منذ اختياره خليفة لبوريس يلتسين و"عائلته"، وفلاديمير بوتين، الضابط السابق في جهاز الأمن الخارجي ك. ج. ب فالداخلي ف. س. ب والإداري في بلدية سان بطرسبورغ، يتذرع بحرب الشيشان الى تقوية نفوذه المباشر و"العمودي"، على ما يقول ويردد. ف"الرجل القوي" والغامض حل محل "الجد"، لقب يلتسين فيما بعد، العاجز عن السيطرة على الخلافات المتفشية في حاشيته، وفي الجماعات غير المؤتلفة التي ورثت الامبراطورية الشيوعية والسوفياتية المتآكلة. فبين رؤوس المتحدرين من الجهاز الحزبي والأمني السابق، ومتعهدي ادارة وحدات الانتاج الكبيرة والمستولين على ملكيتها وأرباحها، والأثرياء الجدد، و"القيادات" المحلية، والوجوه السياسية والتقنية الجديدة النازعة الى تمثيل طبقة متوسطة هلامية، فقدت "العائلة"، وفقد مستشاروها المضاربون والمهربون معها، قوتها على التحكيم والموازنة. وكان تجدد الحرب في بلاد الشيشان في أواخر 1999، بعد مفاوضات 1996 - 1997 مع أصلان مسخادوف والاتفاق الموقت والمرحلي الذي علق الحرب، الإيذان بتداعي "الإدارة" اليلتسينية، والذريعة الى دعوة رجل "قوي" الى خلافة الرئيس السابق، وضمان تبرئته من تبعات الفساد والتبديد والمحسوبية التي طبعت سنوات ولايتيه بطابعها. فحرب الشيشان، والحل الذي يترتب عليها، هي القرينة على مصير "الاتحاد الروسي"، أو الفيديرالية الروسية المؤتلفة، منذ دستور 1993، من 89 جمهورية اتحادية ومنطقة أو ولاية محلية. فاستقلال منطقة أو جمهورية استقلالاً ناجزاً، لا سيما في القوقاز، لن يعدم تداعي مناطق وجمهوريات أخرى الى الحذو حذو المنطقة أو الجمهورية المستقلة. وتقع بلاد الشيشان بين داغستان الى الشرق، وهذه تحجز بينها وبين بحر قزوين وحوضه وممره النفطيين، وبين روسيا منطقة ستافروبول وأوسيتيا الشمالية وأنغوشيا، الى الغرب، وجورجيا جنوباً. والمناطق "الاتحادية" هذه كلها تعتمل فيها نزعات استقلالية، على قدر أو آخر، وهي التي يتهددها بوتين وقادة الجيش بشن حربهم الوقائىة على الارهاب على أراضيها. وسبقتها بلاد متاخمة مثل جورجيا بين البحر الأسود والشيشان وأرمينيا وأذربيجان - وكلتاهما الى الجنوب من جورجيا والى الشرق من تركيا - الى الاستقلال، والى منازعة روسيا الاتحادية على حماية استقلالها من النفوذ الروسي. وسعى من وضعوا دستور 1993، وأرسوا البنيان السياسي والدستوري على الفيديرالية، الى التمثيل تمثيلاً محسوساً على طي صفحة المركزية الشيوعية الاستبدادية، والمركزية القيصرية من قبل، من غير الوقوع في شرك الانفصال والفوضى وخسارة بلاد ضمها التوسع القيصري الى روسيا، ادارة وثقافة، قبل قرن ونصف القرن، وينهض على تعاونها مع روسيا شطر كبير من استقرار هذه. فساوى الدستور العتيد، خالِفُ "الدستور" السوفياتي الاستبدادي، بين الديموقراطية وبين اللامركزية، على قول أحد المشاركين في صوغه، على نحو مساواته بين تلك وبين اقتصاد السوق وعلى خلاف "الخطة" الاقتصادية المزعومة وتبديدها الموارد وإشاعتها الندرة. وكانت المفاوضات التي علقت الحرب الأولى، من 