الجدل الدائر اليوم بكثافة خارج العراق، حول مستقبل هذا البلد العربي الكثيرة محنه في التاريخ القديم والحديث، يفوق ويعلو، بحدته وبصخبه المثيرين للدهشة، ذلك الجدل الطبيعي الدائر داخل العراق بين قواه الحية حول مستقبل هذا البلد العربي. والملفت للنظر ان هذه المفارقة لا تثير اي استغراب او اي تساؤل عند بعض الاشقاء العرب، في السلطات القائمة وردائفها، وفي بعض قوى الاعتراض على تلك السلطات. بل هم يعتبرون، من موقع"الحريص"على القضية القومية وعلى المصالح العامة للأمة، ان بالامكان ان يرى القومي من بعيد ما لا يراه ابن البلد، الذي تشده همومه ومصالحه المحلية الى حاضره، فتحجب الشجرة التي تظلله الغابة بكاملها! وقد بات معروفاً ان الشعب الفلسطيني قد دفع الثمن الباهظ لمثل هذا المنطق"القومي"العدمي، على امتداد تاريخ مأساته الطويل الذي يتجاوز نصف قرن ونيف من الزمن. مشكلة هذا النفر من الاشقاء العرب، اشقاء العراق وأشقاء فلسطين وأشقاء لبنان وأشقاء السودان - البلدان والشعوب العربية المنكوبة الممتحنة من داخلها ومن خارجها، والممتحن بعضها من الجوار العربي الشقيق - انهم، في منطق تعاملهم مع القضايا الساخنة في كل بلد عربي باسم القومية وباسم مصالح الامة، قد اضعفوا ابصارهم، وحتى بصائرهم في بعض الاحيان. فاختلط الامر عندهم. فلم يعودوا يفرقون بين الشجرة وبين الغابة، اي بين الاساسي والثانوي من القضايا. وغرقوا بالعام المبهم والمتخيل من القضايا. وأهملوا الملموس والخاص والمحدد من هذه القضايا. وهذا ما حصل في كل التاريخ السابق في بلداننا، الذي قادنا فيه هذا الاختلاط في الاشياء، وهذا الاضطراب في المفاهيم وفي الرؤى، الى ما نحن عليه اليوم، في اسفل درك، متنقلين بين ثنائيين: الاستبداد احياناً والاحتلال احياناً، وفي ما بينهما، مسمرين في مكان ناءٍ خارج حركة التقدم، وخارج التاريخ. والواقع فإن ثمة مشكلة حقيقية لا يزال الوعي بها غائباً عن الكثرة من النخب السياسية والثقافية، وعن اهل السلطات جميعها في بلداننا. وتتمثل هذه المشكلة في ان النكبات والنكسات والهزائم التي عرفتها وعانت منها بلداننا وشعوبنا لم تعلمهم بعد ان كل شعب باطلاق - شقيقاً كان أم صديقاً أم سوى ذلك - هو صاحب قضيته، وهو وحده دون سواه المعني بتقرير مصيره، وان كل دعم يأتي اليه من القريب او من البعيد هو دعم لخياره هو وليس بديلاً منه. ان حق الشعوب في تقرير مصيرها هو الحق المقدس الذي يفوق كل اعتبار. بل هو القانون الذي لا قانون يعلو عليه. لكنه قانون مشروط بالديموقراطية، اي بحرية الاختيار، وبالارادة الواعية والمسؤولة للشعب المعني ولممثليه. وعلى رغم انني لم اعد احب الاستشهادات بأحداث تاريخية وبأقوال لكبار المفكرين الثوريين، فإنني اراني هنا مدفوعاً الى الاستشهاد بموقف عبقري للينين في الربع الاول من القرن الماضي، حول المسألة البولونية. فهو، اذ رأى اختلافاً في الموقف بين الحركة الثورية البولونية، الاشتراكية الطابع والتوجيه والبرنامج، وبين ما كان يعتبر المصالح العامة للاشتراكية، قرر، من دون تردد، من موقع مسؤوليته الأممية، ان الاولوية في مثل هذه الحالات هي لما يراه الثوريون - البولونيون - حتى ولو كانوا، من وجهة نظر المصالح العامة للاشتراكية، على خطأ. فليس من حق الأممية، وفق منطق لينين هنا، ان تفرض وجهة نظرها على اصحاب القضية في بلدهم. بل ان عليها ان تكتفي بإعلان الموقف الذي تراه صحيحاً، من وجهة نظر المصلحة العامة للاشتراكية، وان تدافع عن هذا الموقف نظرياً، وان تترك لأصحاب القضية ان يقرروا بأنفسهم ما يعتبرونه، من وجهة نظرهم، مصلحة الاشتراكية في بلدهم ومصلحة الاشتراكية بعامة، وان يتحملوا نتائج الصواب والخطأ للقرار الذي يتخذونه. ان هذا المنطق، بشقيه الجدلي والشكلي، هو الذي يدفعني الى تجاوز هذا الضجيج الصاخب بين ضفتي الخليج والمحيط، حول العراق، والاعلان، من