ينظم الشعر ليقرأ في أوساط النخبة والمثقفين، أو في أوساط القراء العاديين، لكن القصائد التي تُغنّى، تنقل الشعر قديمه وحديثه الى كل بيت تقريباً، وتسكنه في كل قلب. وفي اسبانيا توحي قصائد كبار الشعراء ألحاناً رائعة يغنيها اربعة فنانين، يسهمون في إحياء التراث الأدبي القومي، وتذكير الآخرين به، فالشعوب التي تهمش تراثها، تلغي جذورها ومقومات وجودها. في اسبانيا لحّن خوان مانويل سيرات وغنى بعض قصائد انطونيو ماتشادو وميغيل هرنانديز، واهتم باكوايباينيز برافائيل البرتي وبابلو نيرودا، ووضع امانثيو برادا موسيقى لقصائد الشاعرة روز الياديل كاسترو، والمتصوف خوان دي لاكروز، اما ميغيل ريوس، فيتعاون حالياً مع صديقه الشاعر الغرناطي لويس غارثيا مونتيرو الذي تجاوزت شهرته اسبانيا، الى أوروبا وأميركا. ويمكن القول ان الفنانين الأربعة ناجحون الى حد بعيد في أعمالهم، وتسجل اشرطتهم الغنائية في لائحة أفضل مبيع، لكن الحقيقة أيضاً، هي ان امانثيو برادا هو أبرزهم، وأشهرهم عالمياً. تشمل اعمال برادا التلحين وغناء قصائد الغزّالين الغاليسيين - البرتغاليين للقرنين الثاني عشر والثالث عشر، قصائد سان خوان دي لاكروز، الشاعرة الغاليسية الرقيقة روز الياديل كاسترو، انطونيو ماتشادو، فيديريكو غارثيا لوركا ومانويل فيثنث، ولم يلحن ويغني لغير الشعراء الاسبان، إلا لطاغور. ويستعين الفنان في بعض مقطوعاته بالمزمار أو الناي. ولد برادا عام 1949 في ديهيسا في مقاطعة ليون في شمال اسبانيا، ودرس علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، حيث بدأت انطلاقته الفنية: في العاصمة الفرنسية درس التأليف الموسيقي والعزف على القيثارة، وتتلمذ على البروفسورين ميشال بويغ وسيلسوس مانسو، وقدم بالاشتراك مع جورج برسنس امسية غنائية في عام 1973، وهذا ما فتح له أبواب الشهرة والنجاح، فعزف في الاذاعة وفي التلفزيون، وفي الكثير من الجامعات الفرنسية، وأتيح له أن يسجل اسطوانته الأولى "حياة وموت"، قبل أن يعود الى وطنه. في اسبانيا، استقر برادا عام 1975 في سيغوفيا، وكرس ذاته للتأليف الموسيقي، وكانت ثمرة أعماله في تلك الفترة: "أغاني حب وزنزانة"، "ليليا دورا"، "نشيد روحاني" "لسان خوان"، وقصائد من ديوان روز الياديل كاسترو "أناشيد غاليسية"، والتي كانت أبياتها مصدر وحي عظيم له، وبخاصة في القصائد التي تصف فيها الحياة الريفية في موطنها والمهرجانات الشعبية الدينية وكآبة الفلاحين المجبرين بدافع من الفقر على أن يهجروا قراهم. انتقل الفنان الى مدريد ليقدم أعماله في المسرح الاسباني عام 1980، ثم قام بجولة فنية شملت الجامعات الرئيسة في الولاياتالمتحدة، وعرفته بالتالي مسارح قصر الموسيقى في برشلونة والبيكولو في ميلانو والأوديون في باريس وفي مدريد. شارك برادا في مهرجانات الخريف عام 1985 التي أقيمت في المسرح الملكي الاسباني، فعزز ذلك مكانته الوطنية والعالمية في بانوراما الفنون الاسبانية، وأجمع النقاد على تقدير موهبته وابداعه وعطائه، وأشاروا الى أن أعماله تتميز بنغمة خاصة، وبقدرة درامية خاصة، وعندما يملأ حضوره خشبة المسرح، ويبدأ العزف والغناء، يأسر السامع بقوة، وينقله الى العالم الذي يحييه بآدائه. لقد قيل الكثير في آثار امانثيو برادا، ومما لا يستوعبه تقديم أول لشخصية الفنان، لكن بعض الآراء مهمة لتعطي القارئ العربي فكرة عن ابداع هذا الفنان الذي يهتم بتراثه القومي الأدبي والموسيقي، إذ انه أحيا الموسيقى التقليدية، واسترجع اصداء الفولكلور وقصائده الشعبية، حتى يظل الاسبانيون على علاقة بالجذور، وحتى يظل تراثهم حياً، لإيمانه بأن الشعوب التي تدير ظهرها لتراثها، تفقد في النهاية ملامح هويتها القومية. وآخر أعمال برادا الفنية، هي "أغاني الروح" التسجيل الجديد للأناشيد الروحانية، وقد أضيفت اليها ثماني قصائد جديدة، وألبوم جديد يضم كل القصائد التي لحنها وغناها لفيديريكو غارثيا لوركا، بدءاً من عام 1986، وهي منتقاة من دواوين عدة أشهرها: "أغنية فارس" و"غزالة الحب اليائس" من ديوان التمارت" الذي عاد من خلاله الشاعر الغرناطي الى الروحانية الغرناطية المسلمة. أما جولاته الفنية الأخيرة، فقد شملت روما واستوكهولم وجنيف وبوينس ايرس ونيويورك ولشبونة وكراكاس وشيكاغو والمكسيك والرباط وكولونيا وبروكسيل.