يواصل مركز الفنون في مكتبة الإسكندرية إصداراته المتتالية في سلسلة دراسات سينمائية التي أثارت بصدورها الجدل حول الكثير من قضايا السينما، لكن هذه المرة يقدم وجهاً آخر، هو النقد السينمائي في صورته المعاصرة المتعددة المناحي. المواضيع المنشورة في الكتاب لنقاد سينمائيين من مدارس مختلفة، تعكس رصانة النقد السينمائي في الصحافة البريطانية، ودوره في إلقاء الضوء للقارئ على ما في السينما المعاصرة من ايجابيات وسلبيات. وهو ما يعكس دقة اختيارات أمير العمري مترجم المقالات. من المواضيع الشيقة في الكتاب دراسة غرايم تيرنر عن صناعة الفيلم الروائي بين الأمس واليوم، وهي مترجمة من كتابه "الفيلم كممارسة اجتماعية" وهو يذكر أن الفيلم الروائي لم يعد له دور بارز في نطاق الثقافة الغربية كما كان في الثلاثينات، لكنه لا يزال منتشراً. الآن من النادر أن يقدم الفيلم الجماهيري إلى الجمهور كسلعة أو كمنتج فردي، بل يقدم عادة كسلعة مركبة، فتشمل تذكرة العرض ثمن شراء قميص من نوع "فلاش دانس" للفيلم الذي يحمل العنوان نفسه، أو شراء دمية رامبو مثلاً. وهكذا لم يعد الفيلم نتاجاً لصناعة مستقلة قائمة بذاتها، بل احدى السلع التي تنتجها الاحتكارات الكبيرة المتعددة الجنسيات التي قد يتركز اهتمامها الأساسي على صناعة الأجهزة الالكترونية أو المنتجات البترولية، إضافة إلى الأفلام السينمائية. ومما يلفت الانتباه إليه تناقص جمهور السينما، وازدياد حمى التنافس بين المنتجين على ذلك الجمهور المتناقض، ووقعت متغيرات كثيرة في حقل السينما أثرت بدورها في الوضع المتميز للفيلم في السياق الثقافي، ومنها: تركز صناعة السينما على إنتاج الأفلام المبهرة الضخمة التكاليف التي تضم أسماء النجوم الكبار ويتم توزيعها على نطاق عالمي كبير. كان النجاح التجاري لفيلم "سبارتاكوس" الذي يصور ثورة العبيد السود في الدولة الرومانية، منطلقاً ليبرز هنري شيهان رؤيته لصناعة مخرج الفيلم ستانلي كوبريك لبطل فيلمه سبارتاكوس الذي حصل على حريته في حلبة المصارعة. مشاهد الفيلم تعكس نجاحاً في تقديم رؤية متكاملة بين إمكانات المخرج وبراعة المونتير روبرت لورنس، فمشاهد العبيد أثناء تدريباتهم القاسية على المصارعة من أفضل مشاهد الفيلم. لكن عظمة هذه المشاهد تكمن في المونتاج وفي السرد المقتصد، وهو ليس من وسائل كوبريك المفضلة. وهنا يقارن الناقد بين هذه المشاهد، وبين الخمسة والأربعين دقيقة الأولى في فيلم كوبريك "خزانة رصاص كاملة". ففي مشاهد خزانة رصاص، التي نرى فيها كيف تتحول مجموعة من المجندين الأميركيين على يد مدرب في قوات مشاة البحرية إلى أدوات للقتل، يستخدم كوبريك طريقة المونتاج البطيء التفصيلي. لكن لا تمتلك كل لقطة على حدة قوتها من احتوائها على عناصر خاصة بها تساهم في تصعيد البناء بقدر ما توظف اللقطات المتحركة التي تستعرض طبيعة المكان للسخرية من النشاط العسكري للجنود الشبان. أما مشاهد التدريب في فيلم "سبارتاكوس" فهي أكثر رقة ووضوحاً. ويأتي مصدر القسوة فيها من استخدام التدريبات وليس من التدريبات نفسها. فسرعان ما يستخدم العبيد الجدد مهاراتهم الحربية ضد أسيادهم. ولا يتكرر إيقاع هذا المشهد أبداً في أي فيلم من أفلام كوبريك التالية. وعلى رغم أن مونتير الفيلم يرجع إليه الفضل في التوصل إلى الإيقاع العام للمشهد وشكله، إلا أن دور المخرج وبصمته كانا واضحين في هذه المشاهد. لعل رؤية الغرب للشرق هي من القضايا الملحة التي كثيراً ما تخلق جدلاً، وأبرز مثال على ذلك الرؤية الغربية للهند من خلال السينما. وقد تناول الناقد ديريك مالكوم ذلك في مقالة نشرها في مجلة موفز Movies يرى فيها أن الهند والهنود في حقبة ما بعد العصر الاستعماري باتوا شديدي الحساسية تجاه السينمائيين الذين يصنعون أفلاماًَ عنهم، ولعل ما أثير من ضجة حول فيلم "مدينة المرح" يشكل مثالاً نموذجياً على ذلك. تعتبر الرواية التي اقتبس