ينعقد الثلثاء المقبل المؤتمر السنوي للحزب الوطني الحاكم في مصر. ويعتقد كثيرون ان ما سيتم من مناقشات وما سيجري من فعاليات وما سيتمخض عنه من توصيات وقرارات وتوجيهات، سيحدد الى حد كبير مستقبل البلاد وسيكمل ملامح صورة المستقبل التي ظلت لسنوات غير واضحة. وليس سراً أن ما كانت تتداوله النخبة المصرية همساً ومن دون ضجيج صار بفعل الزمن وتطورات الساحات المحلية والاقليمية والدولية حديث الشارع، والحملة التي يتبناها الحزب الناصري وتستخدم فيها صحيفة "العربي" لهجة حادة ضد السيد جمال مبارك نجل الرئيس المصري خير دليل على ذلك. السؤال الذي يدور في مصر ولا يجد اجابة حتى الان: هل سيمدد الرئيس حسني مبارك فترة ولاية خامسة بعد ان تنتهي فترة الولاية الرابعة في تشرين الاول اكتوبر من العام المقبل ام سيكتفي بالولايات الاربع، ويفسح المجال لغيره كي يقود البلاد في الجمهورية الخامسة؟ الرد بالايجاب يطرح اسئلة اخرى حول خطط الرئيس مبارك للمستقبل وطريقة انتقال السلطة في حال خلو منصب الرئيس فجأة، والمدى الذي ستصل اليه عملية الاصلاح السياسي في عهده؟ اما الاجابة بالنفي فانها تطرح اسئلة اكثر عن الرئيس المقبل ومدى صحة الإشاعات عن سيناريوهات تولي جمال مبارك مقاليد الامور في البلاد في الجمهورية الخامسة وطرق تحقيق تلك السيناريوهات ومستقبل العلاقة بين السلطة وقوى المعارضة السياسية، سواء تلك التي تتمتع بالشرعية كالاحزاب والنقابات والمنظمات الاهلية او تلك التي تعتبرها الحكومة غير شرعية كجماعة الاخوان المسلمين؟ وثمة اسئلة اخرى عن شخص الرئيس المقبل اذا لم يكن جمال مبارك. والطريقة التي سيختار بها ومعايير ذلك الاختيار ومدى قبوله بين اوساط النخب السياسية والاوساط الشعبية وعلاقة مصر بالخارج؟ المؤكد ان مؤتمر الحزب الحاكم لن يقدم اجوبة شافية على كل تلك الاسئلة، وانما سيقدم على الارجح صورة غير واضحة المعالم ومجرد مؤشرات عن المستقبل. وربما تكتمل الصورة في غضون السنة المقبلة وقبل ان يحل موعد الاستحقاق الرئاسي في تشرين الاول والانتخابات البرلمانية في الشهر التالي من العام المقبل. ولا يؤمن مبارك بالتغييرات الدراماتيكية وهو دائماً يتأنى كثيراً قبل ان يتخذ القرارات ذات الصلة بالتغيير، سواء بالنسبة للسياسات او الاشخاص. وظل المصريون وسواهم يتساءلون دائماً عن الاسباب التي تمنع مبارك من تعيين نائب له، وهي المسألة التي اثيرت أكثر من مرة خصوصاً عقب محاولات الاغتيال التي تعرض لها مبارك في حزيران يونيو 1996 في أثيوبيا. وأُثيرت مرة أخرى عقب التغييرات الرئاسية والملكية التي حصلت في سورية والأردن والبحرين والمغرب، وبرزت هذه المسألة مرة أخرى اثناء زيارة مبارك للولايات المتحدة قبل اكثر من سنتين، بعدما لمح إلى أنه "يدرس راهناً خيارات عدة لمنصب نائب الرئيس". وطرحت المسألة بالطبع بقوة عقب الوعكة التي تعرض لها مبارك اثناء القائه خطابه السنوي امام اجتماع مشترك لمجلسي الشعب والشورى في تشرين الثاني نوفمبر من