تتجاوز أهمية المؤتمر السنوي الثاني للحزب الوطني الحاكم الذي يبدأ أعماله غداً في فكر قادته مطالب المعارضة المتكررة بالإصلاح السياسي إلى إيلاء جُل الاهتمام للإصلاح الإقتصادي والإجتماعي، وايجاد الأرضية الملائمة لصوغ سياسات اقتصادية مغايرة تكرس مفهوم "الفكر الجديد" الذي يقوده جيل الشباب بزعامة جمال مبارك بما يمكن معه القول إن مصر على أعتاب مرحلة مختلفة عن كل الحقب التي مرت بها منذ ثورة تموز يوليو العام 2195. ولا يعني الاهتمام بالملفين الاقتصادي والاجتماعي الإهمال الكامل للإصلاح السياسي، ولكنه يؤشر الى أن الأفكار التي سيترجمها المؤتمر خطوات عملية في شأن الملف الآخر لن تكون هدفاً في حد ذاته قدر ما ستعكس مفهوم قادة الجيل الجديد لما يحتاجه تطوير الواقع الاقتصادي من جرعات سياسية ملائمة تجعل من توسيع الهامش الديموقراطي وسيلة تسهم في منح مصر قدرات لجذب مزيد من الاستثمارات في المرحلة المقبلة. وفي الوقت ذاته لا تتيح تطوراً ديموقراطياً دراماتيكياً ربما يؤدي الى قلب الأوضاع رأساً على عقب ويهدد مسيرة الاصلاح الاقتصادي كما يرى قادة عديدون في الدولة. فالفارق الجوهري بين المعارضة والحزب الحاكم يتحدد بالأولوية التي يوليها كل طرف للآخر. ففي حين ترى أحزاب المعارضة أن الإصلاح السياسي بما يمثله من شفافية واطلاق حرية التعبير عن الرأي في كل المجالات هو الاساس الملائم والقاعدة المناسبة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية، وذلك بمنح الناخبين حرية حقيقية في الانحياز والاختيار ربما يمثل دعماً شعبياً للقرار السياسي، يرى قادة الحزب الحاكم أن إصلاح الخلل الاقتصادي الحاصل والخروج من الازمات المجتمعية التي تشهدها البلاد له الاهتمام الاكبر لتصحيح الاوضاع المعيشية للمواطنين على أن يتواكب مع ذلك خطوات متدرجة في الاصلاح السياسي، فلا يمكن منح الافضلية المطلقة لحريات التعبير في مجتمع تعاني غالبيته من عجز القدرة على تلبية متطلبات الحياة الاساسية. والفكرة الاساسية المطروحة على المؤتمر السنوي الثاني للحزب الحاكم يتمثل جوهرها في كيفية تبني تدابير قانونية واجرائية تتيح ضخ المزيد من الاستثمارات الخاصة الى شرايين الاقتصاد بما يسمح بتمددها وتوفير فرص عمل جديدة وتحريك الركود في الاسواق وتنشيط المدخرات المتراكمة في المصارف وتواجه الازمات الاجتماعية المنتظرة مستقبلاً إذا ما استمرت السياسات التقليدية المطبقة منذ مطلع حقبة التسعينات. وبحسب المؤشرات الرسمية سيصل عدد سكان مصر سنة 2017 الى 97 مليون نسمة بزيادة 27 مليوناً عن الرقم الحالي، وهي طفرة سكانية غير مسبوقة تقابلها زيادة غير محسوسة في الرقعة الزراعية تصل أحياناً الى حد التراجع عن القائم، ونمو اقتصادي محدود تستوعب الزيادة السكانية كل نتائجه، واقتصاد دخل مرحلة "الجمود" وعدم القدرة على التمدد أو الانطلاق، وقصور في الاداء المصرفي يمنع امكان توظيف المدخرات، وخلل المفهوم الحكومي للدور الرسمي المطلوب في صوغ معادلة التوازن