عودة إلى شعر أنطونيو غامونيدا. فتجربتُهُ الشعرية لم نتعرف عليها بعد. إنها من التجارب التي ظلت خفية حتى على الإسبانيين لفترة طويلة. ولذلك فإن المهتمين العرب بالشعر الإسباني الحديث، وحتى من بين المقيمين في مدريد، لم يفطنوا لها. كان ذلك طبيعياً. لقد اختار غامونيدا منطقة قصوى في الكتابة الشعرية والوعي بالكتابة الشعرية. لنقلْ، على الأقل، إنها خارج سياق الشعر الإسباني من حيث الغنائية والرؤية معاً. ديوان "وصف الكذب" يدلنا على هذه المنطقة القصوى. وهذا ما حفزني، مرة تلو مرة، لترجمة مقاطع من دواوين غامونيدا الصادرة في ترجمتها الفرنسية. فتجربة الكتابة والوعي بالكتابة لديه يشيران معاً إلى ما أصبح مرفوضاً في أكثر من خطاب، ومنه الخطاب الشعري العربي. وهُما، إضافة إلى ذلك، يدفعاننا إلى تأمل ما لم نفطن إليه في زمن مضى في خصو مسألة الوعي الشعري كوعي نقدي أساساً يتم عبر اللغة. عمل شعري برؤوس متعددة يصعب اختزالُها. وهو لذلك يمنحنا هذا المتسع الضروري لقراءة وإعادة قراءة ما نعتقده اليومَ منتهى الشعر. من مكان مفاجئ. ربما. من مكان ما لا يقبل الاختزال. وغامونيدا صوت شعري لهذا الزمن، بالمعنى العميق للزمن. عندما نتوقف عند كتابته الشعرية ونشرع في الإنصات نحسُّ بحد سكين أو سواه يشق الجلد ليشق الشرايين. لا مجال للعبارة الشعرية المنسابة، المنعشة بصورتها. ثمةَ ما هو أكيد في الجمالية الشعرية التي يكتبها غامونيدا ويدافع عنها. بل هي تتعارض حتى مع ما يطلق عليه "تيار شعري" يتحمس له الشعراء الإسبانيون الشبان باسم التجريبية. لا يتنازل غامونيدا عن جماليته النقدية الحادة وعن الكتابة في أفُق مفتوح على المؤالفة بين اليومي والجسدي والميتافيزيقي. هذا هو النفَسُ الملحميُّ الذي نقل إليه غامونيدا الغنائية الإسبانية. وذلك ما يجعله متفرداً في زمن شعري إسباني يحقق له في الوقت ذاته صوته الخاص في الحركة الشعرية لعالم اليوم. ولم يتأخر شعراء إسبان شبانٌ في التقاط الإشارة. ولا ريب أن ترجمة شعر أنطونيو غامونيدا إلى الفرنسية أكسبته قيمة مضافة في إسبانيا، بعد أن كان استحق اعترافاً من النقد الإسباني الذي كان منحه الجائزة الوطنية الكبرى للشعر في نهاية الثمانينات، على أثر صدور أعماله الشعرية. وديوان "وصف الكذب"، الذي استغرقت كتابته سنتين 1975 و1976 يتقدم نحونا صوتاً سراديبياً، في أسفل طبقات الورقة التي عليها كتبت يدٌ لا تتنازل عن اختيار الكتابة. قبل ذلك، بعده، أقدم مقطعاً آخر من "وصف الكذب"، اقتراباً من يدٍ كتبتْ لتذكّر بالأفق الحر للشعر وبجماليته النقدية. مقطع من "وصف الكذب" مدةَ لحظة زارني الغسقُ الذي لا أملكُ عمقَهُ. لقد عدتُ. عدتُ إلى هناكَ حيث الآباءُ حذرونَ ومعذَّبُون في عظامهمْ، لكن على نحْوٍ كهذا لم يكنْ هُدنةً ما اشتريتهُ في نجاتكَ من الموتِ. أكرر أنكَ الآن لستَ خنُوعاً وأنك تصاحبني حتّى الفضاء الذي تستمرُّ فيه زهرةُ الأرطينية. أبعدَ، في مخزنِ البيتِ، أسمعُ أنينَ الحمَامِ: إنهُ بلَدُ الزواجِ. هل تعرفُ فضيلةَ الحَمَام في غائطها؟ في ذاك كما في هذا أستقبلكَ وفقط هكذا، وأنا أنظُر إلى نفْسي في وجهكَ، الذي يظهرُ من خلال غشاء غير قابل للفسادِ، لا في الرعب الذي تعلنهُ أسنانكَ حتّى ولو كنتَ من قبلُ تحبني في بطن أمّي. في ذاك كما في هذا أستقبلكَ ورجائي أن أتغذّى من طيبوبتكَ المعْدنيّةِ، لكن أيضاً من العطور التي تجعلكَ تنجو من الموتِ. اجْلِسْ وسطَ الأنقاضِ، اجْلِسْ بتُؤدةٍ وسطَ أو فوقَ حافّة الأنقاضِ. إنها قِناعُنا الوحيدُ وأشْرعُ في التمييز بين بعض البذورِ، في عقارات مسكّنةٍ وبعض أنواعِ التجلّطْ لاختبار الضوءِ. من هنا الولع، من الأمثال اللاحقة على دوْختكَ، من الوحشِ الذي يبكي وعطْفهُ علينَا، يُمكنُكَ أن تستخلصَ الشمعَ وتضعه فوق عينيَّ، أو لربما من سُحالة النّيْكلِ ومن موادّ ممقوتةٍ. مع ذلكَ كنتَ تحبُّ ضخامةَ الأعلامِ في الأزرقِ، تعلو الأقباءَ. هلْ تعرفُ ما النسيانُ؟ ما الذي عثرتَ عليهِ في ما تبقّى من النسيانِ؟ كل التعاليمِ انطفأتْ كالفحْمِ في الأروقة المهجورةِ" كلُّ التعاليم باستثناءِ ذبذبةِ الغابةِ وبعضٍ من آثاركَ على لحْمي. يستمرُّ النهرُ في النزول ولا أشمُّ الآنَ غيرَ رائحة الماءِ. أبناؤكَ وبناتي يسبحُونَ في النهر والذين لم ينسوْا لا يقتربونَ قطُّ لأنهمْ كانوا سيُستقبَلونَ ولربّما كانوا سيدخلون أجسادَنا وسيموتونَ. هلْ فكّرتَ في الصبرِ، هلْ فكّرتَ في الصبر الشبيه بالعقيقِ اليماني، في الصبرِ الذي يحفر قُبوراً في الصوتِ، تاركاً الغسيلَ للرياحِ التي ستأتي يوماً ستأتي بعدَ حملات الطّردِ؟ المدينة ليستْ نظيفةً" في أراضي البلدةِ الغضبُ، الظُّفْرُ والجودرُ يتعايشانِ ثم ينبتُ غذاءُ أطفالنا. لا أملَ لي لكن لوعةٌ لن تقول لي اسْمَهَا. لا أملَ لي لكنْ لوعةٌ لنْ يلمسَ اسمُها شفتيْكَ. اجتزتُ طفولتي، اجتزتُ بلاداً من المورفينِ، غاباتٍ شاسعةً فيها استرحْتُ ثمَّ جناحان مرّا فوق عينيَّ. هناكَ حيثُ أذهبُ عندَ هبوط الليلِ ثمةَ فواكهُ سميكةٌ أقطفها ويداي تشتعلانِ من الحَباحبِ، لكنّي أقطفُ وأتأخّرُ في التوجّه نحو أمكنةٍ أخرى، في مخادع النومِ التي فيها تشيخُ أُمّي خلْفَ شيخوختي. والكلماتُ، حُمّى تحتَ القِرميدِ، جُلطاتٌ تتراجعُ، حقدٌ مجنونٌ أسفلَ قناعِ النّومِ، مَنْ هُمْ، ما الذي يفعلونَ في نفْسي عندما تنطفئُ الحقيقةُ؟ مِن الحقيقة لم يبقَ سوى رائحةٍ كريهةٍ للمُوثّقينَ، شهوانيةٌ بطيئةٌ، دمعةٌ، مباولُ شعيرةُ الخيانةِ. أزهارُ الأرطينيةِ التي نمَتْ في أزمنةٍ أخرى تُزيّنُ القاعةَ العليا منْ جسدي. إذنْ هذا المكانُ، إذنْ ما هذا المكانُ؟ كيف لكَ أنْ تزالَ موجوداً في قلبي؟ رأيت الموتَ مُحاطةً بالأشجار أشجار أكثرَ رشاقةً من نحيب أخَواتِكَ، خلجاتٌ في التماع السكينةِ. رأيتُ ظلاًّ أزرقَ موزّعاً إلى أراضٍ محروثةٍ، تراهُ الحيواناتُ العجوزةُ مثلما هو قلبي، مبعوثاتٌ مرهَقاتٌ من التعبِ" الهروبُ على الفمِ الذي كنتُ أحبّهُ أعلامٌ ضخمةٌ أمامَ مرايا المنتَحِر والأملُ بداخل الفولاذِ. يُعَبّرُ الخريفُ عن نفْسه كالطيور التي لا نراها. ما الذي يمكنكَ فعلُهُ إنْ كانتْ ذاكرتُكَ مليئةً بالنسيانِ، ما الذي يمكنكَ فعلُهُ في بلَدٍ لا ترغبُ في الذهابِ إليهِ؟ يَزِنُونَ أقنعةَ الصفاءِ، يزِنُونَ الغسيلَ فوقَ أشكال الوطنِ. العارُ هو السّلامُ. لكنني سآتي صحبةَ عاري. تعْبُرُ الأجسادُ نحو التعذيبِ وأجسادٌ أخرى خفيفةٌ في أوضاع المضاجعة، لكنّ الحكمةَ ترتفعُ في الأقْداحِ الأعمقِ. ما الذي يمكنُكَ فعْلهُ إنْ كانتْ ذاكرتُكَ مليئةً بالنسيانِ. كلُّ الأشياءِ شفّافةٌ: تتوقّفُ الكتاباتُ والمطرُ يسقطُ في حفرة عيْنيَّ. شاختْ شفاهُنا في الكلمَات غير المفْهومَة.