العام الفائت ثم بعد الاعلان عن اصابته بانزلاق غضروفي وسفره الى المانيا حيث اجريت له جراحة. لكنّ مبارك لم يُعيّن اي نائب له وعلى الارجح فإنه لن يفعل على رغم أن مصر شهدت تغييرات دراماتيكية في منصب نائب الرئيس على مدار تاريخها، حيث عُين 15 نائباً في نصف قرن تولى منهم اثنان فقط الرئاسة. علماً بأن الدستور المصري لم ينص صراحةً على منصب النائب، وهو الأمر الذي كرره الرئيس المصري مرات" في تبريره عدم تعيين نائب له طوال فترة حكمه التي استمرت نحو ثلاثة وعشرين عاماً حتى الآن. وقال مبارك لصحيفة "لوموند" الفرنسية في 17 تشرين الثاني 1985 رداً على سؤال عن موعد تعيين نائب له: "البعض في مصر يرى أنه ينبغي عدم تعيين نائب للرئيس مثلما يعين ولي العهد". وترى دوائر المعارضة ان امتناع مبارك عن تعيين نائب له أمر يُحمد له بالنظر إلى رغبته في عدم تقييد الشعب بأسماء معينة أو مصادرة حقوق المواطنين في اختيار من يرونه صالحاً للقيام بأعباء ومهمات هذا المنصب" لأن تعيين النائب سيعني بالضرورة أنه المرشح الوحيد لمنصب الرئيس في ما بعد، وهو ما يعني حرمان المواطنين من الاختيار. لكن معارضين وربما حتى مؤيدين لمبارك نفسه ينظرون الى الأمر بمنظار آخر يتعلق بأمن أو استقرار مصر إذا مرض الرئيس أو غاب من دون تعيين نائب. وعندما أثير السؤال نفسه عن تعيين ابنه خلفاً له خلال زيارة له لواشنطن في نيسان أبريل 2001 أكد مبارك لصحيفة "واشنطن بوست": "نحن لسنا سورية، وابني لن يصبح الرئيس المقبل... انسوا ذلك؟"، ثم أضاف: "نحن سنحاول إيجاد نائب الرئيس، وهي مهمة صعبة، وأنا أدرس أسماء عدة". وفي عيد الفطر المبارك الماضي تحدث مبارك عبر الاذاعة الرسمية الى الشعب ونفى تماماً مسألة توريث الحكم الى ابنه ووصف الامر بأنه "كذبة اطلقها البعض ثم صدقوها". وقتذاك ازدادت الإشاعات عن وشوك اقدام الرئيس على تعيين نائب له ليوقف سيل الإشاعات وراحت تحليلات تتوقع المرشحين للمنصب وما اذا كان عسكرياً ام مدنياً او مدنياً من أصل عسكري لكنّ شيئاً لم يحدث. تاريخ التعيين كانت فكرة تعيين النواب للرئيس بدأت في مصر بأعداد كبيرة منذ نهاية الخمسينات حتى وصل العدد في بعض الأحيان إلى سبعة نواب. ففي عهد الوحدة مع سورية شباط / فبراير 1958-1961 بدأ تعيين أكثر من نائب لرئيس الجمهورية. وفي حكومة عبد الناصر الرابعة 6 اذار / مارس 1958 أصبح هناك أربعة نواب لرئيس الجمهورية مصريين وسوريين عبد اللطيف بغدادي- عبد الحكيم عامر - أكرم الحوارني - صبري العسلي. وفي 18 تموز يوليو1960 عُين نور الدين كحالة نائباً لرئيس الجمهورية ووزيراً للأشغال العامة بالإقليم السوري، ثم ارتفع عدد نواب الرئيس إلى رقم قياس بلغ 7 نواب في حكومة عبدالناصر الثامنة 16 آب / أغسطس 1961 وهم: بغدادي - عامر - كحالة - زكريا محيي الدين - حسين الشافعي - كمال الدين حسين - عبد الحميد السراج. وتراجع الرقم إلى خمسة بعد استبعاد كحالة والسراج من حكومة عبد الناصر الثامنة 8 تشرين الأول 