1994 - 1996، أقرت مرجعاً مشتركاً بين روسيا والشيشان للاقتصاد والدفاع، ومحكمة عليا روسية ربما، على قول مفاوض يلتسين يومها بوريس بيريزوفسكي، واستقلالاً ذاتياً سياسياً وثقافياً. ونص الاتفاق على أن ينزع سلاح المنظمات الاستقلالية والانفصالية وثمة فرق بين الصنفين، وتنسحب القوات الروسية المسلحة، وتتولى هيئة من بلدان "مجموعة الدول المستقلة" التي كانت سوفياتية قبل استقلالها الاشراف على انفاذ البندين الرئيسين هذين. وإنفاذهما هو شرط تولي روسيا إعمار بلاد الشيشان، وإسهام أوروبا في الإعمار. وأدى إحجام القوات الروسية عن الانسحاب، ومزاودة الجماعات المسلحة الشيشانية الانفصالية، وأمراء حربها وأبرزهم شامل باساييف، أو عبدالله شامل على ما يزعم غداة مقتلة بيسلان، على اعتدال مسخادوف - وهو انتخبه 70 في المئة من ناخبي الشيشان في انتخابات أشرف عليها مجلس التعاون والأمن في أوروبا -، الى بقاء الجمر تحت الرماد. وعلى هذا، تتعدى حال الشيشان الدستورية ومعالجتها مكانة أو ثقل الجمهورية الصغيرة: فهذه تعد مليون نفس ويعد الاتحاد الروسي 130، ومساحتها بضع عشرة ألف كلم مربع وروسيا هي سدس الأرض المعمورة. فبلاد الشيشان، ومحلها من الهيكل الدستوري والسياسي الروسي، تمتحن طاقة روسيا، مجتمعاً وحكماً، على الخروج من دائرة السلطة "العمودية" الى فضاء علاقات تعاقدية وتلقائية. وإجراءات بوتين منذ تسنمه السلطة وخلافته بوريس يلتسين عليها، وخصوصاً منذ 13 أيلول سبتمبر الجاري وإعلانه اجراءاته "الانقلابية" على الدستور والقانون، على ما وصفها رئيس حزب "يابلوكو" الليبرالي، غيريوري يافلينسكي، وغيورغي ساتاروف، أحد مستشاري يلتسين السابقين،وفلاديمير ريزكوف، النائب المستقل - هذه الاجراءات ردة حادة على الخطوات الروسية الأولى والمترددة على طريق "دولة المواطنين". فحكام الجمهوريات والمناطق، ويعدون 89 حاكماً، كا نوا ينتخبون بالاقتراع المباشر، قبل أن تلغي اجراءات 13 أيلول انتخابهم. وكانوا حكماً أعضاء في مجلس الفيديرالية، أو مجلس الشيوخ. وعلى رغم نازع الحكام في عهد الرئيس السابق، "الجد" يلتسين، الى الاستقلال بإراداتهم، والى تغليب الولاءات المحلية والمصادر الشللية على منطق الادارة والدولة، كان انتخابهم على هذا النحو قيداً على السلطات الواسعة وغير المقيدة التي يوكل الدستور الرئيس الاتحادي بها. ولم يكد بوتين "الأول"، أي رئيس الولاية الأولى 2000 - 2004، ينتخب حتى بادر الى تعيين سبعة اداريين من خلصائه "محافظين أعلين"، فوق الحكام التسعة والثمانين. وقضى الرئيس الجديد، في ضوء خواء الإجراء المركزي وضعف نتيجته، بإبطال حاكمية الحكام المنتخبين متى شاء. ولم يلبث أن انتزع منهم مقاعدهم في مجلس الفيديرالية. فولى هذه أعضاء تعينهم "ارادته" الشاهانية أو الخاقانية. وحمل الصحافة المستقلة على السكوت أو الهرب الى المنفى. ويقضي "الاصلاح" الدستوري الأخير، أو الانقلاب على المواطنين الناخبين، بتعيين المجالس النيابية المحلية حكامَ المناطق والجمهوريات بناءً على