه البشري "التيار السياسي الأساسي"، ويقترحه "إطاراً فكرياً وسياسياً للجماعات القائمة في الأمة بما فيها من تنوع وتباين واختلافات في النظر"، ويسعى في استخلاصه وإشراك التيارات والحركات و"الحساسيات" غير المتبلورة فيه. فتصب في مقالات الرجل و"موضوعاته" المتحدرة إليه من سلف صالح يرقى الى زمن سحيق، على ما أزعم، روافد "الإيديولوجية الضمنية" على زعم مكسيم رودنسون. وهذه تحاكي، من غير إعمال آلات النظر المركب أو الناقد، خيالات الجماعات وأوهامها وأهواءها. فليس بين المقالات البشرية وبين شائع الأحكام والتعديلات المتداولة، فرق. فالمقالات تماشي الأهواء والبدائه الشائعة على مثال كان نصح مفكرون ومنظرون شيوعيون وماركسيون به أهل السياسة من أقرانهم وأنصارهم. فمن يتنكب عمل السياسة، عليه، بحسب هؤلاء، ان يميل مع الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم، "بالسليقة" وتلقائياً. وحين "يرقى" القاضي المتقاعد بمقالاته الى مرتبة النظر، فيبين موقتاً من "الجماعة" أو "الأمة"، ويخالفهما طريقة تدبر الرأي قبل ان يعود الى "تيارها الأساسي" تتنازع المقالات منازع متضاربة او متدافعة هي منازع رأي متوسط وعام، يجري مجرى الطبع والاعتياد. فقوام مذهب طارق البشري في السياسة والتاريخ العربيين والإسلاميين، الحديثين والمعاصرين، هو أن "بلادنا" إما محتلة احتلالاً مباشراً، على ما هي الحال بفلسطين والعراق وأفغانستان ويتهددها "الغزو المسلح" "كسورية وايران وغيرها" مثل السودان على الأرجح، وإما "ليست محتلة ولكن تخضع لضغوط الخارج في شكل يحاصر إرادتها السياسية ويسلبها بقدر أو آخر القدرة على الخيار السياسي الذي يتوخى الصالح العام". وعلى هذا ف"الخارج" الغازي المسلح والمستعمر والمستوطن والطامع في "الامتلاك والسيطرة" على النفط طبعاً يظهر فعله وأثره "الممتدان"، على ما هي الحال بفلسطين، أو غير الممتدين في بقية البلدان المهددة، في الحؤول بين "إرادة" هذه البلاد وبين "توخي الصالح العام للمواطنين". و"الإرادة السياسية" الوطنية أو الداخلية تنزع على الدوام، ومن غير جواز انحراف، الى "الصالح العام" هذا، وتسعى فيه وتحققه. فهي، من تلقاء نفسها وجوهرها، ديموقراطية. ويستولد المؤرخ المفترض مضامين المفهومات، والأصح القول: الكلمات والألفاظ، من معاني الكلمات المعجمية وتعريفاتها اللغوية والاستعمالية. فالإرادة السياسية لا تكون على هذه الصفة إلا اذا أرادت "صالحاً" عاماً واحداً، وإلا لم تكن سياسية ولا وطنية، وإن لم يزدنا نفي الوطنية عنها علماً بها، وبما هي. وهي إذا أرادت الصالح العام والواحد الوطني، فمعنى هذا انها تصدر عن "المواطنين" كلهم وجميعاً. فهو تعريفاً ديموقراطية. ويتوج "اندماج المطلب الديموقراطي بالمطلب الوطني" حلقات التعريف البدائية هذه. وكان مؤتمر شعوب الشرق في مدينة باكو الأذربيجانية، في 1919، برعاية الأممية الثالثة الشيوعية اللينينية والسوفياتية من بعد دعا الى "دمج" المطلبين أو البرنامجين، وشرط تحقيق دمجهما ب"قيادة" الطبقة العاملة الأممية وحزبها الواحد عشية انقلابه الى الحزب - الدولة أو الدولة - الحزب وديكتاتوريتها. ولكن هذا التاريخ الطويل المعقد والدامي الذي ملأته الحركات الشيوعية الوطنية، مثل الحركة الفيتنامية والحركة الكمبودية بمثالات "دمج" ولدت ضروباً من الاستبداد والإبادة غير مسبوقة، وتوّجت قبل نيف وعقد إقواء الامبراطورية السوفياتية على عروشها، هذا التاريخ لا يخطر ببال من يسميه رئيس تحرير الدورية