1961، وفي حكومة علي صبري 29 أيلول / سبتمبر 1962 تشكل مجلس للرئاسة بقيادة عبدالناصر وعضوية نواب رئيس الجمهورية الخمسة، إضافة إلى آخرين. وفي 17 شباط 1964 عُين أنور السادات، وحسين إبراهيم نائبين لرئيس الجمهورية، ثم صدر قرار تشكيل حكومة علي صبري الثانية 25 آذار 1964 وتعيين المشير عبد الحكيم عامر نائباً لرئيس الجمهورية، وتعيين ثلاثة نواب آخرين لرئيس الجمهورية زكريا محيي الدين، وحسين الشافعي، وحسن ابراهيم. وفي وزارة زكريا محيي الدين الأولى أول تشرين الأول /أكتوبر 1965 أصبح محيي الدين نائباً لرئيس الجمهورية، ورئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية. وكان علي صبري هو أول من تولى المنصب في مصر من خارج أعضاء مجلس قيادة الثورة. وفي حكومة عبد الناصر التاسعة 19 حزيران / يونيو1967 أصبح زكريا محيي الدين، والشافعي، وعلي صبري، ومحمد صدقي سليمان، نواباً للرئيس، وتشكلت حكومة عبدالناصر العاشرة 20 آذار 1968 وضمت حسين الشافعي نائباً للرئيس، بينما كان زكريا محيي الدين استقال من منصب نائب الرئيس. وفي 20 كانون الأول ديسمبر 1969 أصبح السادات نائباً وحيداً لرئيس الجمهورية، وبعد انتخاب السادات رئيساً في20 تشرين الأول 1970 عين حسين الشافعي وعلي صبري نائبين، ثم أقيل صبري في أيار مايو 1971، وفي ظهر يوم الأربعاء 16 نيسان أبريل 1975 أدى حسني مبارك اليمين الدستورية نائباً للرئيس، وخرج حسين الشافعي من المنصب. حكم السادات نحو خمس سنوات من دون نائب له، بينما كان لعبد الناصر في فترة من الفترات سبعة نواب. ولهذا أثار البعض فكرة العودة لتعيين أكثر من نائب، على رغم أنها تثير خلافات أكثر مما تقود الى الاستقرار. أما عدد نواب الرئيس المصري - الذين تولوا هذا المنصب منذ ثورة 1952 فبلغوا حتى الآن 15 نائباً. وعموماً، فإن مصر ستشهد بعد انتهاء المؤتمر المقبل للحزب الحاكم وحتى المؤتمر التالي تطورات تحتاج إلى متابعة مستمرة، خصوصاً في ما يتعلق بقضية الاصلاح ومسألة استمرار السلطة في نظام الرئيس مبارك أو في انتقال هذا النظام إلى جمهورية خامسة. ولا شك في أن مثل هذا النوع من الدراسات يهم مصر مقدار ما يهم الدول الكبرى، لأن مصر هى الدولة الاقليمية الكبرى عربياً وإسلامياً وافريقياً، واستقرارها السياسي والاقتصادي وحركتها الاقليمية أمران يهمان الجميع. ولم يتوقف الحديث عن الإصلاح في الداخل والخارج، وكان الاجماع منعقداً بين المثقفين والحكومة على أن اصلاح الخارج وهم لا يخدم إلا مصلحة الخارج، وأنه قد يصلح في مجتمعات هشة تفتقر إلى الكفاءات والمفكرين، وأن المجتمع المصري لا يمكن أن يقبل فكرة الاصلاح من الخارج. ولكنه في الوقت نفسه يصر على الاصلاح على أن يكون مصرياً خالصاً. ثم تحدثت الحكومة عن الاصلاح كما تحدث الرئيس مبارك وانعقدت مؤتمرات وفُضت اجتماعات وصدرت اعلانات وبيانات، وتوقع المصريون الذين أجمعوا على رفض الاصلاح من الخارج أن تبدأ مصر من الداخل عهداً جديداً بسياسات جديدة