اقتراح رئيس الدولة. ويلغي هذا فعلاً صفة الحكام التمثيلية والانتخابية، ويقيد البرلمانات الجمهورية والمحلية بمن يحلو للرئيس أن ينزلهم بمظلته أو "باراشوته"، على قول زعيم طرابلسي لبناني على مقاعد الرئاسات والحكومات. وأما الشطر الثاني من الاجراءات الانقلابية فيقضي بانتخاب نواب مجلس الدوما "الأدنى" أو مجلس العموم على خلاف مجلس الشيوخ بحسب مصطلح بريطاني - أميركي بالاقتراع النسبي. وكان القانون الجاري ينص على انتخاب نصف أعضاء المجلس النيابي بالاقتراع النسبي، وينتخب النصف الآخر في الدوائر الفردية. ولجوء رجل الاستخبارات السابق، وعميلها بألمانيا الشرقية السوفياتية، الى الاقتراع النسبي في دائرة واحدة هو حل جذري لمسألة الديموقراطية في مجتمع لم يتألفها بعد. فالاقتراع النسبي حين ينفرد بالتمثيل الانتخابي يؤدي على الدوام الى غلبة الأحزاب الكبيرة على الصغيرة من غير منازعة. واذا لم ينجح حزب كبير ثان في البقاء، وفي موازنة الحزب الأول، وهو "حزب الرئيس" على الأغلب، اقتصرت السياسة على حزب واحد. فيستولي هذا على الرئاسة، والوزارات، والادارات، والبلديات. وحيث لا تتمتع الأنشطة الاقتصادية، أي الملكية الفردية والسوق، بتقاليد قوية وراسخة - وهذه حال روسيا غداة حقبتها السوفياتية المتطاولة - يستولي حزب الرئيس على الموارد والثروات. وطلائع هذا الاستيلاء "العائلي"، على مثال يلتسيني سابق، لم تتأخر في الظهور. ونتائج انتخابات آذار مارس الفائت الرئاسية قرينة على ما يبيته بوتين "الثاني" حين يتكلم على "أحزاب تتمتع بقامة وطنية"، على ما صنع في الثالث عشر من الشهر الجاري. فهو فاز في الانتخابات منذ الدورة الأولى، وجمع نحو ثلثي أصوات المقترعين 71 في المئة، نظير 68 في الانتخابات السابقة. ولما كانت الانتخابات الرئاسية تؤذن بانفراد الرئيس المجدد بمنابر الإعلام، والتعبئة الانتخابية، والرقابة على هيئات الأقلام، أحجم قادة الأحزاب الأخرى عن الترشح. فترشحت إيرينا خاكامادا عن "اتحاد قوى اليمين" منفردة، بمنأى من حزبها ومن حليفه "يابلوكو". ورشح الحزب الشيوعي، وهو القوة السياسية المتينة الوحيدة نظير "روسياالمتحدة"، حزب الرئيس، خاريتونوف. و"مُنح" هذا ست دقائق لحملته الانتخابية التلفزيونية، عداً ونقداً. وعلى رغم الإجحاف الصارخ اقترع له 5،9 ملايين من ناخبي الاتحاد 7،13 في المئة. وجمع سيرغي غلازيف، من حزب "الوحدة" 1،4 في المئة، وأوليغ ماليشكين، من حزب جيرينوفسكي القومي، 2 في المئة. وبلغت نسبة الذين اقترعوا لبوتين "الثاني" 71 في المئة من ال64 في المئة من الناخبين المقترعين. وعلى هذا، اقترع نحو 30 في المئة لغير الرئيس المستولي على 90 في المئة من السلطة. فإذا جُمع الى هؤلاء ال36 في المئة المستنكفون عن الاقتراع، بدا ان الرئيس إنما يحكم "عمودياً"، وحده هو وبطانته البطرسبرغية، نيابة عن نحو أربعين في المئة من السكان. وهذا ما يتوسل "القيصر فلاديمير"، على ما يسمى الرئيس المستخلف والمجدد، بالانتخاب النسبي الى التستر عليه. ف"الأحزاب