تتأسس الأطروحة الأساسية للكتاب الجديد للناقد السعودي عبدالله الغذامي، "الثقافة التلفزيونية: سقوط النخبة وبروز الشعبي" المركز الثقافي العربي، على نقض ما هو سائد في الدراسات والأبحاث التي أنجزت عربياً عن الصورة وطغيانها، وعن الصورة التي شكلت وجدانات جديدة وآليات تفكير، وكذلك في طرائق تلقيها واستقبالها. والكتاب، وإن بدا يتناول الثقافة التلفزيونية في ما تعنيه من اختلاف عن الثقافة التقليدية المكتوبة، فهو في العمق يشكل جزءاً ثانياً، لما كان الغذامي بدأه في "النقد الثقافي: دراسة في الأنساق الثقافية والعربية"، والذي صدر عام 2000، من ممارسة واشتغال جذريين على بعض الظواهر الثقافية وما تنطوي عليه من عيوب نسقية، على اعتبار ان من أبرز أسئلة النقد الثقافي، السؤال المطروح عن تغير الصيغ التعبيرية "وطرائق الاستقبال والتأويل الثقافي وما يمس الثقافة الجماهيرية من تحولات جذرية تؤثر في أساليب التفكير والنظر"، وهو السؤال الذي تطرحه بامتياز ثقافة الصورة. تحضر ثقافة الصورة أو الثقافة البصرية هنا كموضوعة ثيمة مركزية، بصفتها مرحلة ثقافية بشرية "تغيرت معها مقاييس الثقافة كلها، إرسالا ًواستقبالاً، وفهماً وتأويلاً، مثلما تغيرت قوانين التذوق والتصور". فالصورة جاءت بحسب الغذامي لتكسر ذلك الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات، فوسعت من دوائر الاستقبال، "وصار الجميع سواسية في التعرف على العالم واكتساب معارف جديدة والتواصل مع الوقائع والثقافات". إذاً، تغيرت الصورة الثقافية التقليدية التي ظل فيها الأدب وعلى مدى قرون هو "الخطاب الأكثر شعبية عند كل الأمم، وكان هو الممثل الحقيقي لضمير أية أمة وهو العلامة على ثقافتها". وبهذا التغير، ستتغير قوى التأثير الاجتماعية وسيتغير قادة الفكر تبعاً لذلك، "ولن يعود الفلاسفة والأدباء والعلماء هم قادة الثقافة الجماهيرية... وستتخلق قوى قيادية أخرى غير هؤلاء، وهي قوى قد يصعب تحديدها بدقة متناهية كما تعودنا في الثقافة التقليدية". في عصر الصورة نحن بحاجة، كما يكتب الغذامي، إلى التعرف على القيادات الفكرية ومصادر التأثير والتنوير، "وقد لا يكون ذلك محدداً بأشخاص وأسماء، وإنما سيكون عبارة عن نمط كلي متحرك وغير ثابت ويتوسل الصورة لإحداث أثره، ومن ثم فقد تكون الصورة هي القائد الفكري والثقافي، أي أن الوسيلة تكسب قيمة إضافية فلا تكون هي الرسالة - كما يشيع الآن - بالقول إن الوسيلة هي الرسالة، بل ربما تجاوزت ذلك لتكون هي الرسالة والمرسل أيضاً". ومن هنا فثقافة الصورة، التي حلت العين فيها محل الفم والأذن وأخذت دورها كأداة وحيدة فاعلة و"قطعية في الاستقبال"، مثلما هي علامة على التغير الحديث، كما يذكر الكتاب، هي في الوقت نفسه السبب الكامن فيه. المفارقة التي تنجم عن هذا التغير الذي طرأ بسبب الصورة، ان الجماعات المهمشة هي المستهلك الحقيقي للصور، فهي تقضي معظم الوقت في مشاهدة التلفزيون. على أن هذه المشاهدة ليست سلبية تماماً، بل ينتج منها الفعل ونقيضه، وبمقدار ما يقول الغذامي بنمطية أو فحولية الخطاب الإعلامي، وفحولية الصورة، فإنه يقول أيضاً بوجود مهمشين يمثلون جيوشاً بشرية من النقاد ويشكلون ثقافة الاستقبال الواعي والناقد، وهو ما يثير إضافة نوعية، في رأيه، إلى المشهد الثقافي، تكشف عن تعقيد إضافي، نظراً الى أن المنتقدين والمتضررين من الخطاب هم من يستهلكه فعلاً، وهم من يطيل النظر