في المجتمع، وتفشي فساد إداري ومالي، وانتشار للمحسوبية وتنامي لنفوذ المسؤولين وابنائهم في الحصول على الامتيازات والمنح. ويرصد قادة الجيل الجديد في الحزب الحاكم خطورة المستقبل مع استمرار الأساليب التقليدية في إدارة شؤون الاقتصاد المصري وهو ما عبّر عنه جمال مبارك في مؤتمر صحافي بالحديث عن خطورة عدم تناسب الزيادة السكانية مع حجم الأراضي الزراعية القابلة للتناقص في ظل أزمة الأراضي الملائمة للبناء ولجوء المواطنين الى البناء على الأراضي الزراعية. مما سيؤدي إما الى استمرار تناقص الارض الزراعية وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الغذائية، أو الى ندرة أراضي البناء وما يمثله ذلك من ارتفاع مضطرد في اسعار المساكن التي تمثل واحدة من الازمات المزمنة في البلاد. من هنا يطرح المؤتمر السنوي للحزب الوطني حزمة من السياسات الجديدة والمترابطة في آن ويجمعها ملمح اساسي يتمثل في ما يمكن تسميته خصخصة قطاع الخدمات الذي يئن من أزمات عميقة، وباتت الدولة عاجزة عن ضخ استثمارات جديدة له لملاحقة الاحتياجات المتزايدة في التعليم بعدما فاق عدد تلاميذ المدارس 17 مليوناً، وفي الصحة حيث تجمدت مخصصات الموازنة العامة للدولة في تمويل هذا القطاع الحيوي، وفي النقل حيث تعجز الدولة عن الوفاء بمتطلبات نقل الركاب او البضائع وغيرها من الخدمات الضرورية والحيوية في البنية الاساسية بأقسامها المختلفة. ويمكن رصد التوجه الجديد في تصريحات امين السياسات في الحزب الوطني السيد جمال مبارك في شأن أجندة المؤتمر والوثائق المعروضة عليها تحت عنوان أولويات الإصلاح حيث اعطى أولوية للحديث عن تقرير الحفاظ على الاراضي الزراعية والتعاطي مع موضوع التوسع العمراني. وأعقبه بورقة قطاع النقل للركاب والبضائع والأساليب الجديدة في تمويل مشروعاته التي تحتاج الى استثمارات ضخمة ودور القطاع الخاص في هذا الصدد. ثم الاتجاه الى اللامركزية في التعليم وطرح خمسة محاور تمثل سياسات جديدة في ضوء الامكانات المتاحة وتوفير المطلوب مستقبلاً، واخيراً الصحة واعادة هيكلة اهم قطاعاتها وهي التأمين الصحي التي يتعامل معها الملايين في مصر بهدف تطوير اساليب تمويلها. وعلى الجانب الاقتصادي بدا احساس الحزب بالمشكلات المجتمعية متمثلاً في منح الاولوية لورقة مكافحة الفقر والنهوض بأوضاع محدودي الدخل وضمان دور رقابي فاعل ومؤثر على الاسواق من خلال بلورة رؤية لحماية المنافسة ومكافحة الاحتكار. وفي المقابل سيبحث المؤتمر في كيفية ادارة الاصول المملوكة للدولة، والتوجه نحو توسيع قاعدة الملكية وتطوير سياسة الافصاح وتداول المعلومات واصلاح القطاع المالي واعادة هيكلته، واعادة النظر في هيكل البنوك العامة المملوكة للدولة والمشتركة مع القطاع الخاص، ولتحقيق التوازن في المعادلة ستتوجه المناقشات الى بحث وسائل الاصلاح الضرائبي والجمركي لتطوير التعامل مع البيروقراطية والفساد الاداري، مع النظر في امكان اصدار تشريع جديد للضرائب. وإذا كانت ضخامة