المصرية، جمال الغيطاني، غير مغالٍ ولا متجاوز "ضمير وطن وروح أمة". وإذا أرخ الرجل للأعوام الأربعة عشر التي انقضت على السطو العسكري البعثي على الكويت رأى ان "المطلب الديموقراطي بمعناه الشعبي أصبح لا ينفصل عن المطلب الاستقلالي ... اي ان المطلب الوطني اندمج اخيراً مع المطلب الديموقراطي ليصيرا سبيكة سياسية لا تنفصل جزئياتها عن بعضها البعض". وكان المؤرخ، غداة غزو صدام حسين، "تفاءل" فتصور "ان العناصر متوافرة لاتخاذ سياسات المقاومة الوطنية". وحسب ان صدام حسين وحرسه "الجمهوري" الوطني والديموقراطي من غير شك، طلائع "المقاومة الوطنية". وهو يحسب اليوم الحسبان نفسه في "المقاومة" إياها وقد اغتنت بروافد "إسلامية" تقاتل النيباليين والهنود والاتراك والشيعة العراقيين الى الغربيين والنفط "الاستعماري" وفي العراق "المغزو"، على ما يقول. ويحسب كذلك في شأن جنوب السودان ودارفور. فيحمل قتال الحكومات الشمالية والعربية الافريقيين الجنوبيين، وقتال الرعاة العرب الحكوميين والمسلحين الجنجويد المزارعين الافريقيين "العبيد"، على "صميم الأمن القومي" المصري، والعربي و"الإسلامي" بإزاء منابع النيل التي تحوطها دول معظم أهاليها مسيحيون. ولا تثبط الحال هذه عزيمة المتكلم و"المحدث" ناقل "الأحاديث" وحاملها. والحق ان الحال تبقى بمنأى من تناول قاضي مجلس الدولة المتقاعد، فلا تلقي بظل واهن على تحديثه ومنقولاته و"تأريخه". فتصدر الحوادث، على قوله، عن طبائع مركوزة في "الجماعات" و"المواطنين" و"الحكومات". ولا تتعدى الحوادث الطبائع هذه، ولا تخالفها أو تناقضها بالأحرى. ففي "أوضاع" غزو الدول الكبرى الرأسمالية، الأوروبية ثم الأميركية" يذهب البشري الى أنه "كانت هناك حكومات تهزم أمام التدفق العسكري،وكانت هناك حكومات شعبية تتجمع لتذود عن بلادها، بالسلاح عندما لم يكن هناك بد من استخدام السلاح، وبالوسائل السلمية وعدم التعاون عندما كان يمكن هذه الوسائل ان تؤتي بنتائج". فلم تسبق "التدفق العسكري" علاقات تجارية ترقى الى ثلاثة قرون، "توسط" التجار المحليون، في اثنائها، بين التجارة البحرية الأوروبية وبين المجاهل الداخلية الافريقية، على سبيل المثال، وتولوا "نقل" مئات الآلاف من أهالي المجاهل الى المراكب "الرأسمالية" الراسية على الشواطئ. ولم يسبقه "تدفق" توجَّه من "بلادنا" الى "الخارج"، بجنوب أوروبا البلقاني وبلغ وسطها، ودمر اجتماع الجنوب والوسط، وأحالهما مصدر اتاوات وريوع، ونصّب على بلدانهما الباشاوات والبكوات والحاميات التي خلدت "البلقنة"، الى اليوم، وساوت بين "الدولة"، اللفظة والمفهوم، وبين التسلط والمصادرة. و"حكومات" القرن التاسع عشر المزعومة كان معظمها سلطنات وباشويات وبكويات ومشيخات ومخزنيات ونقابات الأشراف والتجار وطوائف حرف وملل تعصى الحصر والاحصاء. وتعصى الحصر والاحصاء منازعاتها، ومسارحُ هذه المنازعات: في الطرقات والمنازل والخطط والمساجد والدور والخانات والسرايات والأسواق والسدود والترع التي كانت تكسر لأضعف سبب والبوابات التي كانت تحاصر أو تحرق ومخازن المؤن والبساتين والآبار والقرى و"الأقلام" الجمارك، وكانت تنهب في مراحل المنازعة الحاسمة. وحالت كثرة المنازعات ومسارحها وأهاليها ومصالح هؤلاء بين الجماعات وبين بلورتها أو "حصحصتها" إرادة، سياسية مشتركة وجامعة تتخطى العصبيات، أو تؤلف بينها لكن شريطة ألا تتطرق الى روابطها ولحماتها وما به قوامها المتميز والمتربص والمتصدي. و"الحكومات الشعبية" المزعومة هي هذه العصبيات حين