إلى الشاشة. من جهة أخرى يعالج الغذامي جملة من القضايا والمقولات الشائعة، في ضوء الأنساق الثقافية في التصديق والتكذيب والقوانين التي يستند إليها النسق في عملية الاستقبال وتأويله للمادة المستقبلة، فيسعى إلى تقديم نقيض ما تقدمه دراسات عن الصورة، وما أصبح متعارفاً عليه بصفته البديهية، مثل مقولة "الغزو الثقافي"، وهو يؤكد انها مقولة واهمة هدفها المبالغة في تخويف الذات "والذي يحدث غالباً أن الناس يمنحون بعض المظاهر الثقافية الشكلية، قيمة جوهرية ليست لها، فيظنون أن التغير في الملبس والمأكل والذوق الفني هو من الأشياء الخطيرة حتى لكأن تسريحة الشعر ونغمات الموسيقى وفطائر الجبن هي جوهريات مقدسة، وكلما حصل تغير حسبوه غزواً ثقافياً، بينما الحقائق تؤكد أن الجوهريات الثقافية لها من القوة والقدرة على المواجهة ما هو كاف للتحدي". ويكشف صورة العري بصفته علامة ثقافية وبصرية يجرى تسويقها والتركيز على كشفها، بصورة أخرى ناقضة لها هي صورة التحجب "حيث تتزايد صور المحجبات في الفضاء الثقافي العام... في صورة تتناسخ مع الموضات العارية". ويشير الغذامي الى أن ما نشهده هو صراع عملي للأنساق، "بين حداثة تكنولوجية تتجرد لخدمة النسق الفحولي واستلاب الخطاب الإعلامي لتهيمن عليه، وثقافة تأخذ مجالها في الرفض وترفع صوتها القوي والمسموع". ويمضي في تلمس سيرة الثقافة البصرية، بصفتها متغيراً جذرياً في فعل الاستقبال والتأويل، عبر التمعن في مفعول الصورة كخطاب ادعاء "مما يخلق قبولاً أولياً ثم سرعة قيام الصور النقيضة مما يخلق رفضاً تراجعياً". ويقدم الغذامي في فصل "الثقافي والتفاهي" قراءة لبرنامج "سوبر ستار"، بصفته صورة بصرية "ذات مخزون تأويلي كاشف". فالبرنامج أثيرت حوله ردود فعل كثيرة وخصوصاً من المثقفين، وكانت في غالبيتها ضده واتهمته بتكريس انحدار القيم والذوق. أما ثنائية "الثقافي والتفاهي"، فهي ثنائية رمزية وليست واقعية، "ترمز إلى حرب باردة تقع بين نسقين ثقافيين، اكتشف أحدهما فجأة أنه لا يمثل الجماهير وقد كانت هذه دعواه من قبل". أو إلى معركة طبقية داخل النسيج الثقافي. معركة بين النخبة التي كانت تحتكر حقوق التعبير وترفض الطارئ والجديد والشبابي، بكونه مخالفاً للقياس الذوقي المؤسساتي وبين هذه الفئات بصفتها طارئاً ثقافياً. في فصل عن "الخوف من الصورة"، يتطرق الغذامي إلى الصورة كأداة كشف وتعرية، من حيث قدرتها على الإثارة والسخرية والفضح وإعادة انتاج الحدث الاجتماعي بإخراج فني منتقى ومكثف. ويستشهد بأكثر من حادثة للتدليل على الخوف من الصورة. كما يستدعي الخوف الأسطوري من الصورة وتحريمها، ويقول إن البشرية تظل تنتج الصور وتستعملها "ليس للمتعة فحسب ولكن أيضاً لتخوين الأعداء وإنتاج حال من الرعب". ويرى أن كل صاحب صورة طاغية تنتكس الصورة عليه، فالصورة تسحر أو تأكل صاحبها بالتدريج "إذ يجرى كشف كل سر فيه، سواء الأسرار الجسدية أو النفسية، حتى لا يبقى فيه شيء خفي...". ومثلما فتحت الصورة "مجالاً تعبيرياً عريضاً" لفئات بشرية واسعة لكي تفصح عن نفسها، فإنها أيضاً شكلت نحويتها الخاصة وهي تختلف عن النحوية التقليدية، إذ تعكس التغير الحاصل في قوانين "صناعة الدلالة وقوانين التأويل والفهم"، وتنهض على خمسة أسس تتحكم في شروط الاستقبال، يعددها الغذامي كالآتي: أولاً: إلغاء السياق الذهني للحدث، أي "عزل العلاقة المنطقية التقليدية في الارتباط بين الأسباب