الوطنية" يختصرها، عاجلاً وليس آجلاً، حزب واحد، موحد ومتحد، يقترع اقتراع رجل واحد لزعيم أو "ريّس" أوحد. ومن بدائه الأمور ان السلطة التي يسعها بلوغ هذا المبلغ من الوحدة لن ترضى بأن تبث الفرقة والشقاق في صفوف رعيتها جماعات قومية ترفض الاندماج، وتأبى تعيين حكامها واقتراع الكثرة القومية الغالبة والروس اليوم، 85 في المئة من سكان الاتحاد الروسي ودولته، وهي نسبة غير مسبوقة منذ قرن ونصف القرن محل أفرادها وعوضاً عنهم، على ما يترتب على الانتخاب النسبي القومي. والشيشان، والقوقازيون عموماً، يتربعون في رأس هذه الجماعات. ولا يقتصر نشاط هذه الجماعات على "المسألة الوطنية"، على ما كان يرطن "السوفيات" الى يوم قريب. فمواطنو عموم الروسيا الاتحادية من الأقوام غير الروس، ومن منابت قوقازية وآسيوية وسطى، يستثمرون خاصيات اجتماعية وثقافية قومية مثل العصبية العائلية والمغامرة، وفي أحيان كثيرة ازدراء القانون على شاكلة معظم مواطنيهم، في الأعمال التجارية والمصرفية والصناعية الحرة. فيرتقون مراتب عالية ومجزية في الشركات النفطية والمعدنية الألومنيوم، ويتربعون على رأس مصارف وبورصات ومحال تحويل العملات، الى اسواق الجملة والألبسة والأغذية وشبكات التوزيع ومخازنه الكبيرة. وليس أيسر من استجماع كثرة من الروس القوميين، أيتام امبراطورية متصدعة لم تفق بعد من زوال عزها ومجدها وتعزو زوالهما الى "مؤامرة" يضلع فيها اليهود والمسلمون والصحافة وأصحاب الشركات النفطية الكبيرة والغرب الكاثوليكي والبروتستانتي، ليس أيسر من استجماع كثرة هذه حالها على "أعداء" يتميزون بسحنة لا يخطئها نظر الشبان البطالين والرعاع على ما جرى بموسكو في ليل 18 الى 19 أيلول الجاري. وورثت الدولة الروسية من سلفها الشيوعي "العظيم" هرم أعمار تنزع قمته، وفيها الفئات المسنة، الى الانفلاش. ويترتب على هذا تعاظم عدد المسنين، وهم من موظفي "الدولة" السوفياتية. ويتقاضى هؤلاء رواتب هزيلة، الى عوائد اجتماعية عينية تقيهم المجاعة. وتتهدد اجراءات بوتين "الاقتصادية" المنافع العينية، وتريد تحويلها الى شطر من الرواتب النقدية من اليسير على التضخم وسوق القطع أكله. ويؤدي هذا، فيما يؤدي اليه، الى اضعاف الملاكات الادارية والفنية، والملاكات الأمنية جزء منها. وفي العمليات الارهابية التي نظمها باساييف وأصحابه في السنتين الأخيرتين، وآخرها مقتلة الأولاد 171 ولداً من 339 ضحية - وندد بها مسخادوف من غير استثناء ولم يعذرها، على خلاف ياسر عرفات - ظهر ضعف الأجهزة الأمنية من غير لبس. وتشتري الجماعات الإرهابية "حقوق" المرور والتسلل من قوات أمن وشرطة وحرس حدود وجنود وضباط لا يبالون بما يفعلون، ولا يردهم أو يمسكهم وازع. فهم يفتقرون الى الكرامة والاعتداد بالنفس، والى التدريب والعناية الغذائية والصحية والانضباط. وتوفر هذه تكلفته المادية باهظة، ولا تستقيم مصادره المعنوية الازدراء الذي يكنه "الرجل القوي" لمواطنين يحملهم على رعية. وسياسة بوتين، في أطوارها المتوالية، لا تخرج عن هذا السمت. * كاتب لبناني.