وعلى أساس الإفادة من طاقات المجتمع و القضاء على الفساد الاجتماعي والاقتصادي والإداري. وتوقع الناس أن يتم تجديد النظام السياسي المصري الذي أصيب بالتكلس والجمود. وكذلك توقع الناس تنفيذ برنامج طوارئ يواجه الأولويات العاجلة للمجتمع المصري تمهيداً لإعادة بناء كل القطاعات التي أصابها الشلل بعدما أصبح الحديث عن الفساد قصصاً مكررة في كل المجالس. ثم جاءت أحاديث الرئيس مبارك عن الاصلاح الشامل ورعايته "مؤتمر الإصلاح" الذي نظمته مكتبة الأسكندرية، والذي أصدر توجيهات لاقت ترحيباً في الداخل والخارج ولم يتحقق منها شيء حتى الآن. وفسر الناس تواتر الحديث عن الاصلاح على أنه استجابة لظروف داخلية ومطالب النخب السياسية، وفسره بعضهم بأنه محاولة لتوقي الاصلاح المفروض من الخارج، لأن الاصلاح من الخارج في إطار المشاريع الأميركية يعني ببساطة عدم رضا الولاياتالمتحدة عمّا يحصل بالداخل، وعن قيادات الداخل وعزمها على العمل لدفع الشعوب الى إزاحة الحكام وفق السيناريو الذي توهمته في العراق. وارتفعت أصوات تطالب بإصلاح حقيقي فلا يكون مجرد عملية تجميلية تستهدف الافلات من ضغوط الداخل والخارج. وفي هذا المناخ الذي ارتفعت فيه التوقعات مختلطةً بالآمال جاء التشكيل الوزاري لحكومة الدكتور أحمد نظيف واختفت منه بعض الاسماء التي وصل الحديث عن فسادها، وعدم الاستجابة لدعوات تغييرها حد فقدان الأمل في زوالها. ولكنّ هذا التعديل الوزاري وحتى قبل اختباره، كان مخيباً لآمال قوى المعارضة التي اعتبرت أنه لم يقم على أساس المعيار الذي توخاه الناس وانتظروه. فصور هذا التعديل الوزاري المحدود على أنه هو الاصلاح، وأن مجرد استبدال بعض الشخصيات بشخصيات أخرى هو "كرم لا يجوز للمصريين أن يجحدوه". وصور التعديل على أنه نتيجة الصراع بين ما يسمى بالحرس القديم في مواجهة موجة التغيير التي يتزعمها نجل الرئيس جمال مبارك. وكل ذلك طرح على الملأ آفاق التوقعات والتحديات في مصر خلال العام من الآن وحتى أيلول سبتمبر 2005. مجموعتان مصريتان ينقسم المواطنون في مصر إلى مجموعتين: المجموعة الأولى، تريد أي نظام وأيّة حكومة مهما كان لونها وأشخاصها، على ان تكون قادرة على مواجهة الغلاء والبطالة والفساد ورفع مستوى المعيشة والخدمات إلى درجة تسمح باستمرار الحياة بعد أن تدنى مستوى الخدمات في كل القطاعات. أما المجموعة الثانية، فهى التي تضم كبار السياسيين والمثقفين والتي ترى أن المجتمع المصري غني بكفاياته، وأن مصر تستحق مكاناً يليق بها بين الأمم، ولا يصح أن تتخبط في علاقاتها الخارجية، وألا ترى أبعد من موطئ قدميها. ويرى هؤلاء المثقفون أن المصري لا يستحق ما يعانيه قياساً الى غنى مصر بمواردها وطاقاتها المادية والبشرية، وأن المشكلة في مصر هى سوء الادارة، وأنّ الذين لا يتمتعون بالكفاءة والنزاهة في مناصبهم العامة عليهم أن يغادروها، لأن البلاد لا تحتمل ترف المزيد من الفساد والتبلد، ولذلك يرى هؤلاء المثقفون أن الأداء الحكومي لا يمثل