تترك الى نفسها، فتتولى شؤونها إما بعد تخلي رئاستها عن مقاليد الرئاسة، أو بعد القضاء على هذه الرئاسات أو هربها أو انقطاع ذراريها. ولا يتسنى، ولم يتسنَّ للجماعات هذه في المجتمعات العربية والاسلامية في تاريخها الحديث والمعاصر أن اجتمعت في بعض اقاليمها وأقطارها وائتلفت إلا جراء توحيد قسري أعمل موارد القوة والعنف والترهيب في الجماعات والعصبيات بغير حساب. فلم يتصدر محمد علي، وجماعة الأرناؤوط من حوله، الجماعاة المصرية المتقاتلة إلا بعد ان أنهكتها الحروب الخارجية والغزوات والمصادرات والمجاعات و"الهرجات" الانتفاضات الداخلية. وعلى طرف آخر من القوس التاريخي، سقط معظم ضحايا حرب الاستقلال الجزائرية الثلاثمئة ألف وليس "المليون" الذين تباهي بهم دعاوة عُظامية تحسّن تكثير عدد القتلى قرينة على عدالة القضية وعظمتها، في الحروب الحزبية والشللية وثاراتها. فساقت "جبهة التحرير الوطني" الجزائريين سوقاً، بالارهاب المعلن في بعض الأحيان، الى "صالحهم الوطني"، والى "إرادتهم السياسية". وليس مؤدى هذا أو معناه ان جمهور الجزائريين كان على "حب" التسلط الفرنسي، والميل الى المعمرين، والرضا بفظاظة القوات الفرنسية طوال القرن والعقدين التي سبقت أو بمصادرتهم على أراضيهم وعملهم ومقومات هويتهم المركبة وتاريخهم الكثير. وإنما مؤداه أن اغفال كثرة الجماعات ومنازعاتها والفروق فيما بينها، بينما هي في ذروة قيامها على المتسلط عليها وغاصبها حقوقها، ينكر الاغفال هذا على الجماعات حقوقها في صوغ تحررها، وملئها بالمضامين الحقوقية والسياسية والاجتماعية المناسبة والملائمة. وعلى خلاف الصورة الزاهية والزائفة التي تتصور بها "الإرادة السياسية"، ويتصور بها "الصالح العام" في مقالات البشري، وأقرانه العرب و"الاسلاميين" الكثر والمعاصرين، خلفت الحركات الاستقلالية و"حكوماتها الشعبية" أنظمة سياسية مستبدة مثالها السائد أقل من "الحزب - الدولة" وأسوأ، وأشد وطأة وإفقاراً ثقافياً واقتصادياً، وإضعافاً عسكرياً وأمنياً. فاستيلاد الديموقراطية تلقائياً وطبعاً من "حكومات شعبية تتجمع لتذود عن بلادها بالسلاح..." مذهب يتعمد التعامي والغفلة عن الفرق القوي بين شرائط اختيار الديموقراطية وبناء أركانها بناء دؤوباً ومحفوفاً بمخاطر الردة والنكوص، وبين شرائط الوحدة الوطنية أو القومية السياسية. وتعمد العمى والغفلة عن الفرق بين الأمرين والوجهين يؤدي عملاً أو "وظيفة". فهو يوكل الى الجماعات "الوطنية"، وإلى رئاسات وقيادات عصبياتها مهما أوغلت في القتل والقمع والركاكة السياسية والثقافية، صدارة "الإرادة السياسية" المزعومة، والتمثيل عليها او تمثيلها والحكم باسمها. ومثل هذا يرى اليوم، في السودان ولبنان والعراق وسورية وإيران وفلسطين وغيرها. فلم يحل، ولا يحول التصدي الشرس للدول الغربية واقتصادها وسياساتها وثقافاتها بين حكومات البلدان هذه، وطبقاتها وجماعاتها وعصبياتها السائدة والمتسلطة، وبين الاخناء على "مواطنيها" أي رعاياها ومسوديها بضروب من "جنجويد" القهر والاستتباع والعزل أو "خميرها الحمر" تيمناً بإبادة حركة التحرر الكمبودية، الخمير الحمر، ثلث "مواطنيها" في 1975-1978، غداة طردها الأميركيين وعميلهم لون نول. وليس في الأمر سر عصي الا على المنطق اللفظي الذي يسوق "أفكار" بعض المفكرين والخطباء. فمدافعة "الخارج" قد تهتدي بقيم ومثالات ومصالح مختلفة. فإذا هي اهتدت بقيم ومثالات ومصالح جماعات منكفئة على نفسها، منقطعة من حوادث العالم وأطواره ومقومات تغيره