دون تردد، بأن مستقبل العراق إنما يقرره العراقيون انفسهم. وهي مسألة اساسية بات علينا جميعنا، نحن العرب، من مواقعنا الفكرية والسياسية المختلفة، وبكل الاسماء التي تحملها افكارنا وسياساتنا، ان نقر بها كمبدأ، حين نحاول ان نقرأ ما يجري في العراق اليوم من احداث وتطورات دراماتيكية. وفي اعتقادي فقد حان الوقت لكي ندخل في الزمن الحقيقي الذي يحترم فيه للشعوب، شعوبنا والشعوب الاخرى التي مثلنا، حقها في تقرير مصيرها، وتحديد مستقبلها بنفسها بحرية كاملة، ومن دون تدخل خارجي من اي نوع، وتحت اية ذريعة، وباسم اية قضية. كما حان الوقت لكي تصبح الديموقراطية التعددية المنطلق الاساس في تحديد الخيارات السياسية التي تتجمع وتنتظم تحتها الكتل البشرية في كل بلد، بحرية كاملة وبوعي يتحقق ويتقدم بالتجربة وبالتراكم، الخيارات ذات الصلة بمشاريع التغيير التي تحدد مضامينها، وآليات العمل لتحقيقها، الشروط التاريخية لكل بلد، الموضوعي منها والذاتي مجتمعين. لقد وقع العراق، هذا البلد العربي الكبير ذو التاريخ العريق، في محنتين متتاليتين خلال العقود الاربعة الماضية: المحنة الاولى هي محنة الاستبداد الذي استمر اربعين عاماً واستمد اصوله وأشكال ممارساته من ترسانة الطغيان في العصور القديمة والحديثة، والمحنة الثانية هي محنة الاحتلال الاميركي البريطاني التي لا تزال جاثمة بكل ثقلها على حياة الشعب العراقي المعذب. واذا كان الشعب العراقي قد عجز، وعجزت قواه الديموقراطية كلها، خلال ذلك التاريخ الطويل، من تحرير بلده من نظام الطغيان الذي دمر روحه وعطل عناصر التقدم في بلده، فانه، اي الشعب العراقي، ظل وحيداً في معاناته تلك. اذ لم يقف الى جانبه، في اية صيغة من الصيغ المختلة، لا اشقاؤه الاقربون والابعدون، ولا اصدقاؤه الاقربون والابعدون كذلك. لكنه حين دخل في المحنة الثانية وفي معاناته فيها، التي تتمثل بالاحتلال الاجنبي لبلده، الاحتلال الذي اسقط نظام الطاغية، وكان هذا النظام هو السبب الحقيقي في حصول ذلك الاحتلال،"اصطدم"بكثرة المعادين للامبريالية المتطوعين لدعمه في مواجهة العدوان الامبريالي. وجاء هذا الدعم من جهات واتجاهات مختلفة، كل جهة وكل اتجاه منها حمل معه، في صيغة مساندة الشعب العراقي، اهدافه الخاصة، وشعاراته، واشكالاً لم يمارسها اي من هؤلاء الداعمين في حل المشكلات الصعبة التي تعاني منها بلاده. وكان من بين هؤلاء من وقفوا الى جانب الطاغية عندما كان في الحكم، ويقفون اليوم للدفاع عنه وعن نظامه الذي سقط، وذلك باسم العداء للامبريالية! وواضح من النتائج المرئية ان هذا النوع من الدعم، بأشكاله المختلفة السياسية منها والعسكرية، قد ادى الى عكس ما عبرت عنه الشعارات المعنلة. لقد ادى هذا النمط من التدخل الخارجي، وطرائقه في مواجهة الاحتلال، الى اغراق هذا البلد في حرب عبثية، ذهب ويذهب ضحيتها العراقيون انفسهم، وكادت تودي بأحلامهم وآمالهم في التحرر من الاحتلال الاجنبي ومن آثار نظام الاستبداد وبقاياه. ولا اتحدث هنا عن القوى المتوحشة التي تقتل العراقيين وتخطف الاجانب وتبتز مرجعياتهم ثم تذبحهم من الوريد الى الوريد، وتغتال ممثلي القوى الحية التي تتصدى لممارسة دورها الصعب في قيادة البلد في هذا الظرف العصيب، وتدمر المؤسسات العامة، كل ذلك باسم الاسلام او باسم معاداة الامبريالية! وهي قوى هجينة همجية عدمية تدل عليها اعمالها في العراق وفي خارج العراق. وازداد، من الناحية العملية، بفعل هذا الدعم - التدخل، دور قوى الاحتلال. وتراجع، او كاد، الدور المفترض للقوى العراقية وللمؤسسات العامة الناشئة، المدنية منها والعسكرية، القوى الحاملة في برامجها المهمات المرتبطة بالمرحلة الانتقالية، المهمات التي تصب في تحرير البلاد من الاحتلال وتصفية الآثار التي خلفها الاستبداد في البلاد، وذلك من اجل ايصال العراق الى مستقبل ديموقراطي جديد طالما حلم العراقيون