من مفارقات هذا العصر المثيرة للجدل - ولا أتحدث عن العصور السابقة - ان القوميات الكبيرة، في بلدان العالم الثالث خصوصاً، لم تستطع، في كل عهود ما بعد الاستقلال، ان تتعامل في شكل صحيح مع الأقليات القومية في بلدانها. لم تسعَ الى ذلك ولم تبذل اي جهد، بل هي سلكت طريقاً أخرى، هي الطريق ذاتها التي سلكتها الدول الاستعمارية في تعاملها مع تلك القوميات الكبيرة بالذات، ومنها قوميتنا العربية بالتحديد، خلال عقود طويلة في حالات معينة وخلال قرون في حالات اخرى. واستمرت حكومات هذه البلدان في العهود المختلفة، على امتداد نصف قرن ونيف، في ممارسة انواع شتى من القمع والقهر والإذلال للأقليات القومية، بما في ذلك اللجوء الى ما يشبه الإبادة الجماعية بواسطة الأسلحة المحرمة دولياً، كالأسلحة الجرثومية وسواها. ومثال مدينة حلبجة في كردستان العراق هو النموذج الحي الصارخ على تلك الهمجية. المنطق الذي استندت إليه الحكومات المتعاقبة في هذه البلدان، من اقاصي القارة السوداء الى اقاصي الشرق الآسيوي، مروراً ببلداننا العربية، إزاء الأقليات القومية، هو اعتبار ان مجرد الاعتراف لهذه القوميات بحقوقها والسماح لها بممارسة تلك الحقوق، سيقودها الى الانفصال عن الدولة الأم. ويشكل ذلك في نظر تلك الحكومات، تهديداً للوحدة الوطنية. فهو إذاً، بهذا المعنى، الخيانة بعينها، التي يستحق مرتكبها العقاب في اقصى درجاته، بما في ذلك الإبادة الجماعية او ما يشبهها ويصل الى حدودها. وفي هذا الموقف بالذات من جانب تلك البلدان وقياداتها تعبير فظ عن التنكر لمبدأ اساسي قديم هو الحق المقدّس للشعوب والقوميات في تقرير مصيرها. والمفارقة هنا هي، كما اشرت، ان قادة هذه البلدان ونخبها السياسية والثقافية في السلطة وخارجها، الذين ينتمون الى القومية الأكبر، كانوا ذات يوم، قبل ان تنتزع بلدانهم استقلالها من الدول الاستعمارية، هدفاً مباشراً لشتى انواع الاضطهاد والقمع والقهر، وأن ثقافتهم وهويتهم القومية كانت هدفاً للإلغاء والإدماج، بالإكراه، في ثقافات الدول المستعمرة، وأن لغتهم القومية كانت مهددة بالإزالة من الوجود لمصلحة لغة الدولة الاستعمارية التتريك والفرنسة أنموذجان!. سيكون من الصعب في هذا المجال الدخول في بحث عام يشمل هذه المساحة الشاسعة من الكرة الأرضية التي تضم سدس سكان المعمورة. لذلك سأتوقف عند الجانب الذي يعنيني في هذه المسألة، الجانب الخاص ببلداننا العربية تحديداً. ذلك ان هذه المسألة تشكل في بلادننا الحقل الأكثر اغراء للجدل، والأكثر إثارة للاهتمام والاستنكار على الصعيد العالمي. والمؤلم في المشهد الذي يتكرر منذ عقود طويلة - المشهد الشديد الإيلام - هو ان ثمة ما يشبه الإجماع بين التيارات والنخبة السياسية والثقافية، على مستوى السلطات الرسمية وعلى مستوى الأحزاب والمؤسسات، الإجماع على رفض الإقرار للأقليات القومية في بلداننا بحقوقها القومية، حتى في ابسط اشكالها وتعبيراتها. ولا يتعلق الأمر، هنا، بحق تقرير المصير، الحق الذي يشكل احد العناصر الأساسية في شرعة حقوق الإنسان، بل حتى في ما هو ابسط من ذلك، حق هذه الأقليات بأن تعبّر بحرية عن ذاتها، عن هويتها الثقافية والقومية، وأن يكون لها في البلد الذي تنتمي إليه وتصر على أنها جزء مكون منه ومن شعبه، حقوقها المتساوية مع الآخرين في كل ما يتصل بالشأن العام، وفي كل ما يتصل بالشؤون الخاصة بالمجموعات والأفراد، على حد سواء. والغريب، في هذا المشهد بالذات - الشديد الغرابة - هو ان هذا السلوك من موقع القومية الأكبر ضد الأقليات القومية في