عنها الفيلم تلخيصاً متزمتاً وعميقاً لمأزق سكان الأحياء الفقيرة في مدينة كلكوتا، وهي رواية لا تعير التفاتاً كبيراً إلى النواحي الدينية في الفكر الهندي وما إلى ذلك. لكن تأكيدات المخرج رولاند جوفي كما يذكر الناقد، بأنه لن يتعرض الى هذا الجانب، لم تكن كافية لتهدئة المخاوف. وهو ما خلق في رأي الناقد شكاً في الهند تجاه السينمائيين الغربيين، وهنا تبدأ المفارقة التي يراها الناقد، فالهند التي ترغب في تشجيع تصوير أفلام أجنبية على أرضها، على الأقل لأسباب اقتصادية، تنتقد باستمرار هذه الأفلام تحت شتى الذرائع. وربما انتهج الانكليز السلوك نفسه إذا ما جاءت هوليوود الأميركية القوية الى بريطانيا وصنعت سلسلة من الأفلام يقوم ببطولتها أميركيون بينما يلعب البريطانيون فيها أدواراً ثانوية. فقد ظهرت صورة بريطانيا في الجزء الثاني من فيلم "ثلاثة رجال وطفل" على سبيل المثال كجزيرة صغيرة غريبة مملوءة باللوردات الغريبي الأطوار وبالسيدات اللواتي يعانين الحرمان العاطفي، وبالتالي أصبح البطل وزملاؤه مبعوثي العناية الإلهية بالنسبة اليهن. ويؤكد مالكولم أن هذه الأخطاء الشائعة المتعمدة التي يعترف بها أصحابها، مارسها في الهند باستمرار الكثير من الأجانب بمن فيهم البريطانيون الذين يتعين عليهم أن يعرفوا في شكل أفضل حقيقة الواقع في الهند لأنهم حكموا تلك البلاد زمناً طويلاً. كانت المعجزة كما يذكر مالكولم عندما تمكن ريتشارد اتنبوره من تصوير فيلم "غاندي" في الهند من دون أن يوجه له أي نقد، ويعود ذلك برأيه الى كون اتنبوره ديبلوماسياً وليس فقط مخرجاً سينمائياً، فقد كان صديقاً لأسرة غاندي وقدم صورة رقيقة للمشهد الهندي بغض النظر عما يحيط به من حرارة وقذارة وذباب وفقر. ... كل شيء ما عدا الأفلام ويرى ديفيد روبنسون في مقالته "إشارات من الصين تلتقط في القاهرة"، أن المهرجانات تصنع أفلاماً، والأفلام تصنع مهرجانات. والمهرجان الوحيد في الشرق الأوسط الذي ينظم مسابقة دولية، وهو مهرجان القاهرة، بدا في عامه السادس عشر، وكأن لديه كل شيء ما عدا الأفلام. انه مهرجان كبير، متألق، مضياف، جمهوره المحلي شديد الحماسة، لكن كانون الأول ديسمبر شهر سيئ بالنسبة الى الأفلام. فحصاد العام من الأفلام يكون قد استهلك بالفعل من المهرجانات السابقة، ويدخر المنتجون أفضل ما لديهم من أفلام على أمل الاشتراك بها في برلين أو كان. ومع ذلك، خرج مهرجان القاهرة منتصراً في العام 1992 بفائز حقيقي بهرمه الذهبي. هو فيلم "الذين تركوا في الخلف" الذي عرض يومذاك للمرة الأولى خارج الصين. ولقد أتى فوزه في القاهرة مؤشراً فورياً على موهبة متميزة، وروح جديدة في السينما الصينية، ما جعله يعد بأن يصبح واحداً من أكبر الاكتشافات السينمائية في العام 1993. الشخصية الرئيسة في هذا الفيلم الذي أخرجه هيوانج امرأة شابة يعمل زوجها في سان فرانسيسكو وينتظر أن تلحق هي به في الموعد المحدد. تلتقي المرأة بسائق تاكسي يرعى ابنه الصغير بينما تعمل زوجته في طوكيو. المرأة والرجل يشعران بالقلق ويتشككان في مدى إخلاص كل منهما للآخر في المهجر. وهما في الوقت نفسه ينجذبان إلى بعضهما بعضاً على رغم شعورهما بالذنب. بالنسبة الى السينما الصينية يعكس الفيلم انفتاحاً جديداً رائعاً على رغم ندبات مقص الرقيب في أجزاء من الحوار. هذا جانب من الصين الحمراء المعاصرة لم يشهد له الغرب مثيلاً من قبل. إن شنغهاي التي يصورها هيوانج لا تسكنها نماذج اجتماعية، لكن كائنات إنسانية، نشعر بالحب تجاهها بسبب اخفاقاتها. إنها شخصيات تتحرك في عالم من الحانات والملاهي الليلية والشقق السكنية وردهات الفنادق حيث يلتقط السياح الأجانب الفتيات. أنهم سائقو تاكسيات، ساقون في الحانات، مديرون، أناس مفتونون بالعالم خارج الصين وخائفون منه في الوقت نفسه. كل هذه الشخصيات مرسومة برقة، وبمرح خبيث حلو، وبفهم مدهش من جانب مخرج شاب إلى هذا الحد.