بات العراق بمثابة مكان لمقتلة أو لمقبرة، ولكن المعضلة الكبيرة أنه لم يصبح كذلك بالنسبة للغزاة، بقدر ما هو للعراقيين الأبرياء انفسهم، الذين باتوا يومياً يذهبون بالعشرات ضحية للقصف الصاروخي العشوائي والعمليات التفجيرية، وتقدر حجم الخسائر البشرية التي تكبدها العراقيون في هذه الحرب المدمرة بحوالى 11 ألف شخص لقوا حتفهم، بالإضافة الى إصابة حوالى 40 ألف شخص بجروح واصابات متفاوتة، في حين ان خسائر الجيش الاميركي بالكاد تجاوزت الألف قتيل، والنسبة بين الطرفين، بكل الأحوال هي 1 الى عشرة. ما يثير الاستهجان في هذه المقتلة ان جيش الاحتلال الاميركي، في محاولته تخفيف خسائره، لا يبدو حريصاً على التمييز بين السكان الآمنيين وبين الجماعات التي تستهدفه، على اختلاف اجندتها، وهو ما يفسر قيامه بردات فعل انتقامية. ولعل اعتبار الولاياتالمتحدة بأن الحل الأمني هو السبيل الأنجع للحفاظ على استقرار ترتيباتها في العراق، يعبر عن اصرارها على الاستمرار بذات الحسابات الخاصة التي اقتحمت فيها الملف العراقي، فضلاً عن انه استعارة فجة لسياسة اسرائيل الوحشية ضد الفلسطينيين. ويمكن تفسير الروح الانتقامية المتفشية لدى جيش الاحتلال الاميركي، ضد العراقيين، باعتبارها بمثابة ردة فعل على المفاجأة غير المتوقعة في العراق، والمتمثلة بحقيقة ان الغالبية العظمى من العراقيين ترتاب بالمقاصد السياسية الاميركية، وتريد التخلص بأقرب وقت من الوجود الاحتلالي الاميركي، وهذا يشمل قطاعات واسعة من الطائفة الشيعية، لا سيما بعد التخلص من نظام صدام حسين. كذلك يمكن اعتبار هذه الروح الانتقامية استمراراً للتقديرات الخائبة التي روج لها المخططون والمنظرون، من تيار "المحافظين الجدد" في الإدارة الاميركية وبعض اعوانهم من العراقيين. لقد اتضح للادارة الاميركية اخيراً، ولكن بثمن كبير عراقي واميركي بان الشعب العراقي، بمختلف اطيافه وتياراته، يرفض استمرار الاحتلال، ويتوق الى امتلاك زمام اموره بنفسه، وان الخلاف بين هذه التيارات انما يدور حول كيفية التخلص من الاحتلال، وشكل النظام السياسي في العراق المقبل. مع كل ذلك فان الورطة ليست ورطة اميركية فحسب، على ما يعتقد البعض. فهي قبل كل شيء ورطة عراقية في اساسها ومآلاتها. وفي النهاية فان الولاياتالمتحدة تقبع على بعد آلاف الكيلومترات من العراق، ومن الشرق الاوسط، وهي التي تستطيع التأثير فيه، بل التنكيل به، من دون ان يؤثر ذلك عليها كثيراً. الواضح ان ثمة عدة اتجاهات عراقية تحاول فرض اجندتها في العراق، لتقرير مستقبله وتحديد شكل نظامه السياسي وهويته وعلاقاته. الاتجاه الاول، وهو مرتبط بالاجندة الاميركية في الشرق الاوسط. وعلى رغم ضعف نفوذ هذا الاتجاه، في المجتمع العراقي، الا انه يستمد قوته من علاقاته الدولية ومن تمتعه بعلاقات متميزة مع الادارة الاميركية ومن الفوضى السائدة في العراق، ومن ضعف تبلور القوى السياسية الوطنية وتشرذم قاعدتها الاجتماعية كما يستمد هذا التيار بعض قوته من ضعف المداخلات العربية في الموضوع العراقي. اما الاتجاه الثاني فيتمثل بأطياف واسعة من القوى السياسية الوطنية. لكن هذا الاتجاه يواجه مشاكل عدة، تحد من قوته وفاعليته، ضمنها اولاً، انه ما زال في مرحلة التبلور بحكم ضعف الحراك السياسي في المجتمع العراقي بالنظر الى الارث الثقيل الذي تركه نظام حكم الحزب الواحد، ثانياً: ان بعض قواه الرئيسية تستمد نفوذها من استنادها الى قاعدة طائفية معينة، ثالثاً: انه ثمة التباس بين مناهضة هذه القوى الاحتلال، وانخراطها في الترتيبات السياسية الناشئة عنه المجلس الوطني ومجلس الحكم مثلاً، رابعاً: ان هذه القوى على رغم اجماعها على مناهضة الاحتلال والتخلص مه بأقرب وقت ممكن، ليست متوافقة على شكل انهاء الاحتلال. ومعروف انه ثمة قوى وشخصيات عراقية، لا جدال في وطنيتها، لا تحبذ خيار المقاومة المسلحة، وتفضل انهاء الاحتلال بالوسائل السياسية. ايضا ثمة اتجاه ثالث يتألف من مزيج من التيار الوطني والقومي والديني، وهو اتجاه غير متبلور، ولا يمكن التعامل معه باعتباره كتلة واحدة، وهو يدعو لمقاومة الاحتلال بوسائل المقاومة المسلحة. طبعا ليس ثمة مشكلة في مقاومة الاحتلال، فهذه