مطلقاً ثراء المجتمع المصري، وأن المشكلة هي إما في العجز عن تجنيد الكفاءات وعدم وجود أدوات لفرزهم، وإما لأن القلة المتضامنة تحتكر إدارة المجتمع. في ضوء ذلك يرى الكثيرون أن الأحوال في مصر تتجه نحو صعود نجم جمال مبارك من خلال الحزب الوطني عند انعقاد المؤتمر السنوي المقبل للحزب، على أساس أن جمال مبارك يقود تياراً إصلاحياً داخل الحزب الحاكم وعلى رغم نفي اي نية لتصعيده او اسناد منصب رسمي له لا يستبعد البعض ان يكتمل السيناريو في مؤتمر الحزب العام المقبل، وقبل الاستحقاق الرئاسي، بحيث يتم الفصل بين شخص الرئيس مبارك كرئيس للحزب، وشخصه كرئيس للجمهورية، ثم ينتخب الحزب في هذا المؤتمر جمال مبارك رئيساً للحزب أو أميناً عاماً على الاقل بعد استجابة طلب المثقفين والمعارضة والقوى الوطنية بتعديل الدستور. هكذا يحل نظام الانتخاب لرئاسة الجمهورية محل نظام الاستفتاء، فيصبح من السهل أمام جمال مبارك أن يرشحه الحزب رئيساً للجمهورية منافساً لمرشحين اخرين فيزول الحرج من مسألة التوريث. هذا التصور لوصول جمال مبارك إلى السلطة، هو مقبول، إذا كان صحيحاً، من وجهة نظر القانون القائم، ولكن قوى المعارضة تُصر على تعديل الدستور ولا تمانع من أن يتقدم جمال مبارك مع من يريد من خلال انتخابات للترشيح الى الرئاسة، وأن تجرى انتخابات حرة نزيهة شفافة. ومعنى ذلك أن جمال مبارك لا يجوز أن يغمط حقه في المساهمة في بناء وطنه لمجرد أنه نجل الرئيس، مثلما لا يجوز أن يحصل على أكثر مما يستحق للسبب نفسه. ولا يهم بعد ذلك أن يعقب والده بالحكم. وهنا يثار التساؤل: هل يمكن الرئيس مبارك حقاً أن يتنازل عن ترشيح نفسه لفترة رئاسية جديدة في ظل الدستور القائم، مما يقطع الطريق أمام السيناريو المطروح؟ هذا أمر وارد على اساس أن فترة الرئاسة الخامسة سوف تنتهي عندما يبلغ الرئيس ثلاثة وثمانين عاماً. وفي شكل عام تتمنى دوائر المعارضة أن يبادر مبارك بنفسه إلى الاستجابة للمطالب خلال العام الجاري بإجراء التعديلات الضرورية في الدستور المصري، وأن يعقد مؤتمراً قومياً لقوى المجتمع المصري لتحقيق التوافق على التعديلات. وهو بذلك سيحقق آمال المصريين عموماً الذين سيسعدون بأن تمتد ولايته إلى الوقت الذي يريد، لأن من تصدى لتحقيق آمالهم سوف يحظى بثقتهم في الانتخابات، وليس في الإستفتاء. والخلاصة أن مصر، وهي مقبلة على استحقاقات برلمانية ورئاسية بحاجة إلى أمرين: الأمر الأول، حكومة توقف التدهور الاقتصادي وتعالج النزيف في كل المواقع وتضع خطة متوسطة للعلاج. الأمر الثاني، برنامج اصلاح سياسي شامل يتخلل كل اشكال الحياة في مصر ويربط بين القدرات الداخلية وحركة السياسة الخارجية. التيار الاسلامي خاض مبارك المولود عام 1928 في قرية في محافظة المنوفية حرباً ضروساً ضد الجماعات الاصولية الراديكالية حقق فيها نصراً يحسده عليه الاخرون من قادة دول العالم. وبرز اسم مبارك كقائد عسكري في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 حيث كان