عبر العصور باقتحام اسواره والدخول فيه من الابواب الواسعة. وهي مهمات مترابطة في ما بينها، في هذه المرحلة الصعبة البالغة التعقيد والطويلة المدى، المليئة بالالتباسات، كواقع لا يخفى على احد، ولا يمكن تجاهله، ولا سبيل عملياً للقفز فوقه وتجاوزه في التحليل السياسي والاجتماعي للواقع الراهن وفي تحديد طبيعة المرحلة. ان القوى الخارجية التي تتدخل في الوضع العراقي اليوم هي، مع امتداداتها الداخلية، السياسية والامنية والعسكرية، قوى متعددة مختلفة في طبيعة كل منها عن الأخرى. لكنها على رغم الاختلافات في ما بينها في اهدافها المعلنة والمضمرة، وفي اشكال ممارساتها، تلتقي، في نهاية المطاف، عند النتيجة ذاتها. وهذه النتيجة، كما تشير اليها الوقائع - خارج التصنيف وفوق النوايا الحسنة او السيئة - هي اغراق العراق في الفوضى وفي الحرب وفي القتل وفي الدمار. وهي امور تعرقل مسيرة العراق نحو التحرر من الاحتلال ومن الاستبداد، وتدخله في المجهول. ولذلك فإن هذا الواقع بذاته يتطلب موقفاً آخر مختلفاً عما يكاد يكون سائداً في العراق وفي الامتدادات الداخلية، موقفاً عقلانياً يأخذ في الاعتبار مسألتين اساسيتين: الاولى تتعلق بحرية الشعب العراقي في تقرير مصيره بنفسه والكف عن التدخل الخارجي في شؤونه بالنيابة عنه، وباسم مصالحه المفترضة المتخيلة التي يمليها ويحددها موقف قومي مزعوم، والثانية تتعلق بدعم الخطوات والجهود التي تبذلها قوى الشعب العراقي الحية في البحث الدؤوب والعميق عن الكيفية التي يستعيد فيها العراق حريته بخروج القوات الاجنبية من اراضيه، ويعيد تشكيل مؤسساته الديموقراطية بحرية، يثبت وحدته كشعب متعدد الاعراق، وكبلد هو جزء لا يتجزأ من البلدان التي يتكون منها العالم العربي الحديث. لقد تابعت اعمال المؤتمر الوطني الذي عقد منذ فترة قصيرة من اجل اختيار هيئة دستورية موقتة للمرحلة الانتقالية التي تسبق الانتخابات القادمة. وتابعت النقاشات التي جرت فيه خلال الايام الاربعة من انعقاده، النقاشات التي سبقت انعقاده حول تمثيله لفئات الشعب العراقي في كل المناطق. وأقول، بصراحة، انه بمعزل عن صحة او عدم صحة التمثيل في المؤتمر - وهي مسألة ترافق كل انتخابات حتى في اكثر البلدان عراقة في ممارسة الديموقراطية - فإن مجرد انعقاد هذا المؤتمر والنقاشات التي جرت فيه والنتائج التي توصل اليها، تجعلني ارى، على رغم كل الالتباسات المعروفة، وعلى رغم التوترات القائمة، التي نأمل ان تقود المفاوضات الجارية بين الحكومة وأطراف الصراع لوضع حد لها، ان العراق ذاهب في الاتجاه الصحيح نحو مستقبله - ولو بصعوبات وتعقيدات كثيرة - لكي يتحرر من الاحتلال الاجنبي ومن الاستبداد الذي قاده الى هذا الاحتلال. وغني عن التأكيد، هنا، انه بانتخاب الهيئة الدستورية الجديدة تكون قد تشكلت جميع الهيئات الموقتة للمرحلة الانتقالية، استعداداً للمرحلة المقبلة. وأرى، في الوقت عينه، ان على اشقاء العراق وأصدقائه ان يساهموا، ولو من دون معرفة كاملة بظروف العراق الصعبة الراهنة، في دعم كل مسعى يصب في الاتجاه الذي يخرج هذا البلد من محنتيه في اسرع وقت، وفي اقل ما يمكن من الخسائر، وفي اكثر ما يمكن من الشروط التي تؤمن تحقيق الاهداف المعلنة المؤدية الى عراق مستقل ديموقراطي فيدرالي موحد. لنترك الشعب العراقي يناضل، وسط صعوبات المرحلة، لصياغة مستقبله، بواسطة قواه الحية. ولينصرف كل منا الى مواجهة مشاكل بلده، وما اكثرها، وما اصعب الوصول الى حلها. ولننشئ معاً صيغة جديدة للتضامن بين بلداننا وشعوبنا وحركاتها الوطنية والديموقراطية، يحترم فيها حق كل شعب في تقرير مصيره، مع تأكيد واجبه في تبادل الدعم مع اشقائه. وعلى مثل هذه القاعدة، فقط، يكون الموقف القومي موقفاً قومياً صحيحاً، ويتحرر من عبثية وعدمية الموقف القومي الراهن ازاء العراق، على وجه الخصوص، وازاء بلدان عربية اخرى. * كاتب لبناني.