بلداننا، يتم في الوقت الذي تتمادى فيه السلطات الإسرائيلية في قمعها الشعب الفلسطيني، ومنعه من تحقيق امانيه الوطنية في الاستقلال، وفي التعبير عن ذاته، هوية قومية وثقافية، وكياناً بشرياً، وأرضاً، ودولة، وخصوصيات تاريخية اخرى. يتم ذلك وسط عجز مطلق من الدول العربية ومن قواها السياسية عن التضامن الفعلي مع هذا الشعب وعن دعمه في كفاحه البطولي الحافل بالتضحيات. ما سر هذه الحال الإنسانية البشعة، التي تشوه تاريخنا بفعل استمرارها في بلداننا، ولا تجد من القوى والسياسات ما يمكن هذه البلدان من التحرر منها، بهدف تحقيق الحرية لجميع المواطنين وتحقيق التقدم لبلداننا في المجالات كلها، التقدم الذي بواسطته عندما يتحقق يمكن لبلداننا ان تخرج من تخلفها ومن الاستبداد الذي يتحكم بها وبمصير شعوبها، وتدخل في تحولات العصر الكبرى وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية! إن تاريخاً طويلاً من الحروب الأهلية في العراق وفي السودان وفي بلدان عربية اخرى يكفي لإثبات ان سياسة الاضطهاد القومي تدمر ولا تبني، تؤخر ولا تقدم، وتجعل الأكثرية الساحقة من ابناء الوطن، قومية كبرى وأقليات قومية، الضحية المباشرة لتلك السياسات. إلا ان المشكلة في العراق لا تنحصر في الأكراد. بل هي تشمل جميع الأقليات القومية من تركمان وكلدان وشركس ويزيديين وصابئة. لكن الأكراد هم من الأقدم والأكثر عراقة في تاريخ المنطقة كلها، والأكثر عدداً بالنسبة للآخرين من الأقليات في العراق. إذ يشكلون ربع عدد سكان هذا البلد. وعلى رغم ان للشعب الكردي جذوراً تاريخية قديمة، فإنه لم يستطع، كما يقول المؤرخون، لأسباب ولظروف أهمها قمع القوميات الكبرى له في بلدان المنطقة، من أن يشكل له كياناً مستقلاً في أي من هذه البلدان. ويضيف المؤرخون ان هذا الشعب قام بأكثر من ألف ثورة لتحقيق طموحاته القومية. وقمعت جميع تلك الثورات. وتعطَّل بذلك امكان تحقيق الحلم القومي الكردي، أو تأجَّل، ليتخذ المطلب القومي المشروع صيغة، أو صيغاً أخرى، داخل كيانات تلك الدول، وتحتل تلك القوميات مكانها كجزء مكوّن من هذه الدول ومن شعوبها. ولا يختلف الوضع في السودان في الجوهر عن مثل العراق. فالسودان دولة أفريقية قديمة. دخلت اليها العروبة من طريق الإسلام. ولذلك فالسودانيون بهذا المعنى، هم عرب مستعربون مثل العديد من العرب في الأزمنة المعاصرة. وقد شكَّل الإسلام مع مرور الزمن دين الأكثرية في هذا البلد، على رغم وجود أقلية مسيحية كبيرة، ووجود وثنية عند بعض القبائل. وإذا كان قد تأخر السودانيون الأفارقة في طرح قضيتهم بشقَّيها القومي والديني داخل الوطن السوداني، فإن مجرد البدء بطرح مسألة الحقوق القومية قد وضعهم في قفص الاتهام بتهديد وحدة الوطن ووحدة الشعب، فاستحقوا العقاب. واقليم دارفور، اليوم، هو الأنموذج الآخر للاضطهاد القومي في السودان، بعد اتفاق السلام مع الحركة الشعبية في الجنوب. يقول بعض القوميين العرب، ممن جعلوا أنفسهم في موقع أصحاب القضية القومية الحصريين بالنيابة عن كثيرين سواهم، إن ممثلي الأقليات القومية من نخب سياسية وثقافية واجتماعية هم الذين يتحملون المسؤولية عن الوضع الذي هم وقضيتهم القومية فيه. فهم، بإصرارهم على التمسك بحقوقهم القومية، وضعوا أنفسهم في موقع المتميز عن المواطنين من القومية الأكبر! ويضيف هؤلاء القوميون أن الخطأ المميت لممثلي الأقليات القومية، سواء في العراق أم في السودان، هو استقواؤهم بقوى خارجية للدفاع عن مطالبهم، ضد أشقائهم وضد الوطن! هو الأمر الذي جعلهم، في نظر هؤلاء الأشقاء، أشبه