الاجندة الاقتصادية المطروحة على المؤتمر تمثل مؤشراً فعلياً على احساس الحزب الحاكم بخطورة الاوضاع الاقتصادية ومستقبلياتها وانعكاساتها على المجتمع المصري، فإنها في الوقت ذاته أتاحت المجال لفهم الاتجاه ناحية التوسع في سياسات الخصخصة واتاحة الفرصة للمستثمرين للدخول الى قطاع الخدمات بصورة أوسع وأشمل مما كانت قائمة باعتبار ذلك من أقرب الوسائل المتاحة لجذب المزيد من الاستثمارات. وأيضاً لإعادة تهذيب الرأسمالية المصرية التي توحشت في عقد التسعينات واعتمد الكثير من افرادها الاساليب السهلة في مراكمة الثروة في ظل غياب قوانين وآليات تضمن تحقيق الالتزام الاجتماعي. ولا يقف الفهم الجديد للمرحلة المقبلة عند هذه الحدود بل يتجاوزهما الى فهم مختلف لدور الدولة لا يقوم على مفهوم الجباية من المستثمرين وأصحاب المشروعات لتوفير الاحتياجات المالية للدولة أو توفير الخدمات الاساسية من تعليم وصحة ومرافق لغير القادرين لضمان الامن الاجتماعي السياسي للبلاد، وانما يقوم بحسب اوراق الحزب المطروحة على المؤتمر وفقاً لفكرة الدولة الحديثة المسؤولة عن التخطيط العام وتهيئة المناخ المطلوب لجذب الاستثمارات من النواحي القانونية أو السياسية مع استمرار الدور الاجتماعي، ولكن في حدود ما يمكن للدولة القيام به لحماية التوازن والحفاظ عليه بدلاً من توفير كل الاحتياجات الخدمية من دون مقابل. واذا كانت الرؤى الاقتصادية الجديدة المطروحة على المؤتمر واضحة في اذهان الجيل الجديد فإن التحدي الحقيقي الذي يواجهه الحزب الحاكم يتمثل في جمود واضح لدى قادته المصممين على مواصلة منهج الجرعات الديموقراطية المتدرجة البطيئة التي باتت مرفوضة من المعارضة، وتمثل لدى قطاعات واسعة من الرأي العام المهتم بقضايا الحريات أحد أسباب الإحباط الرئيسية وعدم الثقة بجدية أطروحات الحزب وقدرته على تفعيلها وتطبيقها بصورة حقيقية، بل باتت قطاعات عريضة مؤمنة بمقولة "كلام جرايد" والتي تشير الى ترديدات جوفاء لتصريحات مسؤولين بهدف استيعاب الرأي العام. الاصلاح السياسي التسريبات عن مفاهيم الاصلاح السياسي المطروحة عن المؤتمر وتصريحات مسؤولي الحزب في هذا الشأن تؤشر الى غياب رؤية متكاملة تحدد آفاقاً جديدة وأهدافاً عامة مطلوب بلوغها وبرنامجاً زمنياً وآليات لتحقيق هذه الغايات تربط بين القائم والمستهدف وتحدد الصلة بين الرؤى الاقتصادية والسياسية. وتمثل اعلاناً واضحاً للرأي العام بدخول مرحلة سياسية جديدة تتماشى وتتلازم مع الفكر الاقتصادي المطروح. والاصلاح السياسي المطروح على المؤتمر يتحدد في تعديل بعض القوانين منها قانون الاحزاب لإتاحة الفرصة لحصول الاحزاب على تمويل حكومي واعفاء اصداراتها الصحافية من الضرائب في حال حصولها على عدد من المقاعد سيصبح أقل من المنصوص عليه في التشريع المالي. كما يتضمن توسيع عضوية لجنة شؤون الاحزاب بضم شخصيات عامة لها ومندوبين للاحزاب ذات التمثيل البرلماني، اضافة الى إلغاء بعض النصوص التي أقرها الرئيس السابق أنور