والنتائج"، فالمشاهد وقد تحول من مستمع وقارئ بحسب النمط القديم لم يعد في حاجة إلى تلك العلاقة، و"الاستغناء عن الكلمات كشرط للفهم في استقبال الصورة ادى إلى عزل اللغة ثم أدى إلى إلغاء السياق". ثانياً: السرعة اللحظوية: لأن الذهن وقد صار مستلباً من الصورة وخاضعاً لمؤثراتها البصرية، فإنه لن "يجد وقتاً للتفكير أو الاستدعاء التقليدي". ثالثاً: التلوين التقني. فالألوان حلت بديلاً من التشبيه والاستعارة والكناية والمحسنات اللفظية، وجاءت "لتلعب الدور الأكبر في رسم الدلالات وتحقيق التأثير بأقصى درجاته". أما رابع هذه الأسس، فهو تفعيل النجومية وتحويل الحدث إلى نجومية ملونة. والحدث لا يكون هنا قصة أو رواية، بل حدثاً تكنولوجياً "ذا ألوان ويعتمد على المؤثرات الجانبية والإبهار البصري حتى لتصبح الموسيقى في قاعات العرض وكأنها انفجارات كونية". خامساً: القابلية السريعة للنسيان إلغاء الذاكرة. فتعاقب الصور في شكل كثيف يجعل بعضها يلغي البعض الآخر، "وذلك لأن الجديد كثيف وقوي في سرعته وفجائيته وفي قوة لغته التأثيرية". ويؤكد الغذامي أن الثقافة التي تتمكن من إنتاج صور جديدة، بحسب النحوية الجديدة، هي وحدها التي سيكون في مقدورها تحقيق موقع آمن لها. في فصل بعنوان "الإرهاب بوصفه صورة"، يتناول الغذامي، الصورة الشهيرة، صورة الطائرتين اللتين اخترقتا برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ويقول عنها انها صورة نسخت كل ما سواها من صور، "وصارت المصدر التأويلي لكل ما بعدها". ويطرح أن نظرية الثقافة البصرية والتأثير البصري في استقبال الصورة كانت من أهم العناصر في تخطيط الإرهابيين، وأن المستهدف الأميركي سعى في المقابل، إلى توظيف تلك الصورة في شكل يضمن له تحقيق أكبر قدر من التأثير. "وهذا يعني أن الطرفين كانا يمارسان لعبة الإخراج والمونتاج من أجل انتاج تأثير خاص تحدثه صورة البرجين وهما ينفجران". ويرى أن صورة تهشم البرجين، عملت على تهشيم قوانين التأويل في الثقافة البشرية "وهي قوانين كانت تعتمد المنطق كأساس لتفسير الأحداث". ويرى في فصل آخر، "تأنيث الصورة التلفزيونية للعلامات الاجتماعية في اللباس واللغة ولغة الجسد" أن صورة التأنيث أو التخنث أصبحت بارزة لدى الذكور مثلما هي عند النساء، حتى ليجري تشابه تام بين تسريحات الشعر وإطلالات الوجوه وحركة الأجساد والملابس والغنج بين الشبان والشابات". وأخيراً لا بدّ من الإشارة الى أن كتاب "الثقافة التلفزيونية" لم يذهب بعيداً في الإقناع من خلال النماذج والأمثلة التي طرحها وأرادها أن تكون نقضاً لما يتداوله المهتمون من الدارسين العرب بخطاب الصورة. فهو يقول بسقوط النخبة وانتهاء دورها، ثم يعود في خاتمة الكتاب ويذكر أن النخبة ازدادت هيمنة ونخبوية، ويخلص إلى ان "الغزو الثقافي" مقولة واهمة. ثم يؤكد ان البشرية آخذة في التأمرك تدريجاً، وأن الثقافة المحلية تحمي نفسها من الغزو الثقافي والذوقي، كما في حال فرنسا مع الحجاب. كثير من الأمور التي يطرحها الغذامي كصور نقيضة، أصبح القارئ وحتى المشاهد الذي ينتمي إلى من وصفهم بالجماعات المهمشة، على معرفة بها، من دون كبير حاجة إلى قراءة النقد الثقافي. ربما لم يبق الكثير ليكشفه الغذامي في هذا الكتاب، الذي تميز ببعض التكرار في بعض فصوله، بغية التشديد بتصميم وحماسة واضحة وبنبرة واثقة على بعض النتائج التي يخلص إليها، إنطلاقا من قراءاته في النسق المضمر.