وانقلابه من حال الى حال، وعاجزة عن اقتباس هذه المقومات وتوطينها لأن الاقتباس والتوطين يفترضان إشراك جماعات متفرقة ومتنازعة في التدبير والأمر، أفضت المدافعة الى تحجير "البلد" او المجتمع على استقلال صوري، وهوية متحفية وبائدة، قوامهما الانقطاع من أفعال العالم والوقت وحوادثهما. ومثل هذه العصبيات تتصدر المقاومات وتتولى مناهجها وتغذيتها بالناس والكلمات. وحمل الاستقلال والهوية والقيام بالنفس على وجوهه على اعتزال مجتمع الدول، و"رأسماليتها" وهيئاتها وقواها الكبيرة، إنما يستجيب فعلاً مصالح العصبيات السائدة والضعيفة. ولو كان توحيد هذه العصبيات "مواطنيها" وجماعات بلدانها على صالح عام لما اقتضى الأمر، على خلاف زعم البشري وأصحابه، القهر والقمع والعنف والتقاتل التي يقتضيتها فعلاً بقاء الطبقات الحاكمة في ولاية الحكم والأحكام، على ما هي حال هذه الطبقات في البلاد "البشرية" المقاومة. ولما عُسر على هذا النحو والقدر تبين "الصالح العام" على الجماعات والأفراد. ولما تصدرت "الدول" وهياكلها الخاوية الا من المنافع والولاءات والخوف، قيادات هزيلة ومتعثرة على مثال القيادات المتصدرة والمكررة. والاعتذار لهذه القيادات عن تركها "ما يتعلق بالبناء السياسي الديموقراطي"، على قول الرجل تورية في الناصرية وسياسة عبدالناصر، والأسف على ما كان "قد تم من حفظ مصر واستقلالها من مشكلات كثيرة وانتكاسات كثيرة" لو عملت "ثورة يوليو" بالمتعلقات السياسية الديموقراطية، ضرب غريب من تأريخ المؤرخين المفترضين. فلماذا توكل حركات سياسية قديمة ومجربة مثل حزب الوفد وجمعية الاخوان المسلمين والحزب الوطني، الى الجماعات والكتل المحلية والأهلية والنقابية والمهنية، حكم مصر الى عدد قليل من الضباط الأغرار، المتنافري الميول والعزائم، الذين لم تبلهم حادثة عامة معروفة ومشهودة على خلاف مثالهم مصطفى كمال أتاتورك وأصحابه؟ ألأنه ظهر ان "توسيع نطاق مفهوم الاستقلال بما يفيد حماية الأمن القومي على النطاق العربي وفي اطار الوحدة العربية، لن يستنزف الموارد المصرية القليلة في حروب ومنازعات غير محسوبة وطائشة أدت فيما أدت اليه، الى استعمال سلاح كيميائي في اليمن؟ وإلى اذكاء حرب اهلية عربية "باردة" حضنت حروباً أهلية دامية شقت الطريق الى الانقلابات العسكرية والحزبية، وأنظمتها "الأبدية"؟ أم لأنها أرست "التنمية الاقتصادية المستقلة" على تبديد الفوائض الداخلية الشحيحة في شراء سلع ثقيلة باهظة التكلفة وعسيرة التثمير؟ وتخلف مقالات طارق البشري سياسات الحكومات المتسلطة والقاهرة على مزاعمها خلافة شرعية ومكينة. فينعى على "المواطنين" المفترضين "انشغالهم" ب"قضايا الخلاف الداخلي، قضايا حقوق الانسان ضد استبداد الدولة، وقضايا حركة الفكر ضد الفكر التراثي والديني، قضايا المرأة ضد الرجل". وهو يذهب الى ان "ذلك كله جرى على حساب النطاق المشترك في الإحساس بالخطر لدى المتحاورين والمتخاصمين بالنسبة الى المخاطر الخارجية". وهو يقول، من غير طرفة جفن، "اننا" طوال خمسين سنة "تقريباً" لم "نفكر في مخاطر الخارج علينا وما نحتاج اليه من قوى التماسك الداخلي". وهذا، في أضعف القول، افتئات وغلو وإشاحة نظر. ولعل هذه هي السبب في إيلاء "أخبار الأدب" وكتابها والقائمين عليها، المكانة التي يولونها للمقالات البشرية، والاحتفال بها. فهي نصب من أنصاب متوسط المقالات وعامها وشائعها. وهي مديح مطنب ومسترسل بين يدي النعرات العامية السائدة، ودعوة حارة الى الاسترسال فيه. * كاتب لبناني.