تفجر الجدل مجدداً في مصر حول "عقيدة المهدي المنتظر" بعد مصادرة الأزهر كتاب "الإمام المهدي واليوم الموعود" لمؤلفه الشيخ خليل رزق، الذي يشرح فيه مذهب الشيعة في شأن الإمام المهدي. وهو موضوع شائك اختلف علماء المسلمين حوله كثيراً. وقد تزامن صدور الكتاب ومنعه مع حركة مقتدى الصدر وجيش المهدي الذي هيمن على مدينة الصدر ببغداد وعلى حضرة الإمام علي في النجف الأشرف. وحركات المهدي والمهدوية في الاسلام تضرب جذورها في التاريخ. وقد ادعى عشرات الأشخاص انهم المهدي المنتظر أو نائبه أو بابه أو من مريديه واتباعه الذين ينتظرون ظهوره من مخبئه "ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ان ملئت ظلماً وجوراً". تعني كلمة المهدي الذي هُدي فصار "هادياً"، يهدي الناس الى الحق ويقودهم في الطريق المستقيم، مع ان الكلمة لم ترد في القرآن ولا في اللغة العربية قبل الاسلام. واستخدمت هذه الكلمة للمرة الأولى في صدر الاسلام، للاشارة الى من اختصه الله لهداية الناس. وبهذا المعنى، تشير الى الخليفة أو الإمام. وقد تطورت الى مفهوم ديني واجتماعي/ سياسي واتخذت معنى وخصوصية في الحديث والسنة، كما ارتبطت بصورة خاصة بفكرة الإمامة والعصمة والغيبة والرجعة عند الشيعة الإمامية. سوسيولوجياً، لا يمكن لمثل هذا المفهوم ان يظهر في الجزيرة العربية قبل الاسلام لعدم ضرورته في مجتمع قبلي ورعوي لا توجد فيه دولة أو سلطة سياسية. وعموماً فإن فكرة المهدي المنقذ تظهر غالباً في المجتمعات الحضرية المستقرة، لا البدوية المترحلة. وقد اهتمت كتب الحديث و"أسفار التأويل" التي تُعنى بالعودة الى الأصل، بمؤشرات ظهور المهدي المنتظر كمنقذ الهي ومخلص من الشرور والآثام. وأشارت كتب الحديث الاسلامية الى أن المهدي من قريش، وانه من أهل البيت ومن صلب علي وفاطمة، ويظهر عندما يأتي زمان على الناس يضعف عندهم الإيمان وتنهار القيم ويعم الظلم والفساد والحروب وتنتشر الفتن والكذب والدجل، فيبدأ الناس بالاستغاثة للتخلص من هذا البلاء. وعندما يظهر المهدي ينقذ العالم من الظلم والشر وينشر العدل ويعيد الحقوق الى نصابها وينتصر على الظالمين. وحسب الأحاديث الشيعية انه لا تقوم الساعة حتى يبعث الله رجلاً من أهل البيت ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويدعى المهدي، كما يهبط السيد المسيح عيسى بن مريم ليقتل الدجال ويصلي مع المهدي. وقد وجدت هذه الأحاديث تربة خصبة مع التحولات التي حدثت بعد عقود قليلة على ظهور الاسلام وتردي الأوضاع الفعلية التي عاشها المسلمون تحت حكم الأمويين الذين حولوا الخلافة الراشدة الى حكم وراثي عضوض. وكانت أولى الحركات المهدوية هي الكيسانية التي آمنت بعودة محمد بن الحنفية كمهدي منقذ ثم محمد النفس الزكية. وكان للاسماعيليين والقرامطة والشيعة الاثني عشرية مهديهم أيضاً. وكانت سياسة الحجاج بن يوسف الثقفي القمعية في العراق قد أدت الى حركة تذمر واحتجاج ضد الخلفاء الأمويين، دفعت بعض خطباء المساجد في البصرة والكوفة وغيرهما الى انتظار من يخلصهم من الظلم والجور. ففي مخطوطة قديمة ليوسف بن يحيى الدمشقي المتوفي عام 1126، كتب عن أمل المسلمين في انتظار إمام مهدي ينقذهم من الأوضاع المزرية وتساءل: أين المنقذ؟ ثم قال: "ولكن ربما ستتغير الأحوال وتأتي النهاية السعيدة بظهور امام مهدي ينقذ الأمة من الظلم والجور". وبعد قرن كتب عبدالله الكنجي المتوفي عام 1219، في كتابه "البيان في أخبار صاحب الزمان"، عن الأوضاع السيئة التي يعيشها المسلمون وانتظارهم الإمام المهدي الذي ينقذهم منها. وقد شكلت القطيعة التي حدثت بين شريعة السماء وبين ما يحدث في الواقع المزري، تربة خصبة لإمكان تطور ونمو فكرة الأمل المنقذ ك"طوبى" يمكن أن تحقق مجتمعاً أكثر عدالة وسعادة في الأرض. ويشير علماء الاجتماع الى أن فكرة الأمل المنقذ تعبير عن "الجنة على الأرض" التي يحلم بها البؤساء والمظلومون في الأرض. وأشار الخليفة الفاطمي عبيد الله عام 934 الى ان الجنة "ليست سوى هذه الأرض بمسرّاتها". وهو بهذا رسم "طوبى" خيالية للناس تتوجه لتحقيق شكل من التنظيم الاجتماعي الذي يفترض تجسيد عالم مثالي مطلق. مثل هذا التصور الطوبوي نجده عند جميع الشعوب والمجتمعات، منذ قديم الزمان وحتى الآن. وأياً كانت اشكاله ومحتوياته وأهدافه فإنه يمتلك سمات مشتركة تهدف الى مواجهة القيم المهيمنة في المجتمع التي تنشأ فيه، وكذلك السلطة القائمة، وتقود القائمين والتابعين لها الى أقصى درجات التعصب والحماس لما يعتقدون به. كما تأخذ الطوبى المهدوية ابعاداً عدة منها التوجه النرجسي الذي يسيطر على المجتمع المغلق والقيادة الكاريزمية. وفي الوقت الذي تحلم فيه بعض الطوبويات بمجتمع الوفرة والرفاه تتجه أخرى نحو الزهد والتقشف. ومن السمات المشتركة بينها عدم الرضا والتذمر من الشروط والظروف الاجتماعية القائمة، التي هي مصدر حركتها التي تهدف الى هدمها واعادة بنائها وفق أهدافها المثالية. لكن حين تتحول تلك الأهداف الى واقع تتحول الطوبى المثالية الى ايديولوجية واقعية. وتتخذ الطوبى لها مرجعية أخلاقية ترفض كل ما هو قائم ولا تمنحه أية شرعية لأنها تتجه الى ما هو مثالي لنفي ما هو واقعي. وهكذا فالطوبى نفي للعالم، وإذا كانت لا ترسم مشروعاً متكاملاً للتغيير، فانها تكتفي بأن تكون نموذجاً نظرياً يسمح بفهم تطور المجتمع ونموه وتغيره. لذلك فهي تعبر في الواقع عن نقد ما هو كائن وتصور ما ينبغي ان يكون حتى لو كان خيالياً. ولذلك تكمن دلالتها الجوهرية في التعبير عن أحلام المحرومين الذهبية التي هي رد فعل على بؤس الحاضر وزيفه. وفي تراث الشعوب وأساطيرهم أمثلة عديدة على انتظار ظهور مخلص ومجيء "عصر ذهبي" كان قد مضى ، لكنه ما زال حياً في الذاكرة الشعبية، كأحلام جميلة لعصر ينبغي أن يعود. فاليهود ينتظرون ظهور النبي داود ليعيد بناء اسرائيل من جديد، والمسيحيون ينتظرون ظهور عسى بن مريم الذي يخلص البشرية من الآلام والآثام، وغيرهم كذلك. والحال ان مبدأ الأمل المنقذ يعيش بالطبع من سلبية الحاضر وينمو في تربة خصبة وغنية بالتوتر.