يتفاقم الاضطراب في العراق رغم المحاولات الأميركية والعراقية الهائلة لوقف تداعياته ودمويته. وفي هذا الوسط تلوح في الأفق غيوم انشقاقات خطيرة عدة بين العراقيين، أهمها التردي الذي قد يفضي الى مواجهات حقيقية تجعل المستقبل محكوما بتفكك الدولة العراقية اولاً، والتمهيد ثانياً لصراعات اقليمية، والحاق ضربة قاضية بكل المحاولات الجارية لتنمية الديموقراطية في الشرق الأوسط ثالثاً. وما يقودنا الى استنتاجات عامة كهذه ان حوادث القتل على الهوية القومية والمذهبية اصبحت حالة شبه مألوفة في العراق. بل ان التجار الأكراد اوقفوا الى حد كبير عمليات تبادلاتهم التجارية مع بقية المناطق العراقية خوفاً من عمليات الخطف والذبح على الهوية القومية. هذا في حين تتواصل الآلة الدعائية الشوفينية بين اوساط عربية في العراق، مشددة على ان المقاتلين الأكراد يشاركون الجنود الأميركيين قمع العرب ومهاجمة المدن العراقية وآخرها مدينة تلعفر في شمال الموصل، وقبل ذلك الفلوجة، ما يحلل للعربي، او للديني الهوى، بحسب تلك الآلة الدعائية السوداء، قتل الكردي كما قتل الأميركي. الى ذلك، بدأ الطلبة الأكراد في جامعات عراقية، في بغداد والموصل والبصرة، بترك مقاعد الدراسة والعودة الى مدنهم للالتحاق بالجامعات الكردية في أربيل والسليمانية ودهوك خوفاً من الملاحقات التي تتخذ طابعاً قومياً في كثير من الحالات. هذا اضافة الى مقتل عشرات الأكراد في شوارع الموصل وكركوك وقيام مجهولين بمهاجمة التجمعات المدنية والعوائل الكردية، خصوصاً في كركوك. اذاً، تعيش العلاقات العربية الكردية، على الاقل داخل العراق، وضعاً مأسوياً رغم ان الظاهر العام للاوضاع يشير الى ان الخطر الداهم يتمثل في الحالة الأمنية السيئة للمدن العراقية. والواقع ان الجانب الكردي يحاول جهده منع أية تداعيات غير محمودة في علاقاته مع العرب في اطار الشراكة الوطنية. كذلك الحال مع المثقفين والليبراليين والديموقراطيين العرب العراقيين الذين حضر قسم منهم أعمال مؤتمر الحوار العربي الكردي في اربيل في الفترة بين 17 الى 20 من الشهر الجاري بغية ابعاد مخاطر الانشقاقات الاهلية. وكانت محاولات الزعيم الكردي مسعود بارزاني الذي اسهم شخصياً في اعمال المؤتمر واضحة في اطار تنقية الاجواء الكردية العربية من شوائب البغضاء والكراهية وانكار الآخر. لكن مع هذا كله، تظل العلاقات تعاني من هشاشة اكيدة في بنيانها. هنا يصح التساؤل عن أسباب ذلك، حيث يرى كثير من المتابعين الأكراد والعراقيين ان السبب الرئيسي يعود الى الاختلاف الظاهر في أولويات الطرفين الكردي والعربي في العراق. فالطرفان يتفقان على اهمية البناء الديموقراطي واعادة تعمير البلد، لكنهما يختلفان في عناصر اساسية اخرى. فالعرب العراقيون يعتقدون ان الخطر الكبير الذي يهدد البلاد هو الارهاب وسوء الحال لامنية، ما يستدعي في رأيهم الاسراع في اعادة العراق الى حالته الطبيعية وتكثيف الجهود من اجل بناء مؤسساته وجيشه وشرطته واجهزته الامنية قبل أي شيء آخر. بيما الأكراد الذي يمتلكون سجلاً هائلاً من التجارب المريرة وحالة اللاثقة بالسلطات العراقية المتعاقبة، يؤكدون