قائداً لسلاح الجو المصري الذي كان له دور كبير في الحرب. وفي سنوات حكمه الأولى سعى مبارك الى تجاوز تحديات عدة تواجه مصر ومنها الأوضاع الاقتصادية الصعبة والعودة بالبلاد إلى الحظيرة العربية إثر مقاطعة الدول العربية لها عقب معاداة كامب ديفيد. ونجح مبارك رسمياً في إعادة مصر إلى الصف العربي، وعادت جامعة الدول العربية إلى القاهرة، واستهل سنوات حكمه بمواصلة مسيرة السلام مع إسرائيل لتستعيد مصر بقية أراضي سيناء في نيسان 1982. وواصل سياسة خلفه السادات في التحالف مع الولاياتالمتحدة التي تمنح مصر معونة اقتصادية سنوية بقيمة بليوني دولار تقريباً. وعلى الصعيد الاقتصادي طبق مبارك سياسات إصلاح اقتصادي منذ منتصف الثمانينات راعى فيها البعد الاجتماعي لهذه السياسات. وطوال سنوات حكم مبارك أيضاً شهدت مصر هامشاً ديموقراطياً نسبياً عرف تعددية حزبية وحرية صحافة لم تعرفها مصر في سنوات حكم سلفه. وعلى رغم ذلك اعتبر هذا الهامش محدوداً وما زالت الأحزاب السياسية تطالب بديموقراطية حقيقية تشمل إلغاء قانون الطوارئ وإلغاء القيود المفروضة على العمل الحزبي والسياسي. ولكن تظل أبرز التحديات التي واجهت مبارك في حكمه لجوء الجماعات الإسلامية إلى العنف المسلح أوائل التسعينات، وهو ما واجهته السلطات المصرية بسياسة أمنية صارمة قضت تقريباً على عنف هذه الجماعات والذي عانت منه مصر اقتصادياً نظراً الى انهيار عائدات السياحة. ولا شك في أن مصر واجهت فترة عصيبة ازدهرت فيها عمليات العنف الذي قامت به الجماعات الاصولية وقد لجأت الى كل الاساليب المتاحة لديها في صراعها مع الحكومة، على اساس ان هذه العمليات تؤثر في الحكومة وتضغط عليها أو تسقطها، فيتاح لهذه الجماعات - وفق تصور بعضها - الاستيلاء على الحكم وتنفيذ ما تراه صائباً. ولكنّ المجتمع المصري رفض هذا السيناريو، وهو العامل الأساسي الذي أدى إلى انحسار العنف وانتهائه وتوقف الصراع، مما أدى في النهاية إلى توبة هذه الجماعات ومراجعة تصرفاتها. وبقيت المشكلة الأساسية، وهي أن الحكومة تجمع التيارات الاسلامية في سلة واحدة، وتعتبر أن جماعة الاخوان المسلمين هى الوعاء الأكبر لهذه الجماعات والمدرسة التي تخرجت فيها القيادات الاسلامية. وجماعة الاخوان المسلمين هي تاريخياً معارضة للسلطة والصراع بينهما كان دامياً في بعض الاحيان. نظرت الحكومة بعين الشك إلى تنامي نفوذ هذه الجماعة في النقابات المهنية، وشددت على حظرها وحظر انشطتها، وتقوم حيناً تلو آخر بتوجيه ضربات اجهاضية لها من طريق اعتقال بعض عناصرها. وتحاول الجماعة في الفترة الأخيرة أن تكون طرفاً في العملية السياسية، ولا ترى مبرراً لاستبعادها، بل هي تتهم الحكومة بأن الاجراءات ضدها جزء من الحملة الأميركية ضد الاسلام والمسلمين. وينقسم الرأي حول طريقة تعامل الحكومة مع جماعة الاخوان المسلمين والتيارات الاسلامية عموماً، حتى داخل النخبة الحاكمة، فيرى البعض أن السماح للجماعة بأنشطة سياسية، سيؤدي إلى دخولها في