المقاومة عادلة ومشروعة طالما بقي الاحتلال وطالما بقيت المقاومة محصورة بالعمل ضده. ولكن مشكلة هذا التيار تكمن، أولا، في انه يرفض الانخراط في العملية السياسية الجارية، كما يرفض اعطاء الفرصة لتبين صدقيتها او لكشف مآربها أمام العراقيين، ثانيا، انه يخوّن التيارات السياسية الأخرى، التي لا تتفق معه في كيفية التخلص من الاحتلال، بدلا من أن يعمل بكل الوسائل لتدعيم شرعيته في وسطها، ثالثا، إمكان الخلط بينه وبين الجماعات الارهابية التي باتت تعمل بفعالية في العراق، ولا شك بأن ذلك يشوش على هذا الاتجاه ويساهم في التشكيك بصدقيته، ويخرجه من دائرة الشرعية، ويضعف من التعاطف الدولي معه، كما انه يمكّن جيش الاحتلال من الاستفراد به، بدعوى مكافحة الارهاب، رابعاً، افتقاد هذا التيار للشرعية والعلنية والاطار السياسي، كي يوضّح نفسه للعراقيين وللعالم كله، هذا فضلا عن افتقاده للوحدة. يبقى الاتجاه الرابع، ويتمثل بالجماعات الاسلامية المتطرفة، التي تمارس الارهاب الأعمى، والتي باتت تعتبر العراق مرتعا لنشاطها واجندتها الاممية، لشن حربها ضد عالم "الكفر" أو ضد الاستكبار العالمي المتمثل بأميركا. وهذا التيار بات يشكل هاجسا مؤرقا ليس للولايات المتحدة فقط، وانما للعراقيين على مختلف أطيافهم وتوجهاتهم، وضمنهم بالطبع تيار المقاومة الوطنية. الثابت ان هذا التيار، الذي "خطف الاسلام"، وأساء لقضايا العرب، ليس معنيا باستقرار العراق ولا بتخليصه من الاحتلال الاميركي، بمقاومة مسلحة أو بغيرها، بقدر ما هو معني باستدراج الولاياتالمتحدة لاشتباك مفتوح ودائم، بغض النظر عن نتائجه، على العراق والمنطقة العربية. وبمعنى آخر فإن هذا التيار معني باستمرار الفوضى في العراق، بدليل عملياته التفجيرية العشوائية، التي تودي بحياة العراقيين أكثر بكثير من الاميركيين، ومن ضمن ذلك العمليات الارهابية بما في ذلك عمليات الخطف والذبح. وإذا كان ثمة مصلحة في عدم تمييز الاحتلال الاميركي، بين المقاومة الوطنية المشروعة، التي تستهدف جيشه ومنشآته تحديداً، والعمليات الارهابية غير المشروعة، التي تودي بحياة عشرات المواطنين من العراقيين الأبرياء في كل مرة، وتدمر مؤسساتهم وممتلكاتهم، فإن القوى الوطنية العراقية، وضمنها قوى المقاومة، معنية بإبراز هذا التمييز، لتوضيح ذاتها، أمام شعبها وأمام العالم، ولسحب الشرعية من يد الولاياتالمتحدة التي تحاول وصم المقاومة بالارهاب، وذلك عبر اعلان البراءة من الجماعات التي ترتكب هذه الاعمال، التي لا تخدم تحرير الوطن، بقدر ما تتوخى نشر الفوضى والانقسام والاضطراب. اضافة الى كل ما تقدم فإن حديثنا عن المقاومة ينبغي ان يتضمن الكثير من الحذر والتفحص، لأن هذه المقاومة بحاجة الى توليد المعطيات التالية، أولا، ايجاد اجماع لدى الشعب العراقي، بأطيافه وتياراته وكتله الكبيرة، على وسائل التحرر من الاحتلال. فالمقاومة المسلحة المعزولة لا تشكل بديلا، بأي حال من الاحوال، عن المقاومة الشعبية الواسعة، بمختلف تعبيراتها ومعانيها السياسة والمدنية، ثانيا، نفض العباءات الطائفية والعشائرية التي تتلبسها المقاومة، عبر الخروج من التوظيفات الأنانية الضيقة وتعميق ارتباطها بالمشروع الوطني المتعلق ببناء عراق ديموقراطي، ثالثا، تمييز ذاتها عن الفوضى وتجنب ما يسيء الى عدالتها وأخلاقيتها، بترشيد شعاراتها واشكال عملها. فالقضايا العادلة والمشروعة والنبيلة، تحتاج ايضا الى وسائل عادلة ومشروعة ونبيلة، في سبيلها، مهما كانت التضحيات. بمعنى ان المقاومة لا ينبغي ان تتماهى مع وحشية المحتل وتتحول وحشا هي الأخرى، لأن انعكاسات ذلك عليها وعلى مجتمعها ستكون جد خطيرة، على المدى الاستراتيجي، رابعا، ان أي مقاومة ينبغي ان تخلق شروطا مواتية لتوليد شرعية سياسية لها، حتى تستطيع استثمار جهدها، في مواجهة المحتل، ما يتطلب منها ايجاد اطاراتها السياسية العلنية وطرح أجندتها السياسية لعراق ما بعد الاحتلال. بالتأكيد ان الوضع خطير جدا بالنسبة للاميركيين، ولكن هؤلاء لا يزيد عددهم عن 150 ألف اميركي. لكن شعب العراق، والمنطقة العربية بأسرها، تتحمل بكل الأحوال المخاطر الناجمة عن الاحتلال وعدم الاستقرار السياسي في العراق.