السادات وارتبطت بانجازات كان يعتبرها ذات صلة بعهده، واخيراً الاتجاه الى الغاء شرط تمايز برامج الاحزاب الجديدة عن القائمة والتي كانت تمثل احدى ركائز رفض تأسيس أحزاب جديدة. أما قانون مجلس الشعب والحقوق السياسية فستقتصر التعديلات على تصحيح نصوص تمنع تكرار ازمتي نواب التجنيد والجنسية المزدوجة، وتشكيل لجنة عليا للانتخابات ذات صلاحيات تنسيقية مع الاجهزة الحكومية المسؤولة عن ادارة الانتخابات والقضاء المسؤول على الاشراف على عملية الاقتراع والفرز وإعلان النتائج فقط. وفي ما يتعلق بقانون النقابات المهنية، فالواضح ان ازمة حقيقية تنتظر الحزب الحاكم لرفض قادة التنظيمات النقابية الافكار المطروحة على خلفية عدم ادخال تعديلات على جوهر الافكار التي أعاقت العمل النقابي منذ صدور القانون الحالي عام 1993. وتمثل تلك الافكار مجرد تعديلات جزئية وليست جذرية على التشريعات ذات الصلة بالإصلاح السياسي، فهي لا تقترب من جوهر التغيير المطلوب لإحداث انقلاب في الحياة الديموقراطية المصرية يتيح إقرار مبدأ تداول السلطة عبر صناديق الانتخابات، ويفصل بين الحزب الحاكم وبين اجهزة الدولة ليجعلها في خدمة الجميع من دون استفادة طرف واحد من إمكاناتها الجبارة في الانتخابات. ويقر تعديل الدستور لإتاحة الفرصة لمنافسة ديموقراطية على منصب الرئيس ونائبه ويحدد مدة الرئاسة لينهي احتكار حزب واحد للسلطة. الأفكار الاصلاحية المطروحة من الجيل الجديد تمثل امتداداً لما كان قائماً في العهود السابقة من عدم الايمان بدور الديموقراطية في دفع مسيرة الاصلاح الاقتصادي وضمان نجاحها، وتوفير المناخ الآمن لجذب مستثمرين للعمل في بلد تؤسس فيه المنافسة على قاعدة من الشفافية وليست المحسوبية والرشوة، وفوق كل ذلك ايجاد المناخ الملائم لإقناع المواطنين بجدوى مشاركتهم السياسية في تغيير الحكومات الفاشلة واختيار من يعتقد الرأي العام في صلاحيته كأساس للثقة والمشاركة في عمليات الانتاج والتنمية. والتحدي الحقيقي الذي يواجهه الحزب الحاكم يتمثل في مدى ملاءمة محدودية افكار الاصلاح السياسي مع الطفرة المطلوبة في مسيرة الاصلاح الاقتصادي، واذا كان قادة الجيل الجديد يؤمنون بعدم جدوى الديموقراطية والحرية في مجتمع جائع فهل سينجح المؤتمر في تعميد قاعدة جديدة تتيح اقرار افكار اقتصادية جديدة ذات تداعيات اجتماعية حادة مع استمرار شبق المجتمع للديموقراطية؟ وهل سيتمكن الحزب من معالجة مواطن الخلل القديمة خصوصاً في الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية في ظل شفافية منقوصة وحريات ستظل بعد المؤتمر محدودة؟ أم ستستمر المسيرة المصرية وفقاً لمبدأ "الثنائية" القائم على غلظة القوانين والتسامح في مناخ الممارسة على قاعدة "توازن الضعف" بين الحزب الحاكم واحزاب المعارضة والتي اسفرت إضعاف دور الرأي العام في القرار وجعلت من المستثمرين ورجال المال والاعمال اصحاب الصوت الاعلى في صوغ القرار وتحديد مستقبلياته؟ * من أسرة "الحياة" في القاهرة.