ان قضيتهم القومية تشكل محوراً اساسياً من محاور اعادة البناء وتأسيس الديموقراطية، وان الشرط الاساسي لأي محاولة جادة لتحويل العراق الى دولة ديموقراطية جديدة هو حل القضية القومية الكردية. لهذا يمكن لاي مراقب ان يلحظ نفور الطرف الكردي من أي حديث عن تأجيل تحقيق مطلبه او حل المعضلات الكبيرة في موضوعه. الى هذا، هناك موضوع الهوية القومية لمدينة كركوك النفطية واطرافها. فأجزاء واسعة من العراقيين العرب ترى ضرورة تأجيل البت في مسألة كركوك الى مرحلة لاحقة. بينما يشدد الأكراد بمختلف احزابهم واطيافهم السياسية على ضرورة حل هذه المسألة عبر تسهيلات قانونية سريعة لعودة المهجرين الكرد والتركمان الى منازلهم في المدينة، ومن ثم اجراء احصاء سكاني دقيق لتحديد الهوية القومية للمدينة، على ان تجرى الانتخابات العامة العراقية بعد الانتهاء من حل معضلة كركوك وبقية المناطق الكردية التي تعرضت لسياسات التعريب، مثل شيخان وزمار وخانقين وجلولاء. هذا اضافة الى اعادة دمج عدد من الاقضية الكردية بالهيكل الاداري لكركوك. ويشار، هنا، الى ان الحكومة العراقية السابقة كانت قد سلخت اقضية كفري وكلار وطوزخورماتو ومخمور عن كركوك وأربيل بغية تقليل النسبة السكانية الكردية في المحافظتين. مصدر آخر للمشكلات التي بدأت تنخر في العلاقات الكردية العربية، هو موضوع تقاسم الثروة، خصوصاً النفطية . فالأكراد يجادلون بأن نسبتهم السكانية في البلد تقارب 25 في المئة من مجموع السكان. ويجادلون ايضاً بأن نسبة 64 في المئة من النفط العراقي المباع في الاسواق العالمية استخرجت من اراضيهم. لكنهم، في المقابل، لم يحصلوا سوى على 5 في المئة من عمليات التنمية الاقتصادية في العهود السابقة، كما ان السلطات العراقية لم تبن في مناطقهم سوى 6 في المئة من مجموع مصافيها النفطية. استناداً الى هذه المعطيات ومعطيات اقتصادية اخرى، يرى الأكراد ان موازين تقسيم الثروة لم تكن عادلة، بل تحكمت بها معايير التمييز العرقي والانتماءات القومية. اما في الوضع العراقي الجديد، فلا بد من اعادة التوازن الى ميزان الثروة المختل وتقسيمها بشكل عادل وبنصوص قانونية مدوّنة تمنع أي تلاعب بقوت الأكراد مستقبلاً. علاوة على هذا، يرى الأكراد ان حصتهم في حكم العراق يجب ان تُضمن بشكل واضح وان يكون للكردي حق شغل مناصب سيادية حساسة كأي عراقي آخر. هذا بينما الوسط العربي العراقي يؤكد على ان الوضع الجديد لا يسمح بتحديد الحصة الكردية او التشديد على ضرورة تأمينها مستقبلاً، لأن المعيار الأصح هو شغل المناصب وفق معايير غير قومية. وفيما النقاش هكذا، لا يني الأكراد يستذكرون بمرارة لافتة حرمانهم من الوصول الى واحد من المنصبين السياديين في العراق، رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. صحيح ان هذه الخلافات يمكن حلها عبر حوارات سياسية بين المسؤولين الكرد والعرب في العراق. لكن المشكلة ان الوقائع على الارض تخلق انشقاقات يصعب تجاوزها. والانكى سيكون خروج الانشقاقات عن نطاق سيطرة الزعامات السياسية، ما يفتح، من دون شك، الطريق أمام سيول من الدماء، وهو ما لا يبتغيه أحد.