السلطة، فتطبق النظرية التي تؤمن بها، وهي أسلمة السلطة في مجتمع قد لا تصلح معه هذه النظرية، لأنها ترفض الديموقراطية والتعددية والآثار المترتبة على فكرة الجنسية، بينما يرفض البعض الآخر هذه الفكرة التي يعتنقها العلمانيون، ويرون أن جماعة الاخوان مدرسة شاملة في التربية والثقافة والفكر، وأنها تؤدي دوراً مهماً في المحافظة على ثقافة المجتمع، وأن من حق كل أبناء مصر المشاركة في السلطة من خلال صناديق الانتخاب الحرة الشفافة، وأن موقف الحكومة الراهن منها، والذي يتذرع بالأمن، ينتهك حقوقها الدستورية. كما أنه لا يحل مشكلة تنامي المساندة الشعبية لها ولآرائها وقيمها في مواجهة طمس الهوية في الداخل والخارج، وما رافق ذلك من أعراض مخيفة. وتذكر الجماعة يومياً الحكومة بأن هذا الملف يجب ان يحسم، وهو فعلاً من الملفات المعلقة في حين ينشط الاخوان ويمارسون العمل السياسي على رغم الضغوط. يبدو أن مصر في حاجة إلى سياسة خارجية كاملة ومتماسكة، ولذلك فإن تغيير وزير الخارجية السابق احمد ماهر اعتبر طبيعياً حتى ولو خرج من التشكيل الوزاري لأسباب صحية. فالمجتمع المصري في غالبيته يدعو إلى دور مصري واضح في العالم العربي، وهو يدرك أن جزءاً من ازمة العالم العربي نابع أيضاً من أزمة السياسة الخارجية لمصر، لأن أعراض هذه الأزمة واضحة تماماً، وأهمها تراجع الدور المصري الإقليمي تقريباً وانحسار دور مصر في الصراع العربي - الاسرائيلي. وأصبحت مبادرات مصر تثير الشك وتتهم بأنها مجانبة للصواب إن لم يكن الاتهام بما هو أخطر في إطار العلاقات المصرية - الأميركية. السياسة الخارجية من أعراض الأزمة أيضاً أزمة المياه في نهر النيل التي ينكرها وزير الري الدكتور محمود أبو زيد في شكل متصل، وتراجع دور مصر في افريقيا، وعدم التناسب بين الانفاق المصري على السياسة الخارجية والعائد السياسي لهذا الانفاق، حيث أن مصر تقيم أوسع شبكة من البعثات الديبلوماسية. ويأمل المصريون في أن تزداد سياستها الخارجية من طريق تخطيط السياسة الخارجية وتوفير أوراق القوة المناسبة للقيام بدور يناسب طموحات المجتمع، واهتمام السلطة السياسية وفق قراءة عميقة للأوضاع الدولية. ولا شك في أن السياسة الخارجية الناجحة ترتبط بدرجة معقولة من اصلاح الأوضاع الداخلية ومقاومة الفساد في مختلف المواقع. فالدور الإقليمي له متطلبات كثيرة، أهمها ثقة المنطقة في قدرة مصر على النهوض والمساهمة في تحقيق آمال شعوب المنطقة، وإنعاش فرص العمل العربي المشترك. والخلاصة أن مصر في سباق مع نفسها ومع إصلاح ذاتها، والمجتمع المصري قادر على ذلك. والمهم هو القدر اللازم من المرونة التي يسمح بها النظام للارتفاع إلى مستوى التحدي واحتواء التحولات الكاسحة التي لا يقوى نظام محافظ على الصمود والقعود عن التفاعل الخلاق والمخلص معها! وفي كل الاحوال تبقى سيناريوهات يتداولها الناس بين النخب والأوساط الشعبية لكن السيناريو الذي يفكر فيه مبارك قد يكون مفاجأة للجميع. * من أسرة "الحياة".