ليس هناك حاجة لأن أقدم أحمد العجمي للقارئ، فهو يمتد على مساحة واسعة من الإبداع الشعري، ويختلف البعض في تقييم تجاربه الجديدة، وأنا بطبيعة الحال ممن يختلفون حولها أيضا، ولكن لا أستطيع في الذهاب مع النص إلا أن أنسى أحمد العجمي، فعندما يقدم لي ديواناً يتحدث عن الحجر، لا أستطيع إلا أن أفكر في أننا ندين كما يقول العلم إلى انفجارات السوبر نوفا التي قذفت كل المعادن من جوفها من أجل أن تقوم بوأد الحياة على هذه الأرض التي نحيا عليها، نعم عندما يخترقنا كل الغرور لنحلق في فضاء نعتقد أننا ننتمي إليه يعود الحجر لينبهنا أننا منه جئنا كما جاء منه التراب وإليه نمضي كما نذوب لنُدغم في غبار الكون العظيم. «لك مذاقات متعددة، مباهج، حين يَمسُّكَ الضوء تهرع إلى ذاتك، تتوهج، ومن نومك الأبدي تستيقظ، لتخبرَنا عن جوهرنا الضائع». كل الخطاب موجه إلى الحجر الذي تنصب عليه كل الصفات الإنسانية، ليكون حالةً معادلةً موضوعياً نحو كينونة الإنسان، فالحجر لا مباهج له مع كونه يحتفظ في التجربة الإنسانية بذلك الطعم الذي نميز بعضه نتيجة لمكوناته التي يحملها، ولكن كيف تكون للحجر مباهج، إنها صفة إنسانية فهو الذي يبتهج وهو الذي يذهب إلى ذاته، الضوء أيضا معادل للحياة، كل الكائنات تبحث عن الضوء؛ لأنه يعني الحياة أيضا، فبدون الشمس وكل الأطياف التي تصدرها من الضوء لما كانت الحياة، ولكن الحياة هي سعي دائب نحو الحرية، حينما يمسك تلك الحرية شيء ما ينطلق الحجر بوصفه جوهراً للوجود وخلاصة للطبيعة، يمكن لاصطدام حجرين أن تتولد شرارات من الضوء، كما أنه من الحجر تنطلق أضواء البراكين التي بدأت الحياة على كوكبنا، فيمكن له أن يشع أو أن تشع بعض أجزائه كما تفعل الأحجار المشعة، إنه إخراج الضوء من ظلمات الحجر حتى يكتشف الإنسان جوهره الضائع بين الكائنات، بين الكذب ونور الحقيقة. «بفعل الماء يتبلل صمتك، تغدو مسترخياً، مخلصاً للنور الذي يتنقل فيك، دون أن تبدو عليك أية رعشة، اضطراب ولو محدود». لم تمتد بنا المعتقدات في الشرق الأدنى كما وصلنا من خلال الحضارات التي قامت في المنطقة ومنها الحضارة الكنعانية التي شملت بلاد الشام وتوطنت في حوض البحر الأبيض المتوسط، تلك الحضارة التي نقلت إلينا ثلاثيتها المقدسة التي كانت تعبر عن الحجر والشجرة والنبع، لذلك ليس غريبا أن نجد تلك الثلاثية حاضرة في فعل الكتابة الشعرية، فمن هنا يُسقط أحمد العجمي الماء وهو يتحرك ليبتل الحجر الذي يبتل صمته بينما ينتقل الضوء باعتبار إمكانية أن ينفذ الضوء من بعض أنواع الأحجار التي تشكل بلورات الكوراتز الكبيرة أو الصغيرة جوهرها، ولكن الاسترخاء هنا يعيدنا إلى فعل الإنسان وهو يذهب في الحرية التي يشكلها النور الذي ينتقل في داخله، لم يبتعد المتصوفة كثيرا حين نظروا إلى الإشراق الداخلي باعتباره نوراً يتجلى فيه الخالق داخل المخلوق، إنه اتحاد الإنسان بإنسانيته التي يمكن أن تبعث كل تلك السكينة المضادة للاضطراب، عندما يكتشف الكائن جوهره في فعل الحرية يذهب نحو نورها بلا مواربة. «على الطريق، أيها البارد، تتوالد، تغني لحياة طويلة، حيث لا مجال لفقد الحواس، ونسيان الأصداء المتعاقبة عليك». نذهب في تقاليدنا الشعبية في الخليج نحو تلك المعتقدات التي تتعلق بالحجر، ففي بعض مناطقنا العربية، يرمي المسافر حجراً على الدرب، منها علامة، ومنها تصور في المعتقدات الشعبية التي تقول إن الإنسان الذي يرمي حجراً على الطريق سيعود إليه حتما، ترى لو كان هذا الحجر إنساناً واقفاً في الطريق يستل أصداء العابرين وهم يتعاقبون على المكان وكلما رمي حجر ضم له صوتاً وصدى، الحجر يرتبط بالمدى الهائل للعمر، كما أشار تميم بن مقبل في مقولته الشهيرة «ليت أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم» ولكن سكون حجر تميم بن مقبل يقابله هذا التفاعل الذي يفرض عند الشاعر أحمد العجمي عدم فقد الحجر لحواسه، فهو مدرك لتاريخ لا يبتعد عن تاريخ المجتمع الذي ترمي عليه الحوادث ثقلها وهو يمتصها وتظل كامنة تخرج كلما انتفض ليتذكر، فلماذا يحضر في ليبيا شيخ المجاهدين عمر المختار ويحضر عبدالناصر وجيفارا، وتصدح في الساحات أغاني شيخ إمام وأشعار أحمد فؤاد نجم؟ إنها تلك الاستعادة الممكنة التي تظل كامنة في الذاكرة الجمعية كأنها حجر ما يلملم كل أصداء التاريخ لتُستعاد لحظاته المضيئة. «سررتَ باندفاعك الأول، من باطن الأرض، من فوهات معتمة، من أجل التجدد، تجربة الهواء، وأصوات الناس». هكذا هي الحركة التي تذهب في ذاكرة جمعية للفراعنة الذين يتصورون فعل العودة إلى الحياة رحلة من الأسفل للأعلى من باطن الأرض من كهوف صنعها الإنسان إلى أدراج تصعد نحو السماء، حتى يكون الميت إلهاً، ولكن الاندفاعة من باطن الأرض لا تحدث إلا لصخور البراكين الذائبة التي تذهب نحو الفضاء، أو لتلك الصخور التي تنبت كأنها الأشجار بفعل ضغط الصفائح وهي تتطاول نحو الضوء كما تفعل جبال الهملايا، إنها تلك الحركة التي تجعل من الاندفاعة ما يذهب بالكائن نحو التجدد، إنها ذات الصخور الذائبة أو الصلبة التي تتحول بفعل حركتها وسكونها لمادة جديدة فيتحول الرمل إلى رخام بالضغط، كذلك هي حياة الكائن البشري في حركات الاندفاعة العامة يتطلع نحو تجربة الهواء الجديد الذي يمثل طعما للحرية المكبوتة في عمق الظلمات، بينما تتحرر بفعل الحراك الاجتماعي العام الذي يتولد في انتفاضات الشعوب وثوراتها التي شهدنا نماذجها في الحراك العربي وثورات مجتمعاته ضد الظلم والطغيان.