بطابور خامس في قلب الوطن، ضد وحدة أرضه ووحدة كيانه ووحدة شعبه! ولم يسأل أحد من هؤلاء القوميين نفسه عن السبب، أو الأسباب التي خلقت الظروف لكي ترتكب تلك القيادات من الأقليات القومية، مع سواها من قيادات القومية الأكبر، مثل تلك الأخطاء. وغاب عنهم أن ثمة في هذا الوضع المأسوي فعلاً ورد فعل. وبمقدار ما يتخذ الفعل طابع الثبات فإنه يولد ردود فعل من الطبيعة ذاتها. لنتذكر، هنا، أن بعض الأقليات القومية والدينية التي انتقلت، في صدف تاريخية، الى مواقع السلطة بعد عقود طويلة من الاضطهاد، قد مارست وسائل القهر ذاتها، التي كانت هي ضحيتها في السابق، ضد القوميات والأديان الأخرى الأكبر. لكن الأكثر إثارة للدهشة في هذا المجال هو أن هؤلاء القوميين ونظائرهم في التعبير عن مواقفهم يتجاهلون الموضوعة التي تشبه القانون الموضوعي، القائلة إن أي شعب يسعى الى فرض السعادة على شعب آخر بالقوة والاكراه - السعادة التي يحددها هو لذلك الشعب بالنيابة عنه - يقع هو ذاته ضحية تعسفه. ألا تشير الى ذلك بوضوح قاطع أوضاع بلداننا العربية من المحيط الى الخليج، التي يسود فيها منذ زمن طويل الاستبداد والفساد والتخلف، وتتفكك المجتمعات فيها وتتحول الى قبائل من شتى الأنواع، متصارعة في ما بينها بشتى الوسائل، ويتحول فيها المواطنون الى رعايا من الدرجات الدنيا، رعايا لأنظمة لا يفكر القيمون عليها إلا بتأييد سلطاتهم وتعظيم مصالحهم فيها. وفي الحقيقة، ان ما يقلق في مثلي العراق والسودان هو أن الحملة الموجهة ضد الأكراد والجنوبيين، تتم في الوقت الذي يتهيأ فيه هذان البلدان، - إذا سارت الأمور في الاتجاه الصحيح - للانتثال الى زمن آخر، يفترض أنه الأفضل، بعد عقود من الاستبداد والحروب الأهلية ومن القمع الذي عانت منه الأكثرية الساحقة من الشعبين. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن بالنسبة الى العراق، في هذه الفترة بالذات التي تجرى فيها عملية شاقة ومعقدة وطويلة لتحرير العراق من الاحتلال الأجنبي ومن آثار عهود الاستبداد القديمة والحديثة، السؤال الحقيقي الذي يتطلب جواباً عنه من العراقيين أولاً، ومن العرب جميعاً، وبالأخص عرب البلدان المجاورة للعراق: ألم يحن الوقت لكي يخرج هذا البلد من حروبه الداخلية والخارجية؟ ألم يحن الوقت لكي تتاح له فرصة تاريخية لإعادة توحيد شعبه، قوميات وأدياناً وطوائف وفئات سياسية واجتمعية، على أسس ديموقراطية، وبضمانات حقيقية تعطل امكانات العودة الى مآسي الماضي؟ ألم يحن الوقت لكي يدرك أشقاء العراق من البلدان المجاورة، العربية خصوصاً، أن عليهم أن يساعدوا الشعب العراقي على اجتياز مآسيه الراهنة والسابقة، بدل أن ينفخوا في نار الفتنة والإثارة، قومياً وطائفياً ووطنياً وسياسياً من أنواع شتى؟ أم أن ثمة مخاوف حقيقية لدى كل من السلطات الحاكمة وأصحاب النظريات القومية القديمة التي قُضِيَ زمانها، بفعل التغيرات الكبرى التي جرت وتجرى في العالم المعاصر، مخاوف من أن يستطيع العراق بقرار داخلي من قواه الحية، بتنوعها وتعددها وحتى باختلافاتها الفكرية والسياسية، التحول في اتجاه الديموقراطية والتعددية على أنقاض كل ذلك الماضي الحافل بالمآسي وبالحروب وبكل انواع الموت والدمار. وهو خوف على مصالح ومكاسب تعارضت على الدوام مع مصالح الشعب هنا وهناك، وخوف على افكار قضت عليها احداث الحياة وتحولات الازمنة وجعلتها خارج الزمن. ولعل اكثر ما يثير المخاوف على المستقبل هو اصرار اشقاء العراق من البلدان العربية على توجيه الاتهام للاكراد بأنهم ضخموا مطالبهم ومخاوفهم الى حد الاستقواء بأعداء العراق وأعدائهم هم من أميركيين واسرائيليين. وهو اصرار على تبني معلومات عن وجود اسرائيلي في المنطقة الكردية، نفاها الاكراد، واعتبروها مناقضة لمصالحهم، ونفتها قيادات عراقية عدة. وحتى لو ان شيئاً من الصحة قد تأكد عن وجود اسرائيليين في المنطقة الكردية - كفرضية جدلية - أفليس من الحكمة، ومن المصلحة القومية بالذات، ان يجرى العمل لازالة الاسباب التي قادت الى مثل هذا الامر؟ وأزعم انني أعرف العراق جيداً. وأعرف جيداً اكراده العراقيين. وأعرف الكثير من القيادات، هنا وهناك. و أعرف الكثير من المثقفين الاكراد. وأعرف الكثير عن ثقافة الاكراد وعن تقاليدهم. واذا كنت لم أعرف جنوب السودان الا انني أعرف كردستان العراق، وأعرف تاريخها القديم والحديث. وأعرف طبيعتها الخلابة. وأعرف ناسها الطيبين. وجميع هذه المعارف التي تكدست عندي بفعل المتابعة والعلاقات والاهتمامات السياسية اليت تشغلني وتحتل مكان الصدارة في حياتي منذ اعوام طويلة، هذه المعارف هي التي تجعلني أجزم اليوم بأن أكراد العراق هم عراقيون، ولا نية لديهم للانفصال عن العراق، لأسباب كثيرة لا تحصى، تتصل بمصلحتهم بالذات في الدرجة الأولى. أقول ذلك على رغم كل الثغرات التي اشاهدها في السياسة وفي ردود الفعل وفي الاخطاء التي يقع فيها كل من يمارس السياسة وكل من يضع نفسه في موضع المسؤولية عن قضيته، سواء أكان عربياً أم كردياً ام الى اي قومية انتمى. لكن الشرط الاساس لجعل السياسة والسلوك موحدين في الاتجاهات الاساسية، المعبرة عن مصالح العراق كوطن لجميع ابنائه، هو ان يقتنع جميع العراقيين بأنهم شعب و احد متعدد الاعراق والاديان والثقافات. وهو شرط تشير الى نضجه مجريات الامور في عراق ما بعد صدام، حتى قبل ان يتحرر هذا البلد من الاحتلال الاجنبي، المهمة التاريخية الملقاة على عاتق جميع العراقيين في المرحلة الراهنة. وفي نظري فإن العراق مقبل على عصر مختلف اختلافاً جذرياً عن العصور السابقة التي ظل يمتزج فيها الدم بالتراب الى ان اصبح للتراب لون يشابه لون الدم. ولأنني أعرف الشعب السوداني جيداً وأعرف تاريخه، وأعرف الكثير من قادة الحركة الديموقراطية فيه، وأعرف الكثير من مثقفيه، فإنني أكاد أجزم بأن هذا الشعب متجه هو الاخر في الطريق ذاتها، التي يسلكها اليوم شعب العراق، على رغم أنف القوى التي تراهن على عكس ذلك، في السودان وخارجه، من مواقع السلطة وخارجها. وللمسألة القومية على الدوام، في العراق والسودان وفي كل مكان، طرفان داخليان، على الأقل، وطرف خارجي. فاذا تحققت الوحدة الداخلية انتفى اي دور للخارج، واستحال على هذا الخارج ان يفعل ما يريد، ولو لجأ الى الحرب بأبشع اشكالها، مثلما هو الحال في العراق الآن. لا بد من اعادة نظر شاملة بافكارنا القديمة، وبشعاراتنا، وبمفاهيمنا عن المسألة القومية في بلداننا، وعن المسألة القومية في شكل عام. وهي اعادة نظر ينبغي ان تأخذ في الاعتبار ان وحدة بلداننا، اسوة بوحدة بلدان العالم قاطبة، هي الأنموذج المفترض للوحدة التي يتجه نحوها العالم. وهي وحدة، هنا وهناك، محلياً وعالمياً، لا يمكنها ان تتحقق في صيغة انسانية عادلة الا على قاعدة الديموقراطية، وحقوق الانسان، والاعتراف المبدئي والعملي بالتعدد والتنوع في القوميات والثقافات، وبالتفاعل الانساني بين هذه القوميات وثقافاتها لمصلحة الحرية والتقدم، وبالتفاعل الانساني بين هذه القوميات وثقافاتها لمصلحة الحرية والتقدم، بمضامينها المختلفة، للافراد وللمجموعات في كل بلد، وللبشرية جمعاء. * كاتب لبناني.